الحياة.. ‫أبعاد!!

منذ 2014-12-20

الحكم على الشخص إذًا ليس بالبساطة ولا السطحية التي يتصورها البعض

هل سمعت من قبل عن (البعد الثالث)؟

تلك التقنية التي دخلت إلى عالم السينما -ومؤخرًا إلى شاشات التلفاز- منذ أعوام.

إنها فكرة الصورة المجسمة أو ما عُرف بالشاشة ثلاثية الأبعاد (3D) وهي تقنية طورتها شركة RealD وهي شركة أمريكية مقرها ولاية كاليفورنيا. الشركة اقتبست الفكرة من طريقة رؤية العين البشرية للأشياء حيث ترى كل عين جزءًا من الصورة وترسل إلى الشبكية ثم يقوم المخ بجمع الصورة بطريقة تظهرها في شكلها النهائي المجسم. تفاصيل طبية وفيزيائية كثيرة ليس المقام مناسبًا لشرحها تخرج بعدها صورة المخلوقات من حولك بشكلها الذي تعرفه.

المهم أن صناع السينما والتلفاز التفتوا إلى ذلك الابتكار اللطيف وقرروا الاستفادة منه للحصول على صورة أفضل وأقرب إلى الواقع.. الواقع الذي يحمل أكثر من بعد وليس بعدًا واحدًا ولا اثنين ولا حتى ثلاثة أبعاد.

لقد التفت صناع الترفيه لذلك بينما يصر البعض على عدم الانتباه لتلك الحقيق، ومن ثم يتعاملون مع الحياة بمنطق البعد الواحد!!

عُمرك شفت إنسان مسطح؟ ليس له سُمك!! مثل الورقة تمامًا.. الورقة التي تتكون من طول وعرض و... حسب؟

بالطبع لا...

هناك بعد ثالث وهو الارتفاع أو العمق والسُمك، وهناك بعد رابع أشار إليه ألبرت أينشتين وهو الزمان.

هذه الأبعاد الأربعة هي الأبعاد المحسوسة والتي يسهل على أي أحد فهمها وتخيلها، ومؤخرًا يجتهد العلماء لإثبات مزيد من الأبعاد التي تعد افتراضية غير محسوسة أحصاها بعضهم من خلال ما يعرف بنظرية الأوتار بأحد عشر بعدًا والبعض يزعم اليوم أنهم ستة عشر بعدًا وربما أكثر.

باختصار وبصرف النظر عن التعقيد الفيزيائي الذي قد تحمله السطور السابقة ما أريد قوله أن الموضوع كبير... والكون أعقد كثيرًا مما نتصور، والإنسان جزء من هذا الكون، وهو مخلوق ذو عدة أبعاد..

طول وعرض وارتفاع..

روح وعقل ووجدان..

ماضٍ وحاضر وأحلام..

قيم ومبادئ وأخلاق..

آراء ومواقف وأفكار..

اختزال كل ذلك في موقف واحد أو رأي واحد أو خيار واحد أو ذنب واحد وخطأ واحد، أو حتى في بضعة آراء ومواقف وخيارات وذنوب يُحكم عليه من خلالها حكمًا قطعيًا وتُتناسي معها كل أبعاده الأخرى هو ببساطة غبنٌ شديد وقصور في التقييم ونظرة أحادية مسطحة لا ينتهجها منصف.

في صحيح البخاري أن رجلًا على عهدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كان قد أقيم عليه حد الخمر أكثر من مرة.. أتوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، فأمَرَ بِهِ فجُلِدَ، فقال رجلٌ مِنَ القَومِ: اللَّهُمَّ العَنْهُ، ما أكثَرَ ما يُؤتَى بهِ!

بمنطق البعد الواحد والاختزال المعاصر سيُعد الرجل فاجرًا فاسقًا، وستغفل أي أبعاد أخرى في شخصيته وحياته.. لكن الأمر لدى النبي لم يكن على هذا النحو. لقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم ردًا على من لعنوه: «لا تَلْعَنُوه، فواللهِ ما عَلِمْتُ إلَّا أنه يُحِبُّ اللهَ ورسولَه» (البخاري) .

لم يمنعه ذنبه (المتكرر) من حب الله ورسوله ولم يمنع النبي ذلك الذنب من أن ينصفه، والأهم أن يلفت الانتباه إلى أن هناك أبعادًا متعددة ينبغي النظر إليها عند التقييم.

ومثل ذلك ثناؤه على توبة المرأة الغامدية التي أقيم عليها حد الزنا، وثناؤه على توبة ماعز الذي أقيم عليه نفس الحد، وأيضًا شهد النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد تاب توبة لو وزعت على أهل المدينة لوسعتهم.

تكرر ذلك المعنى العميق في كلام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تقرر..

فتارة يرغب في إعذار أهل الفضل وذوي الهيئات إن زلوا وأخطأوا فيقول: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم» (أخرجه أبو داود، وصححه الألباني)

وتارة أخرى يذكّر الأزواج إن كرهوا خُلقًا من أخلاق شريك حياتهم أن هناك أبعادًا أخرى فيقول: «إن كره منها خلقًا رضي منها آخر» (مسلم)

ويمر رَجُلٌ عَلَى النَّبيّ فَيقول لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٌ: «مَا رَأيُكَ في هَذَا؟»، فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ أشْرَافِ النَّاسِ، هَذَا واللهِ حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ. فَيسَكَتَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يمر رَجُلٌ آخَرُ، فَيقولَ لَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَا رَأيُكَ في هَذَا؟» فَيرد: هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَراءِ المُسْلِمِينَ، هَذَا حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أَنْ لا يُنْكَحَ، وَإنْ شَفَعَ أَنْ لا يُشَفَّعَ، وَإنْ قَالَ أَنْ لاَ يُسْمَعَ لِقَولِهِ. فَيُعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عميقة خالدة: «هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلءِ الأرْضِ مِثْلَ هَذَا» (البخاري).

الأمر إذا ليس بسطحية المظهر أو بالشكل الخارجي.. أليس هو القائل في الحديث المتفق عليه بالصحيحين: «إنَّهُ لَيَأتِي الرَّجُلُ السَّمِينُ العَظِيمُ يَوْمَ القِيَامَةِ لاَ يَزِنُ عِنْدَ اللهِ جَناحَ بَعُوضَةٍ» (البخاري ومسلم).

وفي الوقت نفسه هو القائل: «رُبَّ أشْعَثَ أغبرَ مَدْفُوعٍ بِالأبْوابِ لَوْ أقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ» (رواه مسلم).

الحكم على الشخص إذًا ليس بالبساطة ولا السطحية التي يتصورها البعض؛ صحيح أن هناك مواقف فاصلة، وأن هناك خيارات محورية قاطعة، وآراء مفصلية حاسمة حازمة؛ لكن حتى مع هذا لا يملك أحد أن يقطع الأمل في الشخص وإن صدر الحكم عليه في الدنيا فليس لك من الأمر شيء في المآل والخاتمة والآخرة.

فالحمد لله الذي يزننا بأعمالنا..كل أعمالنا.. الحمد لله أن لم يجعل حسابنا في يد مخلوق أحادي النظرة متعجل الحكم لا يرى الناس ولا الحياة إلا موقفًا واحدًا، وذنبًا واحدًا، وبعدًا واحدًا وينسى دائمًا أن الحياة... ‫أبعاد.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 3
  • 0
  • 4,221

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً