اللهم أحصهم عددا

منذ 2013-11-19

الدعاء على الكافرين إنما يخص به من ظلم واعتدى منهم، وأنه لا يُدعى على من لم يبغِ ولم يظلم منهم، بل لا بأس بأن يُدعى له بالهداية، سواءً أكان ذلك جملة كدعائ الرسول لدوس، أم تعييناً كدعائه لأم أبي هريرة رضي الله عنهما.

 

عظم اغتباطنا في هذا الموقف العصيب لإخواننا في غزة حين دعا سماحة مفتي المملكة العربية السعودية إلى القنوت في الصلاة بالدعاء لأهل غزة، فالدعاء مخ العبادة، وليس بالعون اليسير في أثره إن شاء الله، وإن كان يسيراً على ألسنة المؤمنين وقلوبهم، ونرجو أن يكون من بواكير نفعه أن يُعجِّل الله الغوث لإخواننا ويعينهم على الصمود في وجه هذا الاحتلال المجرم.


ولما كان الدعاء هو العبادة فإن العبادات ينبغي أن تجري على وفق هدي الشرع الحكيم، إذ إن كل عبادة يُخالِف بها العبد ما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم فإنها لا تثمر إلا ضرراً في الدنيا ورداً وإثماً في الآخرة.

وقد رأيت أن بعض أئمة المساجد -وفقهم الله لكل خير- قنتوا لإخوانهم في غزة بما يبدو لي أنه على خلاف منصوص الشرع الحكيم، كما أنه مجانف لجلب المصلحة ودرء المفسدة التي جاءت بها أحكام الشريعة الغراء ولله الحمد والمنة.

وذلك أن هناك من يُسهِب في الدعاء على جملة اليهود والنصارى والكافرين بالهلاك والإبادة وتجميد الدم في العروق وزلزلة الأرض من تحت أقدامهم إلى غيرها من الدعوات التي لا تختص بالمعتدين والظالمين من الكافرين، بل تتجاوزهم إلى كل كافر على وجه الأرض، ومنهم من يأخذ بدعاء خبيب بن عدي رضي الله عنه حين قدّمه الكافرون للقتل في مكة، وهو كما في (صحيح البخاري؛ ج4، ص: [1465]): "اللهم أَحْصِهِمْ عَدَدًا وَاقْتُلْهُمْ بَدَدًا ولا تُبْقِ منهم أَحَدًا"، ولا يخفى أن هذا الدعاء ليس سنة لكونه عن خبيب رضي الله عنه وليس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه به أو إقراره عليه، وإنما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر الصحابة بقتله، كما ورد أنه رد سلام خبيب فقال: «وعليك السلام».

بل لم يثبت أنه تعالى استجاب دعوة خبيب هذه، بل أسلم كثير ممن حضر مقتل خبيب رضي الله عنه، ومنهم من طعنه بالحربة وهو عقبة بن الحارث رضي الله عنه كما أسلم أبو سفيان ومعاوية وغيرهم ممن حضر مقتله رضي الله عنهم.

إذا فدعاء خبيب رضي الله عنه ليس بسنة، ولم يستجب الله له، كما لم يستجب سبحانه لدعاء رسوله صلى الله عليه وسلم حين دعا على كفار مضر وكفار مكة، جاء في (صحيح البخاري؛ ج4، ص: [1661]): عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان إذا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ على أَحَدٍ أو يَدْعُوَ لِأَحَدٍ قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَرُبَّمَا قال: إذا قال
«سمع الله لِمَنْ حَمِدَهُ: اللهم رَبَّنَا لك الْحَمْدُ، اللهم أَنْجِ الْوَلِيدَ بن الْوَلِيدِ وَسَلَمَةَ بن هِشَامٍ وَعَيَّاشَ بن أبي رَبِيعَةَ، اللهم أشدد وَطْأَتَكَ على مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ» يَجْهَرُ بِذَلِكَ، وكان يقول في بَعْضِ صَلَاتِهِ في صَلَاةِ الْفَجْرِ اللهم الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا لِأَحْيَاءٍ من الْعَرَبِ حتى أَنْزَلَ الله {‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آلِ عمران من الآية:128].

قال في (تيسير العزيز الحميد؛ [1/205]): "ودعا عليهم صلى الله عليه وسلم في الصلاة المكتوبة جهراً وخلفه سادات الأولياء يؤمنون على دعائه، ومع هذا كله ما استجاب الله له فيهم بل تاب عليهم".

وإنما نهى الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عن الدعاء على الكافرين؛ لأن مهمته صلى الله عليه وسلم هي الدعوة والنذارة والبشارة، ولا شك أن الدعاء عليهم منافٍ لدعوتهم، ولا شك أن لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة.

وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للكافرين بالهداية، ومن ذلك ما جاء في (صحيح البخاري؛ ج3، ص [1282]): قال عبد اللَّهِ: "كَأَنِّي أَنْظُرُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يَحْكِي نَبِيًّا من الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، وهو يَمْسَحُ الدَّمَ عن وَجْهِهِ، وَيَقُولُ: «اللهم اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ».

وفي (صحيح البخاري؛ ج5، ص: [2349])؛ أيضاً عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: "قَدِمَ الطُّفَيْلُ بن عَمْرٍو على رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ دَوْسًا قد عَصَتْ وَأَبَتْ فَادْعُ اللَّهَ عليها، فَظَنَّ الناس أَنَّهُ يَدْعُو عليهم، فقال: «اللهم اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ»".

أما من ثبت أذاهم للمسلمين فلا بأس من الدعاء عليهم في الجملة دون تعيين، قال ابن العربي في (أحكام القرآن، ج4، ص: [312]): "ودعا النبي على من تحزَّب على المؤمنين وألَّب عليهم وكان هذا أصلاً في الدعاء على الكفار في الجملة فأما كافرٌ معين لم تعلم خاتمته فلا يُدعى عليه؛ لأن مآله عندنا مجهول، وربما كان عند الله معلوم الخاتمة للسعادة، وإنما خصَّ النبي عليه السلام الدعاء على عتبة وشيبة وأصحابه لعلمه بمآلهم وما كشف له من الغطاء عن حالهم، والله أعلم".

وقال ابن حجر في (فتح الباري؛ ج2، ص:493]): "أن الدعاء على المشركين بالقحط ينبغي أن يخص بمن كان محارباً دون من كان مسالماً".

وعقد البخاري رحمه الله باباً قال فيه: "بابُ الدُّعَاءِ لِلْمُشْرِكِينَ بالْهُدَى لَيَتَألَّفَهُمْ".


وقال العيني رحمه شارحاً هذا التبويب: "أي: هذا باب في بيان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين بأن الله يهديهم إلى دين الإسلام قوله ليتألفهم تعليل لدعائه بالهداية لهم، وذلك أنه يدعو لهم إذا رجا منهم الإلفة والرجوع إلى دين الإسلام وقد ذكرنا أن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على حالتين إحداهما: أنه يدعو لهم إذا أمن غائلتهم ورجا هدايتهم والأخرى أنه يدعو عليهم إذا اشتدت شوكتهم وكثر أذاهم ولم يأمن من شرّهم على المسلمين (عمدة القاري [14/207]).

نخلص من هذه النقول إلى أن الدعاء على الكافرين إنما يخص به من ظلم واعتدى منهم، وأنه لا يُدعى على من لم يبغِ ولم يظلم منهم، بل لا بأس بأن يُدعى له بالهداية، سواءً أكان ذلك جملة كدعائه لدوس، أم تعييناً كدعائه لأم أبي هريرة رضي الله عنهما.

هذا من جهة النص؛ أما من جهة تقدير المصلحة، وما يؤدي إليه هذا المسلك في الدعاء من المفاسد، فلا شك أن دعاء بهذه الطريقة يؤيد ما تروِّج له وسائل الإعلام العالمية المغرضة عن كون الإسلام دين عداوةٍ وكراهيةٍ للإنسانية، ولن يَعزّ عليهم المثال من إمام مسجد يؤمن له جموع المصلين وهو يقول: اللهم أهلك اليهود والنصارى وأحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا وجمد الدم في عروقهم ويبس أوصالهم... إن نقل دعاء كهذا لنصارى في أوروبا وأمريكا يتظاهرون اليوم ضد حكوماتهم لرفع الحصار عن غزة لأمر أقل ما يُقال عنه إنه لو لم يكن منهياً عنه شرعاً لنهت عنه المروءة التي تقضي بأن تَحمد من أعانك وتدعو له لا أن تدعو عليه وتأخذه بجريرة غيره.

بل كيف سيؤثر هذا الدعاء على مسلمين يعيشون بين ظهراني الكافرين بعد أن نفتهم أوطانهم، وتتصاعد الآن الدعاية ضدهم واتهامهم بالإرهاب من منظمات معادية للإسلام سعياً وراء استئصالهم وإخلاء بلاد الغرب منهم؟

وكيف سيؤثر هذا الدعاء على نفوس نصارى يعيشون في بلاد المسلمين، وتسعى منظمات الأعداء لإقناعهم بعداوة المسلمين لهم حتى يتمكنوا من استقطابهم وإيقاظ الفتنة في بلاد المسلمين من خلالهم، ونسعى نحن إن لم يكن لإسلامهم فـ لِكف شرّهم؟

بل كيف سيؤمِّن على هذا الدعاء شاب أسلم حديثاً ووالداه كتابيان يرجو إسلامهما مع كل شروق شمس، وكيف سيكون ثِقل وقع تلك العبارات على مسامعه؟!

وكيف يؤمِّن عليه مسلم تزوّج كتابية وأنجب منها الأطفال ويأمَل أن تكون غداً أخته في الإسلام كما هي زوجه في الدنيا؟

وكيف يؤمِّن عليه داعٍ إلى الإسلام يجلس كل يوم وهو يشرح للكافرين فصولاً عن سماحة الإسلام ويؤكد لهم أنه إنما انتشر في أصقاع الأرض بالأخلاق الحسنة ورعاية حقوق الآخرين وقاعدة لا إكراه في الدين، {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى

وكيف يؤمِّن عليه كاتب يقضي أوقاته يدبج المقالات الطِوال ليفنِّد ما يكتبه أعداء الإسلام عن ديننا من التُّهم الباطلة التي ترميه بالترويج للقتل والصراع، وأن هذا الدين وحده هو من وراء كل ما يجري في العالم من إرهاب وترويع؟

وأخيراً:

كيف سيؤمِّن على هذا الدعاء حاكم مسلم يخشى من مثل هذا الدعاء أن يفتح عليه باباً من الضغوطات الدولية المؤيدة بالحجج، والتي تسعى لأن تفرض عليه مزيداً من القيود يُلقيها على أُمَّتِه كي لا تكون حرّة في تدينها وعبادتها، بل وتجعله لا يأذن بمثل هذا القنوت أبداً في بلاده؟

إن ما أشرتُ إليه بتلك التساؤلات هي مفاسد قطعية تترتب على مثل هذا الدعاء، ولو لم يكن لدينا نصوص شرعية تُربينا وتُؤدبنا وتُعلمنا كيف ندعو الله لكان في مراعاة دِرء هذه المفاسد ما يكفي لنجزم من خلاله: أن الدعاء على هذا المسلك لا يجوز.

والله تعالى أعلم، والحمد لله ربّ العالمين.

 

 

محمد بن إبراهيم السعيدي

 

  • 18
  • 31
  • 237,691

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً