الجهاد على الطريقة الأمريكية

منذ 2005-04-10
ألقى الرئيس جورج دبليو بوش, في مناسبة إعادة تنصيبه لولاية ثانية, خطاباً مختلفاً عن خطابات كل الرؤساء الذين تعاقبوا قبله على مقعد الرئاسة الأميركية -وعددهم 42 رئيساً- منذ نشأة الولايات المتحدة الأميركية عام 1789, والذين اعتادوا أن يلقوا في مثل هذه المناسبة المهمة خطابات احتفالية ترسم الملامح العامة للبرنامج السياسي الذي ينوون تنفيذه على الصعيدين الداخلي والخارجي خلال فترة ولايتهم المقبلة.

فقد اختار بوش أن يلقي هذه المرة, بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن المحافظين الجدد, خطابا تبشيريا أقل ما يقال عنه إنه إعلان حرب أو "مانفستو للجهاد" على مذهب اليمين الأميركي المتطرف.

ولا شك عندي في أن هذا الخطاب شكل صدمة لكل هؤلاء الذين تمنوا أن يكون جورج بوش قد تعلم من الأخطاء التي ارتكبتها إدارته خلال فترة ولايته الأولى, وأملوا أن تكون السنوات الأربع المنصرمة قد أكسبته خبرة جعلته أكثر نضجاً وحكمة, وبالتالي أكثر تأهيلاً لقيادة العالم نحو طريق أكثر أماناً واستقراراً.

فقد خلا الخطاب من أيّة كلمة يستشف منها اعتراف بوش بارتكابه أي خطأ, أو يستفاد منها استخلاصه لأي درس من تجارب الماضي.

بل إن هذا الخطاب لم يشر من قريب او بعيد إلى أي من الحروب التي كان قد أعلن شنها خلال ولايته الأولى على أفغانستان والعراق, أو يحدد جدولاً زمنياً لانسحاب قواته التي ما تزال منغمسة حتى أذنيها في أوحال القتال في تلك الأراضي البعيدة, ولم يذكر فيه كلمة واحدة يستفاد منها أنه بدأ يدرك حدود استخدام القوة العسكرية أو جدوى اللجوء إلى الأساليب السياسية والدبلوماسية لحل المشكلات الدولية. أما أحداث أيلول (سبتمبر) 2001, وهي الأحداث التي منحته فرصة عمره وحوّلته من مجرد رئيس مشكوك في شرعيته إلى زعيم عالمي يشبهه معجبوه الآن بالاسكندر الأكبر, فقد تعمد عدم الإشارة إليها بالاسم, مفضلا استخدم لفظ "يوم النار" أو "يوم الحريق" للدلالة عليها.

وفي تقديري أننا نرتكب خطأً بالغاً إذا ما تعاملنا مع هذا الخطاب بنوع من الاستخفاف, بدعوى أنه خطاب احتفالي لا يتضمن تحديداً لسياسات أو برامج وإنما مجرد مبادئ عامة تغلب عليها مسحة مثالية قد تستدعيها حماسة بلاغية عارضة أو غير مقصودة. فالواقع أن الأمر ليس كذلك على الإطلاق؛ ذلك أن الخطاب الذي نحن بصدده ليس مجرد خطاب حماسي ألقي في مناسبة احتفالية, وإنما هو خطاب بالغ الدلالة والأهمية, وصيغ بعناية فائقة ومقصودة.

فمايكل جيرسون, كاتب بوش المفضل, هو الذي أعده, وقام بوش بقراءته وتعديله 21 مرة قبل أن يستقر على صيغته النهائية التي ألقاها في حفل تنصيبه بالكونغرس يوم 20 من الشهر الجاري.

ولأن الخطاب يعكس بوضوح كامل رؤية اليمين الأميركي المحافظ ويعبر عن أجندته السياسية على الصعيدين الداخلي والخارجي, فمن الواجب أن نتعامل معه بأكبر قدر من الجدية وأن نعكف منذ الآن على دراسته وتحليله بدقة متناهية, خصوصاً وأن هناك أموراً ثلاثة تلفت النظر في هذا الخطاب:

الأمر الأول: يتعلق بتحديده للقضية المركزية التي ترى الإدارة الأميركية أنها أصبحت تشكل أهم مصدر لتهديد الأمن القومي الأميركي. وربما يدهش المرء كثيراً حين يكتشف أن أكثر الكلمات ترددا في خطاب التنصيب هذا ليست "الإرهاب", مثلما كان عليه الحال في خطابات بوش السابقة, وإنما "الاستبداد".

وهكذا أصبح الاستبداد, وليس الإرهاب, أهم مصادر تهديد الأمن القومي الأميركي في المرحلة الراهنة. وربما يلمح البعض في هذا التجديد إيذاناً بتغير ملموس في توجهات السياسة الخارجية الأميركية. غير أن الأمر ليس كذلك على وجه الدقة.

نعم: يكون هناك بعض التغير, لكنه من نوع التغير الذي لا يمس المضمون أو التوجهات العامة والاستراتيجيات بقدر ما يمس الوسائل والأساليب والتكتيكات المزمع استخدامها في المرحلة القادمة.

فما زال اليمين الأميركي, والذي يتحدث بوش باسمه, يرى أن الإرهاب هو الخطر الرئيسي, لكنه بدأ يدرك بوضوح أكثر في الوقت نفسه أن هذا الإرهاب ليس سوى عرض لمرض هو الاستبداد, وأنه من المفيد الآن التركيز على معالجة المرض ذاته وليس العرض, أي معالجة أصل الداء وعدم الاكتفاء بمحاصرة الأعراض الدالة عليه أو الناجمة عنه.

ولا جدال عندي في أن اليمين الأميركي المحافظ الذي يحكم الولايات المتحدة الآن بات مقتنعاً كل الاقتناع بأن الإرهاب الذي ضرب واشنطن ونيويورك في أيلول (سبتمبر) من عام 2001 هو نبت الاستبداد وحده، وليس نتاجاً لأي شيء آخر.

الأمر الثاني: يتعلق بتحديده لوسائل مواجهة هذا التهديد. فلم يكن الخطاب المشار إليه واضحاً في شيء قدر وضوح اقتناع الإدارة الأميركية بأن القضاء على الإرهاب لا يكون إلا باستئصال التربة التي أنبتته, أي بالقضاء على نظم الحكم الاستبدادية التي تستعبد شعوبها وتخضعها بالحديد والنار ولا تشركها في صنع القرار, والسعي لإحلالها بنظم حكم ديمقراطية ترسي آليات واضحة لتداول سلمي للسلطة.

صحيح أن الخطاب يؤكد على أن الولايات المتحدة لن تحاول تحقيق هذا الهدف بقوة السلاح, فضلاً عن أنها لن تفرض طريقتها في الحكم على الآخرين, لكنه أكد في الوقت ذاته على أنها -أي الولايات المتحدة- "لن تتجاهل الاضطهاد ولن تعذر المستبدين" وستساعد المناضلين من أجل الحرية والديموقراطية, والذين تعتبرهم "القادة المقبلون لبلادهم الحرة".

ومع ذلك فالخطاب لم يستبعد أبداً استخدام القوة العسكرية, فقد قال بوش بالحرف الواحد "إننا سندافع عن أنفسنا وعن أصدقائنا بقوة السلاح إذا اقتضى الأمر".

والأمر الثالث: يتعلق بالحيثيات التي استند إليها الخطاب سواء لتحديد طبيعة الخطر ومصدره أو لاقتراح أساليب مواجهته. فقد ربط الخطاب بشكل عضوي بين الحرية والديموقراطية والسلام في الولايات المتحدة وبين الحرية والديموقراطية والسلام في العالم, مؤكداً على أنه إذا كانت سيادة الحرية والديموقراطية أمراً ضرورياً لتحقيق السلم الداخلي, فإن نشر الحرية والديموقراطية في الخارج أمر لا يقل ضرورة لتحقيق السلم العالمي.

يقول بوش في خطاب تنصيبه: "تقودنا الأحداث والمنطق إلى نتيجة واحدة وهي أن المحافظة على الحرية في بلادنا يعتمد على نحو متزايد على نجاح الحرية في البلاد الأخرى. فأفضل أمل للسلام هو نشر الحرية في كل بلاد العالم".

وكان من اللافت للنظر حرص بوش كذلك على محاولة إزالة أي تناقض محتمل في إدراك المواطن الأميركي بين مبدأ نشر الديموقراطية والحرية في العالم وواجب الدفاع عن المصالح الأميركية في الخارج, مؤكداً على أن نشر الحرية والديموقراطية في العالم هو في حد ذاته مصلحة أميركية, فكليهما وجهان لعملة واحدة, ولا يمكن أن يثور بينهما أي تناقض, خصوصاً على المدى الطويل.

وفي هذا السياق أراد بوش إعادة تأكيد عزمه على عدم الوقوع في نفس الخطأ الذي وقعت فيه الإدارات السابقة, حين تسامحت مع المستبدين بدعوى الحفاظ على المصالح الأميركية في الخارج.

وفي تقديري أن القراءة المتأنية لهذا الخطاب الكاشف تفضي إلى أربع نتائج رئيسية:

الأولى: أن الإدارة الأميركية مصممة على اتباع سياسة تدخل نشطة, وليس لديها أيّة نية للإنطواء أو الانكماش او العزلة. أما مبرراتها للتدخل فقد اصبحت فضفاضة وخاضعة لتقدير ذاتي لا علاقة له بالقانون أو بالأعراف والتقاليد الدولية.

فهي لم تعد بحاجة إلى وقوع عدوان أو تهديد أو الشروع في برامج لامتلاك أسلحة الدمار الشامل, أو حتى مساعدة الإرهاب, وإنما تكفي تهمة الاستبداد أو الامتناع عن القيام بما يكفي من الإصلاحات السياسية المطلوبة لتبرير تدخلها.

الثانية: أن هذه الإدارة تعتقد أن نشر الديموقراطية في العالم بات مسؤولية أميركية وليس مسؤولية دولية. إذ يلاحظ أن خطاب التنصيب لم يشر من قريب أو بعيد إلى دور للأمم المتحدة أو للمؤسسات العالمية وتجاهلها تجاهلاً تاماً وكأنها غير موجودة بالمطلق. صحيح أن بوش بدا في هذا الخطاب وكأنه يحاول التصالح مع أوروبا ويغازلها, من خلال الإشادة بدرورها في دعم الديموقراطية في العالم, لكنه لم يكن في الواقع يبحث عن شريك أو حتى حليف بقدر ما كان يبحث عن تابع أو معين. فبوش يسعى لاستعادة أوروبا للعمل معه بشروطه هو, أي بشروط اليمين الأميركي المتطرف ووفقاً لأجندته السياسية والأيديولوجية, وليس وفق الأجندة الأوروبية.

الثالثة: أن العالم العربي والإسلامي بات المستهدف الأول وربما الوحيد من سياسة التدخل هذه. صحيح أن النظم الاستبدادية, حتى من وجهة النظر الأميركية, موجودة في مناطق وأقاليم أخرى من بينها روسيا الاتحادية والصين, لكن المؤكد أنه لن يكون بوسع الإدارة الأميركية, وربما ليس في نيتها, أن تفعل شيئاً لحمل أي من هاتين الدولتين الكبيرتين على تغيير سياستهما أو التدخل المباشر في شؤونهما الداخلية.

صحيح أنها ستستمر في محاولة حصارهما وتضييق الخناق عليهما بالتدخل في شؤون الدول المجاورة, لكنها لن تقدم على اي عمل من شأنه استفزازهما على نحو قد يؤدي إلى صدام أو أزمة حادة معهما. المنطقة الوحيدة المرشحة للتدخل الأميركي المباشر بكل الوسائل المتاحة, بما في ذلك احتمال استخدام القوة المسلحة على نطاق واسع قد يتضمن شن الحروب الشاملة, هي "منطقة الشرق الأوسط الكبير أو الموسع" وهو المصطلح الأميركي البديل للدلالة على العالمين العربي والإسلامي. ولا جدال في أن الضغوط ستزداد على كل الدول الأطراف في مبادرة "الشرق الأوسط الموسع" من أجل القيام بالإصلاحات المطلوبة أميركياً.

بل وليس من المستبعد إطلاقاً, وهو ما أكدنا عليه مراراً وتكراراً من قبل, قيام الولايات المتحدة بعمل عسكري يستهدف إسقاط النظام في كل من إيران, وسوريا, في أيّة لحظة يبدو فيها هذا الهدف قابلاً للتحقق بتكلفة سياسية وبشرية معقولة أو محتملة من منظور الداخل الأميركي!.

الرابعة: إن إسرائيل ستصبح في وضع يسمح لها بإقناع الولايات المتحدة بأيّة سياسة تريدها, وبالتالي تمرير هذه السياسة وحمايتها دولياً, بصرف النظر عن مدى اتساقها مع المثل الأخلاقية أو مع قواعد القانون الدولي, بدعوى أنها الدولة الديموقراطية الوحيدة, من المنظور الأميركي على الأقل, في الشرق الأوسط الموسع.

وإذا صح هذا التحليل, وأظن أنه صحيح إجمالاً, فمعنى ذلك أن العالم كله يتجه نحو المزيد من الفوضى وعدم الاستقرار, وأن سنوات عجاف تنتظر العالم العربي والإسلامي. فهل تدرك حكوماته وشعوبه هذه الحقيقة؟

وهل تسارع حكومات هذه المنطقة بالقيام بالإصلاحات السياسية المطلوبة لتقوية مجتمعاتها في مواجهة التحديات والأعاصير المقبلة، قبل أن يتحول الاستبداد إلى ذريعة تستخدمها الولايات المتحدة لتحقيق هدفها الرامي لتفكيك هذه المنطقة وإعادة تشكيلها لحساب إسرائيل؟

هذا هو السؤال، وللأسف فإن الإجابة عليه تبدو معروفة سلفاً، وهي إجابة ليست متفائلة على أيّة حال.
  • 0
  • 0
  • 16,005

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً