نحو منظومة منهجية تعليمية في الحقل الإغاثي

منذ 2015-09-20

المتأمل للقطاع الإغاثي الذي تدور في فلكه المؤسسات الخيرية الإسلامية؛ يلمس الضعف والفقر في المعطيات الأكاديمية المؤهلة للكوادر المتخصصة في هذا القطاع الحيوي، وكذا تنمية قدرات وإمكانيات المتطوعين والراغبين في البذل الإغاثي من أبناء الأمة الإسلامية.

فالواقع الأكاديمي الراهن في المجتمعات الإسلامية في معظمه لا يخرج عن كونه نقل واستنساخ للمناهج التعليمية الاجتماعية الغربية المنشأ والجوهر، والتي لا تضع الضوابط الشرعية والعقدية الموجهة لتحركات المؤسسات الخيرية الإسلامية في مكوناتها المنهجية، فهي إما كنسية ترسخ التحرك التبشيري، أو علمانية تنادي بما يطلق عليه "المجتمع المدني" الذي ينحي الدين جانباً ويعربد وفق أهواء الناظرين معتبراً بكل ما هو ملموس رافضاً للضوابط الشرعية والعقدية معتبرها من الأشياء غير الملموسة التي تتعارض مع منطلقاتهم العلمانية والمادية.

كما أن الواقع الأكاديمي في المجتمعات الإسلامية يكاد يخلو من التوثيق الأكاديمي الميداني لخبرات وتجارب ومنجزات المؤسسات الخيرية الإسلامية العاملة في الحقل الإغاثي، والتي لها خبرات وحضور دولي مكثف في ميدان الكوارث والأزمات.

من هنا كانت الحاجة ملحة وضرورية لوجود منظومة علمية منهجية خاصة بالعمل الإغاثي الإسلامي تراعي الهوية الإسلامية، وتتسلح بالمؤهلات البنائية الفنية والشرعية والتي تسمح بإعداد جيل من الكوادر البشرية والفنية يتولى زمام العمل الخيري الإسلامي في الحقل الإغاثي.

وبناء المناهج في مجال ما ليس بالأمر الهين، تزداد الصعوبة إذا كان هذا المجال معقد التخصص ونادر المتخصصين كميدان الكوارث والأزمات الذي تدور في فلكه المؤسسات الخيرية الإسلامية، وهذه من العقبات الأساسية التي تواجه بناء المنظومة التعليمية المقترحة.

فالندرة التخصصية المنهجية قد تتسبب في إطالة أمد عملية البناء، فضلاً عن الضعف النسبي الذي قد يعلو البناء المنهجي. وهذه نقطة حيوية ينبغي وضعها في الحسبان عند الإقدام على عملية البناء والبحث عن أقرب البدائل التي تقلل الفجوة.

وبناء منظومة منهجية تعليمية في الحقل الإغاثي يمر بمجموعة من المراحل المتلازمة والتي يمكنها أن تأخذ الصورة التالية:
أولاً... تحديد الجهة المنفذة لهذا البناء المنهجي:
من الأهمية أن تكون هناك جهة بحثية مستقلة تتولى متابعة عمليات التنسيق والبناء والإشراف على فريق العمل، وذلك من كافة الجوانب الإدارية والمالية والعلمية، وأن يكون لهذه الجهة هيئة إشرافية شرعية ترسم سياساتها العامة، وتقوم تحركاتها العملية.
 

ثانياً... تخصيص ميزانية للمشروع:
المال عصب مؤثر في بناء منظومة المناهج الإغاثية، لذا فإن الجهة البحثية المنوط بها الإشراف على هذا البناء العلمي ينبغي أن يكون لديها الوفرة المالية المخصصة لهذا المشروع، والمصحوبة بالشفافية والترشيد في الإنفاق.
وهذه الميزانية يمكن اعتمادها من قبل الحكومات و رجال الأعمال المقتنعين بفكرة المشروع، إضافة إلى تبرعات الراغبين في المساهمة من جماهير المسلمين وذلك وفق الإجراءات القانونية المنظمة لعمليات التبرعات، مع الانتباه للبعد عن الأموال المشبوهة ذات الأجندات الإملائية.

ثالثاً... تكوين فريق العلماء والباحثين:
هذه المنظومة التعليمية مقيدة بضوابط شرعية جزء منها يدخل في أمور اجتهادية، لذا فإن اختيار فريق العمل سينطلق من هذه القاعدة.

والاختيارات ستراعى فيها أن يضم الفريق:

  1. علماء الشريعة والفقهاء والمجتهدين الثقات والذين لهم اهتمامات واجتهادات تتقاطع مع العمل الإغاثي.
  2. باحثون علميون متخصصون في هذا القطاع أو لديهم الملكات التي تؤهلهم للتعاطي مع القطاع الإغاثي ويكون معروف عنهم الانضباط الشرعي.
  3. أطباء مهتمون بقطاع الإغاثة الإسلامية.
  4. خبراء الإغاثة من منسوبي المؤسسات الخيرية الإسلامية.
  5. خبراء من المسلمين في مجال الإنقاذ والإغاثة.
  6. قادة فرق الإنقاذ في الدول الإسلامية كضباط الجيش والدفاع المدني.

رابعاً... تكوين قاعدة بيانات أرشيفية للإغاثة الإسلامية:
من الأهمية قبل عمل قاعدة البيانات هذه أن يكون هناك إطار تصنيفي وتبويبي تسكن فيه معطيات تلك القاعدة البحثية والتي يمكنها أن تضم العناصر التالية:

  1. المسح البحثي الشرعي لكافة المعطيات الشرعية المتعلقة بالإغاثة الإسلامية في كتب التفاسير، الحديث، الفقه، العقيدة، التاريخ الإسلامي، التراجم، واللغة.
  2. التوثيق الأرشيفي لكافة الخبرات والتجارب الإغاثية المتاحة، والتي قامت بها المؤسسات الخيرية الإسلامية على مدار العقود السابقة ووثقتها في مكتباتها الداخلية.
  3. الدراسات البحثية والأكاديمية التي تناولت قطاع الإغاثة الإسلامية ومؤسساته.
  4. إجراء الحوارات الموسعة مع خبراء ونشطاء العمل الإغاثي الإسلامي وذلك لتوثيق تجاربهم الإغاثية.
  5. حصر الأساليب الفنية المستخدمة في عمليات الإغاثة، وآليات عملها ومراحل تطورها مثل المستشفيات المتنقلة، وبناء مخيمات الإيواء ومحتوياتها، وغير ذلك من الأساليب الفنية
  6. توثيق المعطيات والإرشادات الطبية المتعلقة بالإغاثة الطبية أثناء الكوارث والنكبات.
  7. تكوين قاعدة بيانات عن "جغرافيا الكوارث" وذلك بحصر المعطيات المتاحة عن أماكن الكوارث والأزمات، وفرص تكرار الأزمات بها.
  8. التوثيق الأرشيفي المصور والمكتوب عن الكوارث والنكبات التي حدثت في العقود الأخيرة، وكيفية تعاطي المؤسسات الخيرية الإغاثية معها وبخاصة الإسلامية منها.
  9. عمل دراسات استطلاعية عن واقع المؤسسات الخيرية الإسلامية العاملة في القطاع الإغاثي، من حيث إمكانياتها الفنية والمالية والبشرية، رؤيتها الإغاثية، مساحة انتشارها الجغرافية، معوقاتها، واحتياجاتها.
  10. عمل دراسات وصفية عن معوقات العمل الإغاثي الإسلامي، وطرائق مواجهتها مع استطلاع آراء الخبراء في هذه المعيقات.

خامساً... بناء الإطار التصوري للمناهج الإغاثية:
ووضع مثل هذا الإطار يخضع لأربعة مراحل رئيسية وهي:

  1. وضع تصور مبدئي مبني على المعطيات النظرية التي أفردتها قاعدة البيانات الأرشيفية.
  2. إخضاع هذا التصور المبدئي للعمليات الاستشارية والتحكيم وحلقات النقاش المتكررة.
  3. إضافة الاجتهادات الشرعية المستحدثة من قبل أهل الاجتهاد والتي قد يرون احتياج الحقل الإغاثي لمثلها.
  4. إعداد الصياغة النهائية للإطار التصوري.

سادساً ... توزيع الاختصاصات والبدء في الكتابة:
وهنا تأتي عملية توزيع الاختصاصات البحثية والكتابية مع توفير نسخة من قاعدة البيانات الأرشيفية لكل باحث، إضافة إلى توفير كافة المعينات البحثية التي سيحتاجها الباحث، مع متابعة الكتابة من قبل الهيئة الإشرافية.

سابعاً ... المناقشات العلمية المفتوحة للكتابات:
وذلك بعمل حلقات نقاش (سيمنار) للكتابات، يشارك فيها العلماء وكافة أعضاء الفريق البحثي، وذلك لإحداث عملية العصف الذهني الجماعي والذي سينتج عنه إثراء الكتابات الإغاثية بالإضافة أو الحذف أو التعديل.

ثامناً... التحكيم الشرعي للكتابات:
بعد صياغة الكتابات في صورتها النهائية المعدلة وفق ملاحظات العصف الذهني الجمعي؛ يتم عرضها على اللجنة الشرعية المعنية بالمناهج الإغاثية، وذلك للتدقيق النهائي في كافة المعطيات المكتوبة ومدى مطابقتها للشريعة الإسلامية ورفض أو تعديل المخالف، أو المطالبة بالاستزادة في مواطن النقصان.

تاسعاً ... التجريب في الأقسام والمعاهد الإغاثية القائمة:
وعملية التجريب المبدئية يمكن إجراؤها في أحد الأقسام أو المعاهد الإغاثية الموجودة بالفعل، مع قياس المردود العملي لتدريس تلك المناهج وتسجيل الملاحظات المنهجية عليها، واللازمة في عمليات التقويم. وكل ذلك يكون تمهيداً لتعميم المناهج التعليمية على باقي الأقسام والمعاهد القائمة أو المستحدثة.

عاشراً .... الهيئات التدريسية المنوط بها تدريس المناهج الإغاثية:
يمكن أن تبدأ العمليات التدريسية بنفس فريق العمل الذي أعد المناهج التعليمية الإغاثية، إضافة إلى تدريب بعض المحاضرين المؤهلين والمنضبطين شرعاً لتولي المهام التدريسية، مع الاهتمام بإعداد جيل جديد من المحاضرين المتميزين في هذا القطاع الإغاثي.

حادي عشر... لجنة متابعة تطوير المناهج الإغاثية:
من الأهمية أن تكون في الهيئة المعنية بالمناهج الإغاثية لجنة لتطوير المناهج الإغاثية، تتابع تدريس المناهج وتعني بالملاحظات المسجلة على المناهج، وتعد المقترحات التطويرية بصياغات بحثية، ثم تقدمها للفريق البحثي الذي سيخضعها لذات الدورة البنائية السابقة من صياغة مبدئية وبحث وتحكيم ومناقشة وضبط شرعي ثم الكتابة النهائية والتدريس التجريبي وهكذا.

ويكون منوط أيضاً بهذه اللجنة عرض المسائل المستحدثة على أهل الاجتهاد لتبيان الحكم الشرعي فيها وإلحاقها في السياق البنائي للمناهج الإغاثية.

ما سبق كان تصور مبدئي لآلية بناء منظومة منهجية تعليمية للإغاثة الإسلامية، مع التأكيد بأن هذا التصور يحتاج إلى دراسة مستفيضة موسعة ثم إخضاعه للخطوات البنائية التي أشرنا إليها.
--------------
نشرت بالمركز الدولي للدراسات والأبحاث 2007

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

الهيثم زعفان

كاتب وباحث متخصص في القضايا الاجتماعية والاستراتيجية؛ رئيس مركز الاستقامة للدراسات الاستراتيجية، جمهورية مصر العربية.

  • 1
  • 0
  • 3,128

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً