تدبر - [123] سورة يوسف (8)

منذ 2014-07-12

بدأت سنابك الخيل، وخِفاف النوق، تنهب الأرض نهبًا، حاملة تلك العائلة التي فرَّقها نزغ الشيطان عقودًا، وعلى بُعد مئات الأميال مكث الشيخ الكبير، صابِرًا محتسِبًا، يغالب حزنه الفطري على ضياع فلذتي كبده، وأبر أبنائه به..

بدأت سنابك الخيل، وخِفاف النوق، تنهب الأرض نهبًا، حاملة تلك العائلة التي فرَّقها نزغ الشيطان عقودًا، وعلى بُعد مئات الأميال مكث الشيخ الكبير، صابِرًا محتسِبًا، يغالب حزنه الفطري على ضياع فلذتي كبده، وأبر أبنائه به..

سال دمع تلك الفطرة المحبة، وترقرق من عين جانبها النوم القرير ردحًا طويلًا من الزمان حتى اجتمع البكاء مع السهد، فذهب نور البصر، ليبقى ضياء البصيرة، وكفى به ضياء.

فجأة ودون سابق نذير.. انتبه الشيخ الكبير؛ مهيب الطلعة، وقور السمت، رغم حزنه وهرمه، وإذا به يعتدل، ويفاجئ مَن حوله بعبارةٍ ما أعجبها؛ جعلت أولئك الصحب والآل، يظنون أن الهرم والحزن قد أثَّرا به؛ لقد فاجأهم بقوله: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ۖ لَوْلَا أَن تُفَنِّدُونِ} [يوسف من الآية:94]..

قالها الشيخ الكبير بصوت مطمئن واثق، يكاد الفرح والبشر يقطر من حرفه!

يوسف؟!

ماذا تقول؟!

أين يوسف الآن وقد مرَّت عشرات الأعوام على غيابه؟

ألا زِلتَ تذكره؟

ألن تنفك عن هذا الأمل الذي لا ينقطع عن قلبك؟

أيُرضيك الحال الذي وصلت إليه بسبب كثرة ذكرك ليوسف؟

ألم نقل لك من قبل إنك تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضًا أو تكون من الهالكين: {تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف من الآية:95]..
 
وبينما هم في تساؤلاتهم واستعجابهم من كلمات نبي الله يعقوب عليه السلام والتي فوجئوا بكمِّ الجزم واليقين اللذين خرجت بهما..

إذ دلف إلى المنزل النبوي العامر، بشير الابن الغائب يحمِل قميصًا يعبق بالريح الزكية، التي وجدها نبي الله يعقوب عبر رياح الصحراء المختلِطة برمالها!

إنه لقميص يوسف!

يوسف حي!

يوسف حي!

لم يمت كما زعموا..

لم يأكله الذئب كما سولت لهم أنفسهم أن يدعوا..

يوسف حي، وهذا قميصه، وتلك ريحه التي سبقت نفحاتها..

{أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [يوسف من الآية:96]؟!

بلى والله قد قلت، وصدقت ولم نصدُق..

بلى والله قد فُضِّلتَ علينا بنور النبوة، ويقين الصدق الذي رُزِقت به..

بادر البشير فألقى بالقميص على وجه قد حفر الحزن والألم معالِمه عليه..

وما بين طرفة عين وانتباهتها، فوجىء الجمع بنور البصر يعود ليجاور نور البصيرة، ويُزيِّن الوجه الصبوح، الذي طالما بلَّلته العبرات الحزينة.

لقد أبى الله إلا أن يمد في عمر يعقوب عليه السلام، حتى يرد إليه بصره، ليُملي عينيه برؤية الحبيب الغائب

ولقد صدق حدس المُحِب، حين شحذ الشوق حواسه، وحفَّز الحنين مشاعره.

من هنا تفهم سِرّ صيحة أنس بن النضر رضي الله عنه يوم أُحد: "واهًا لريح الجنة.. إني لأجد ريح الجنة من دون أُحد".

وكذلك شوق المُحبين حين يبلغ بمُحِبٍ مبلغه، فيعبر حدود الزمان والمكان، ليشعر بقرب حبيب منتظر وغاية مرتقبة..

فهل وجدنا ريح مرادنا واشتاق القلب بصدقٍ لمبتغانا؟!

 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 0
  • 0
  • 4,414
المقال السابق
[122] سورة يوسف (7)
المقال التالي
[124] سورة يوسف (9)

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً