[01] يوسف في بيت أبيه

انفتاح الولد على أبيه، بحيث يُحدثه في أحواله وأموره بدون استفسار من أبيه، بل مبادأة منه، يعني أدبًا وتقديرًا واحترامًا للأب، ورجوعًا إليه؛ يفتح بابًا من التوجه الأبوي، وخصوصًا إذا كان هذا الأب في مقام الناصح الأمين لقومه، فما بالك بابنه الحبيب.

  • التصنيفات: قصص الأنبياء -

انفتاح أنيس

{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4].

انفتاح الولد على أبيه، بحيث يُحدثه في أحواله وأموره بدون استفسار من أبيه، بل مبادأة منه، يعني أدبًا وتقديرًا واحترامًا للأب، ورجوعًا إليه؛ يفتح بابًا من التوجه الأبوي، وخصوصًا إذا كان هذا الأب في مقام الناصح الأمين لقومه، فما بالك بابنه الحبيب.

وحين يفعل الابن ذلك، يكون قد أقر بحاجته وفقره إلى توجيه أبيه ونصحه، وكذلك بحق ابنه في الرجوع إليه والاستفادة من خبرته وتجربته، فلربما يسمع من أبيه توجيهًا أو نصحًا، يكون له منهجًا على طول حياته وعرضها، ولقد سمعت مرة حوارًا بين مذيع تلفزيوني وواحد من أبناء المشاهير، يسأله المذيع عن شيء سمعه من أبيه، كان له -ولايزال- أثر في حياته، فقال: "نصحني أبي نصيحة لازلت أعمل بها في كل أموري، أنه قال لي: يا فلان احذر أن تقدم على عمل دون أن تفكر فيه".

وقد يتعدى نفع هذا الانفتاح إلى الغير، ألا ترى أن ابنتي شعيب عليه السلام حيت أخبرتا أباهما بأمر موسى عليه السلام وبأنه سقى لهما، أرسل الله في استدعائه وكان من وراء ذلك نجاة موسى عليه السلام من القوم الظالمين، وزواج ميمون، وعمل كريم، وعشرة طيبة.

ولو تصورنا أن ابنة شعيب عليه السلام لم تخبر أباها بخبر موسى عليه السلام أو أنها أخبرته ولكن لم تقل {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26]، أو أن موسى عليه السلام لم يقص على شعيب عليه السلام القصص، ماذا كان يمكن أن يكون؟

وإذا كان هذا جو الانفتاح وآثاره الطيبة، وثمراته النافعة بين الأبناء وأبيهم، فإن لجو الانغلاق والانطواء آثاره الخبيثة وثمراته المرة؛ ناطقة فيما كان من أمر إخوة يوسف عليه السلام، فإنهم لما حسدوا يوسف عليه السلام وأخاه (بنيامين) كادوا لهما وتناجوا فيما بينهم ودبروا أمرًا، كل ذلك أخفوه عن أبيهم بل اتهموا أباهم { إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [يوسف:8].

ووعدوه وعدًا كاذبًا: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف:12]، وقالوا: {إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف:17]، وجاؤوا ببينة كاذبة {وَجَاءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف:18]، وتجاوز الكذب كذب اللسان إلى كذب العيون {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} [يوسف:15]، وأصروا على كذبهم واستمروا عليه زمنًا طويلأ، حتى جاءوا بقميصه يحمل النور إلى عين أبيهم.

نور اليقين يهون البلاء

رؤيا غريبة من طفل صغير...

في السورة رؤى أخرى، فملك يرى مستقبل بلاده الزراعي والاقتصادي، وأحد الفتيين يرى نهاية حياته بأن يصلب فتأكل الطير من رأسه، والآخر يرى مستقبله وعمله في قصر الملك يسقيه خمرًا، وكلها أمور معيشية دنيوية؛ هي التي تشغل بال الناس واهتمامتهم، كلُ في دائرة معيشته.

أما يوسف عليه السلام في هذه السن، فيرى السماء تحييه بشمسها وقمرها وكواكبها، فأي رفعة شأن، وأي سمو، وأي عُلُو ينتظر هذا الفتى، فلم يكف أن يصعد إلى السماء لتسجد له -أو تحييه- الشمس والقمر والكواكب، ولكنها بدأته بالتحية وكأنها جاءته، وما له عليه السلام لم ير ما يؤول بأنه سيلقى في الجُب، أو أنه سيفتن في بيت العزيز بامرأته، أو أنه سيسجن عددًا من السنين، وكل هذا وقع له في حياته، وكأن كل هذا هين بجانب النهاية الرفيعة العالية السامية، كما أن أهل النعيم في الجنة يسألون، عما إذا كانوا رأوا شقاء في دنياهم فيقولون: ما رأينا شقاء قط. وكذلك أهل الشقاء في النار، يُسألون: هل رأيتم نعيمًا؟ فيقولون: ما رأينا نعيمًا قط.

كذلك أهل الجد في الدنيا حين يرون ثمرة تعبهم وجدهم وكبدهم يهون عليهم كل هذا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ . لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} [الغاشية:8-9].

وحين تؤؤل الرؤيا: {هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْل} [ يوسف:100]، يظهر أن الشمس رمز للأب، وأن القمر رمز للأم، وأن الكواكب رمز الأخوة، وأن الأسرة نظام اجتماعي قوي منضبط، كما أن النظام الشمسي نظام كوني محكم منضبط، وتبعية الأم والإخوة لأبيهم كتبعية القمر والكواكب للشمس.

وهكذا يكون استقرار النظام الاجتماعي للبشرية، إذا استقرت الأسرة، كما أن استقرار النظام الكوني يكون إذا ظلت الشمس تجري لمستقر لها، وإذا  نزل القمر منازله حتى يعود كالعرجون القديم، وإذا التزمت الكواكب أفلاكها ومداراتها حول شمسها.

وكما نقرأ القرار العلوي: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، ونقرأ القرار الآخر: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34]، فكلاهما مراد من الله، وكذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتِه، فالإمامُ الذي على الناسِ راعٍ وهومسؤولٌ عن رعيتِه، والرجلُ راعٍ على أهلِ بيتِه وهو مسؤولٌ عن رعيتِه، والمرأةُ راعيةٌ على أهلِ بيتِ زوجِها وولدِه وهي مسؤولةٌ عنهم، وعبدُ الرجلِ راعٍ على مالِ سيدِه وهو مسؤولٌ عنه، ألا فكلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتِه» (صحيح البخاري [7138]).

{قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ} [يوسف:5]

سمع يعقوب ماقصه يوسف عليهما السلام من رؤيا، ولم يطلب يوسف من أبيه التأويل، كما  طلب الفتيان من يوسف عندما قصا عليه رؤييهما: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36]، ولعل ذلك كان تأدبًا من يوسف مع أبيه، فترك له التصرف، أو أن يعقوب عليه السلام عاجل يوسف بالتحذير من أن يقص الرؤيا على إخوته: {يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ} [يوسف:5]، إخوتك كلهم؛ بما فيهم بنيامين الشقيق.

فهل يعني هذا التحذير عموم الغيرة والحسد بين الإخوة، أشقاء أو غير أشقاء، وكأنه استصحاب لما كان بين قابيل وهابيل {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ} [المائدة:27]، وهذا مانبه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخصوص التسوية والعدل بين الأولاد، حتى في القُبلة، أو أن هذا مايقوله القائل:"كل ذي نعمة محسود"، وهل يعني هذا تحذير يوسف من أن يقص رؤياه على أحد من إخوته، فيقص هذا الأحد على آخر وهكذا، حتى تشيع بين إخوته جميعًا؛ لان أي أمر يظل لصاحبه مالم يُحدث به أحدًا، فإذا هو حدث به غيره فلا يأمن بذلك أن ينتقل إلى آخرين كثيرين.

{فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف:5]

أليس في هذا تأكيد على سريان مشاعر التحريش والكيد والتربص والتآمر وكل مايجب ألا يكون بين الأخوة، والتي حدث بها يوسف أخاه بنيامين لما جاءه قائلًا: {إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يوسف:69]

إننا إذا استحضرنا أن يعقوب عليه السلام ليس أبًا فقط، ولكنه يجمع إلى الأبوة الرحيمة، نبوة معصومة وقدوة حسنة، يخاف على يوسف أن يفعل مايحرك نوازع الكيد عن إخوته، كما يخاف على أبنائه أن تسول لهم أنفسهم أمرًا، كما أن ما تم بعد ذلك من كيد يعطي صورة واضحة عن الحد الذي يمكن أن يصل إليه كيد إخوة يوسف له، سواء قص عليهم الرؤيا أو لم يقصها، وهو قطعًا لم يقصها؛ لأنه لا يخالف عن أمر أبيه برًا وطاعة له، وليس هناك مناخ ملائم أو مشجع لانفتاح يوسف على إخونه، وحينئذ لايكون تحذير نبي الله يعقوب عليه السلام لابنه يوسف إلا تعليلًا يُقنع يوسف عليه السلام بوجة نظر أبيه، وكما أن النفس تُسول، فالشيطان أيضًا يزين ويؤزر فريسته أزًا: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [يوسف:5]

{وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} [يوسف:6]

يالها من بشرى عظيمة لنبي الله يعقوب، ساقها الله من خلال رؤيا يوسف عليه السلام، ويالها من عجيبة ألا يسارع يعقوب عليه السلام فُيبشر يوسف بمجرد سماع رؤياه، فيقول له مثلًا:" ابشر باختيار الله لك للنبوة"، بدلًا من أن يحذره من أن يقص رؤياه على إخوته ثم يبشره. هل لأن درء مفسدة الكيد مقدمة على منفعة البشرى؟ وخصوصًا أن يوسف عليه السلام جمع إلى حب أبيه له؛ حب ربه واصطفاءه له.

وليست البشرى بشرى واحدة، إنما هي بشريات، ثانيهما: {وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف:6] ومادام الأمر كذلك، وهو أن يوسف سيعلمه ربه تأويل الأحاديث فكان التحذير كافيًا، وحين يؤتى يوسف هذا العلم سيؤول رؤياه بنفسه. ولكن معرفة يوسف عليه السلام بتأويل رؤياه كان لازمًا له ليبصره ويؤنسه في رحلة الابتلاءات الطويلة التي اجتازها، والتي كلما تحقق منها شيء ازداد وثوقًا ويقينًا واطمئنانًا بأن الله سيتم عليه مابقى: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [يوسف:15]، فكانت هذه بادرة اصطفاء واجتباء يتزود فيها ببشرى أخرى من بشريات الرؤيا.

وأُوتي علم التأويل فاجتاز به مرحلة السجن وأُول للفتيين رؤييهما، ودخل بهذا العلم محطة المُلك والتمكين حين فسر رؤيا الملك، وبذلك أوصله إلى نهاية الرحلة- وهي البشرى الثالثة {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} [يوسف:6]

ووقف يوسف عليه السلام ليُعلن في جمع من أبويه وآل يعقوب: {يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف:100].

إن تأويل الرؤيا كان سببًا مباشرًا في طلب الملك مقابلة يوسف عليه السلام: {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ.قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:54-55].

إن تأويل الرؤى ماهو إلا ترجمة لما يراه النائم في حالة نومه إلى ما يحدث في حالة صحوه ويقظته، فكأنه تفسير لوقائع تحدث في المنام إلى وقائع تحدث في اليقظة. ولا يستطيع ترجمة ولا تفسير هذه إلى تلك كل أحد، فقد رأينا في قصتنا هذه أن الذين رأوا الرؤى: غلام صغير في بيت أبيه، وفتيان كبيران في السجن، وملك في مملكته، أما الذين أولوا الرؤى فكان نبي الله يعقوب وابنه يوسف عليهما السلام، فهل يعني هذا أن نقصد إلى أهل الصلاح والتقى وأهل الاستقامة والاتباع للرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم، نقصد إلى هؤلاء في تأويل رؤانا، كما قال الفتيان {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36] وكما جاءه رسول الملك لتأويل رؤياه فخاطبه قائلًا: {أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا} [يوسف:46]، ويا أيها المؤولون: كونوا أهل صلاح وتقى واستقامة وصدق وإحسان؛ يلمهمكم الله صدق التأويل وصحته. 

 

محمد عبدالمعطي الجزار.

المصدر: مقتبس من كتاب (يوسف من البئر إلى الملك) للدكتور محمد عبدالمعطي الجزار.