جذور الكتاب المقدس عند النصارى

منذ 2010-04-04

كانت اليهودية، التي هي أساس المسيحية، ديانة غير مألوفة في العالم الروماني،على الرغم من أنها لم تكن منقطعة النظير؛ فمثل أتباع أيَّة ديانة أخرى من (المئات) من الديانات التي كانت موجودة في منطقة حوض المتوسط، كان اليهود يؤمنون بوجود مملكة إلهية ..


لكي ندرس نسخ العهد الجديد التي بحوذتنا، نحتاج أولا إلى البدء بدراسة أحد الخصائص غير المألوفة التي تتميز بها المسيحية في محيط العالم اليوناني الروماني، ألا وهي طابعها الكتابيّ (Bookish). في الواقع؛ لكي نفهم هذه الخصيصة التي تتميز بها المسيحية ،نحن بحاجة ،قبل الحديث عن المسيحية، إلى البدء بالحديث عن الديانة اليهودية، وهي الديانة التي انبثقت منها المسيحية؛ حيث إن اليهودية التي كانت "ديانة الكتاب" الأولى في الحضارة الغربية، كانت قد سبقت كتابيّة المسيحية إلى حد ما وتنبأت بها.


اليهودية باعتبارها ديانة الكتاب:

كانت اليهودية، التي هي أساس المسيحية، ديانة غير مألوفة في العالم الروماني،على الرغم من أنها لم تكن منقطعة النظير؛ فمثل أتباع أيَّة ديانة أخرى من (المئات) من الديانات التي كانت موجودة في منطقة حوض المتوسط، كان اليهود يؤمنون بوجود مملكة إلهية تسكنها الكائنات العلوية (ملائكة، رؤساء ملائكة، طغمات الملائكة، القوى)؛ كما اتفقوا على عبادة إله عبر تقديم الأضحيات التي هي عبارة عن حيوانات وأطعمة أخرى؛ وكانوا يؤمنون بأن هناك مكانًا مقدسًا له خصوصية بحيث يسكن فيه هذا الكائن الإلهي هنا على الأرض (الذي هو الهيكل في أورشليم)، حيث تسفك دماء هذه الأضاحي. وقد كانوا يصلُّون إلى هذا الإله طلبا لقضاء حوائج جماعية وشخصية. وحكوا قصصًا عن الكيفية التي تعامل بها هذا الإله مع البشر في الزمن الماضي، وانتظروا عونه للبشر في الزمن الحاضر. في كل هذه النواحي، لم تكن اليهودية "مختلفة" في أعين كل المؤمنين بالآلهة الأخرى داخل الإمبراطورية، لكنَّ اليهودية في بعض النواحي، على الرغم من ذلك، كانت متميزة عن غيرها؛ فكلُّ الديانات الأخرى داخل الإمبراطورية كانت ديانات شركية ـ أي تعترف بالعديد من الآلهة من كل الأنواع وبمختلف الوظائف وتتوجه إليها بالعبادات: مثل الآلهة العظيمة للدولة، والآلهة الأقل شأنًا في الأقاليم المختلفة، آلهة تراقب المناحي المختلفة لميلاد الإنسان، وحياته، وموته. ومن ناحية أخرى، كانت اليهودية ديانة توحيديَّة؛ فاليهود أصرُّوا على عبادة الإله الواحد الذي عبده أجدادهم فحسب، الإله الذي ،حسب زعمهم، كان قد خلق هذا العالم، وحكمه،وهو وحدُه الذي كان في حاجةِ شعبِه. وفقًا للتقليد اليهودي، هذا الإله الواحد القادر على كل شيء دعى إسرائيل ليكونوا شعبه المختار ووعده بالحماية والدفاع عنه في مقابل إخلاصه المطلق له، وله وحده.


كان بين الشعب اليهودي، كما كان يُعتَقد، وبين الله "عهد"؛ أي اتفاق بموجبه يكونون وحدهم شعبه كما يكون هو ربهم وحدهم. هذا الإله الواحد هو المستحق وحده للعبادة وللطاعة؛ وهكذا، للسبب ذاته، كان ثمة هيكل واحد فقط، على عكس الديانات الشركيّة في ذلك العصر التي على سبيل المثال تسمح أن يوجد أي عدد من المعابد لإله مثل "زيوس".

بلا شك، كان بإمكان اليهود أن يعبدوا الله في أي مكان يعيشون فيه، لكنهم لم يكونوا يستطيعون إقامة واجباتهم الدينية مثل تقديم الذبائح لله إلا في الهيكل في أورشليم. أما في الأماكن الأخرى ،مع ذلك، فيمكنهم أن يجتمعوا معًا في "الكنيسات" للصلاة ولمناقشة التقاليد الآبائية التي تتعلق بشؤون دينهم. هذه التقاليد تشتمل على قصص تدور حول علاقة الله بآباء شعب إسرائيل -أو آباء وأمهات الإيمان- إذا جاز التعبير: إبراهيم، سارة، إسحاق، راشيل، يعقوب، رُفقى، يوسف، موسى، داوود، وهلم جرا، وأيضًا تعاليم مفصَّلة بخصوص الكيفية التي ينبغي أن يسيِّرَ بها هذا الشعب عبادته وحياته. أحد الأشياء التي تجعل اليهودية ديانة فريدة وسط ديانات الإمبراطورية الرومانية أن هذه التعاليم، إلى جانب التقاليد الآبائية الأخرى، كانت مكتوبة في ثنايا كتبٍ مقدسة. إلا أن المعرفة الوثيقة للإنسان المعاصر بالديانات الغربية الرئيسية المعاصرة (اليهودية، المسيحية، الإسلام)، ربما ستجعل من العسير أن يتصور المرء غرابة هذا الأمر، لكنَّ الكتب لم تلعب فعليًا أيَّ دورٍ في الديانات الوثنية التي كانت موجودة في العالم الغربي القديم. هذه الديانات كانت تقريبا وبشكل خاص معنية بتمجيد الآلهة عبر طقوس الذبح. لم يكن ثمّةَ عقائدٌ يمكن تعلُّمها، ومن ثمَّ تفسيرُها في ثنايا الكتب، وتقريبا لم يكن ثمَّة مبادئ أخلاقية تحتذى ، فيتم تضمينها في الكتب. وهذا لا يعني أننا نقول إن أتباع الديانات الوثنية المتنوعة لم يكن لديهم أي عقائد حول آلهتهم أو أنهم لم يكن لديهم أي مبادئ أخلاقية ،بل ما نقصده هو أن العقائد والأخلاق ـ وهو ما يبدو غريبًا على الأسماع في العصر الحديث ـ لم تلعب تقريبا أيَّ دور في الدين تحديدًا. فتلك العقائد والأخلاق كانت بدلا من ذلك من قضايا الفلسفة الشخصية، والفلسفات، بالطبع، يمكن أن تكتب في الكتب.

وحيث إن الديانات القديمة ذاتها لم تتطلب أي مجموعة خاصة من "العقائد السليمة" أو في الغالب من" القوانين الأخلاقية"؛ فالكتب لم تلعب تقريبًا أي دور فيها. كانت اليهودية فريدة في أنها أكدّت على تقاليدها، وعاداتها، وقوانينها الآبائية، وأصرت على أن يتمَّ تسجيلُها في ثنايا الكتب المقدسة، التي كانت لها من أجل هذا منزلة "الكتاب المقدس" في أعين الشعب اليهودي. في أثناء الفترة موضع دراستنا ـ القرن الأول من الميلاد (1)، عندما كانت الكتب المتضمَّنة في العهد الجديد في مرحلة الكتابة ـ كان اليهود الذين تشتتوا في كل مكان من الإمبراطورية الرومانية يعتقدون أن التعاليم التي أعطاها الرب بشكل خاص للشعب موجودة في ثنايا كتب موسى، المشار إليها مجموعةً بالتوراة التي تعني حرفيًا شيئا مثل "قانون" أو "هداية."

تتكون التوراة من خمسة كتب، يطلق عليها أحيانا (Pentateuch) أي ( أسفار موسى الخمسة) التي هي بداية الكتاب المقدس اليهودي (الذي يقابل مصطلح العهد القديم عند المسيحيين): التكوين، الخروج، اللاويين، العدد، التثنية.

ها هنا يجد المرء روايات عن خلق العالم ،دعوة شعب إسرائيل ليصيروا شعب الله، قصص الآباء والأمهات وعلاقة الله بهم، والأهم (والأطول مساحةً)، القوانين التي أعطاها الله لموسى لتعرِّفَهم كيف ينبغي أن يعبد الشعبُ ربَّهم وكيف ينبغي أن يتعاملوا بعضهم مع بعض داخل المجتمع. لقد كانت قوانينًا مقدسة، ينبغي تعلُّمها، ومناقشتها، واتِّباعِها ـ و كانت مكتوبة في ثنايا مجموعة من الكتب.


كان لليهود كتبًا أخرى كانت تمثل شيئًا مهمَّا لحياتهم الدينية الجماعية أيضًا،على سبيل المثال، أسفار الأنبياء (مثل إشعياء، إرميا، عاموس)، الأشعار (أو المزامير)، والأسفار التاريخية (مثل يشوع وصموئيل). في المحصلة، بعد فترة من ظهور المسيحية، حدث وأن أصبحت مجموعة من هذه الكتب العبرية ـ اثنان وعشرين منهم تحديدًا ـ ينْظَرُ إليها على أنها القائمة القانونية للكتاب المقدَّس، أي الكتاب المقدس اليهودي في الوقت الحاضر ،الذي قبله المسيحيون باعتباره الجزء الأول من القائمة القانونية المسيحية ، أو ما يعرف بـ"العهد القديم" (2).

هذه الحقائق المختصرة حول اليهود ونصوصهم المكتوبة هي من الأهمية بمكان لأنها تمثل الخلفية بالنسبة للمسيحية، التي كانت أيضًا، منذ لحظاتاها الأولى، ديانة "كتابية". لقد بدأت المسيحية، بالطبع، من خلال يسوع، الذي كان نفسه حبرًا يهوديًا (Rabbi) (أي معلمًا) قَبِل سلطان التوراة، وربما الكتب اليهودية المقدسة الأخرى، ولقن تلاميذه تفسيره الخاص لهذه الكتب (3).

ومثل معلمي عصره الآخرين، أكد يسوع أن النصوص المقدسة، قانون موسى على وجه الخصوص، تمثل إرادة الله. لقد قرأ من هذه الكتب المقدسة وتعلَّمها وقام بتفسيرها، والتزم بها، وعلَّمها. لقد كان تلامذته منذ البداية يهودًا وكانوا ينظرون إلى الكتب التي تحوي تقاليد قومهم على أنها ذات قيمة خاصة. وهكذا بالفعل في بداية المسيحية، كان أتباع هذه الديانة الجديدة، أي تلاميذ يسوع، فريدين في الإمبراطورية الرومانية: فهم كانوا مثل اليهود من قبلهم، لكنهم لم يكونوا مثلَ أيِّ شخص آخر تقريبًا؛ فقد أوجدوا سلطة مقدسة في ثنايا كتب مقدسة؛ لقد كانت المسيحية في بدايتها ديانة الكتاب.


المسيحية باعتبارها ديانة الكتاب:

كما سنرى قريبا، لم تكن الأهمية التي احتلتها الكتب لدى المسيحية الأولى تعني أنَّ كلَّ المسيحيين كان بإمكانهم قراءة الكتب؛ بل على العكس من ذلك تماما، معظم المسيحيين الأوائل مثلهم مثل غالبية الشعب في أنحاء الإمبراطورية (بمن فيهم اليهود!)، كانوا أمِّيين. لكنَّ ذلك لا يعني أنَّ الكتب لعبت دورًا ثانويًا بالنسبة إلى الدين. في الحقيقة، كانت الكتب ذات أهمية رئيسية، بشكل مطلق، لحياة المسيحيين في مجتمعاتهم.


الرسائل المسيحية المبكرة:

أول ما يجب ملاحظته هو أن أنواعًا كثيرة ومتباينة من الكتابة كانت تحمل أهمية للمجتمعات المسيحية النامية في القرن الأول بعد وفاة يسوع؛ فأقدم البراهين التي بين أيدينا عن المجتمعات المسيحية تأتي من الرسائل التي كتبها القادة المسيحيون بولس الرسول هو أقدم وأفضل مثال لدينا.

أقام بولس الكنائس في أنحاء غرب المتوسط، بشكل أساسي في المراكز الحضرية وبصورة جلية عبر إقناع الوثنيين (أي أتباع الديانات الشركية داخل الإمبراطورية) بأن إله اليهود هو الإله الوحيد المستحق للعبادة، وأن يسوع كان ابنه الذي مات من أجل خطايا العالم وأنه سيعود قريبًا للدينوية على الأرض (انظر 1تسالونيكي 1 : 9-10).

ليس من الواضح إلى أيِّ حدٍ استخدم بولس الكتاب المقدس (أي نصوص الكتاب المقدس اليهودي) في محاولته لإقناع مُتنَصِّريه المُحْتَمَلين بأن رسالته هي رسالة الحق؛ لكنه يشير في واحدة من ملخصاته الهامة لرحلاته الوعظية إلى أن ما يعظ به هو أن "المسيح مات، حسب الكتب" (1 كورنثوس 15 : 3-4).

من الواضح أن بولس ربط بين أحداث موت المسيح وقيامته، بتفسيره لإحدى الفقرات الرئيسية في الكتاب المقدس اليهودي التي كان باستطاعته بشكل واضح باعتباره يهوديًّا واسع الثقافة أن يقرأها لنفسه وأن يفسرها لمستمعيه في محاولة لتنصيرهم كثيرا ما تكللت بالنجاح. وبعد أن يقوم بتحويل عددٍ من الناس إلى المسيحية في مكان معين، كان بولس ينتقل إلى مكان آخر ويحاول، وعادة ما يكون ذلك مصحوبا ببعض النجاح أن يحوّل الناس فيه أيضًا إلى المسيحية. لكنه في بعض الأحيان (وربما كثيرا؟) كانت تتناهى إلى مسامعه أخبارًا من إحدى مجتمعات المؤمنين الأخرى التي أقامها من قبل: وأحيانًا (أم هل نقول كثيرا؟) لم تكن هذه الأخبار جيدة؛ فأفراد المجتمع بدؤوا يسلكون سلوكا رديئا، وظهرت مشكلات الفجور الأخلاقي (Immorality)، و"المعلمون الكذبة" (false teachers) أصبحوا ينشرون تعاليم مضادة لتعاليمه ،بعض أفراد المجتمع بدءوا في اعتناق العقائد الباطلة.

وهكذا، عند سماعه هذه الأخبار، كتب بولس ردًا في رسالة إلى المجتمع، تتناول هذه المشكلات؛كانت هذه الرسائل شديدة الأهمية لحياة المجتمع، وفي النهاية أصبح عددٌ من هذه المجتمعات ينظر إلى هذه الرسائل باعتبارها كتابًا مقدسًا. حوالي ثلاث عشرة رسالة كتبت باسم بولس أصبحت جزءا من العهد الجديد. يمكننا تصوُّر الأهمية التي كانت تحتلها هذه الرسائل في مراحل الحركة المسيحية الأولى من أول الكتابات المسيحية التي لدينا، أي رسالة بولس الأولى إلى أهل تسالونيكي، التي عادة ما تؤرخ بعام 49 ميلاديًا تقريبًا (4)، أي بعد عشرين عامًا تقريبا من موت يسوع، وقبل عشرين عامًا تقريبًا من كتابة أيٍ من روايات الأناجيل عن حياته.

ينهي بولس رسالته بقوله: "سَلِّمُوا عَلَى الإِخْوَةِ جَمِيعاً بِقُبْلَةٍ مُقَدَّسَةٍ؛ أُنَاشِدُكُمْ بِالرَّبِّ أَنْ تُقْرَأَ هَذِهِ الرِّسَالَةُ عَلَى جَمِيعِ الإِخْوَةِ الْقِدِّيسِينَ" (1 تسالونيكي 5 :26 - 27).

لم يكن هذا الخطاب خطابا تقليديًا يقرأه ببساطة شخصٌ ما معنيٌّ به؛ إن الرسول يُصِرُّ على أن يُقرأ هذا الخطاب، وأن يتمَّ قبولُه باعتباره بيانًا رسميًا منه، كمؤسسٍ للمجتمع. كانت الخطابات من أجل ذلك يتم نشرها في كل مكان تتواجد به الجماعات المسيحية منذ أقدم العصور. كانت الرسائل حلقة الاتصال بين المجتمعات التي كانت تعيش في أماكن مختلفة؛ فقد وحَّدت إيمان و طقوس المسيحيين؛ وذكرت ما كان يفترض أن يؤمن به المسيحيون وكيف يفترض أن يكون سلوكهم. كانت تقرأ بصوت عالٍ على أفراد المجتمع في اجتماعاتهم ـ حيث لم يكن معظم المسيحيين، كما أوضحت ،مثلهم في ذلك مثل الغالبية العظمى من الآخرين، باستطاعتهم قراءة الرسائل بأنفسهم.


أصبح عددٌ من هذه الرسائل جزءًا من العهد الجديد . العهد الجديد ، في الواقع ، يتشكل بشكل كبير من رسائل بولس و القادة المسيحيين الآخرين للمجتمعات المسيحية (الكرونثيون و الغلاطيون على سبيل المثال) والأفراد المسيحيين (فيليمون كمثال). أضف إلى هذا أن الرسائل التي بقيت حية -منها إحدى وعشرين متضمنة في العهد الجديد- هي فقط جزء صغير من هذه الكتابات. بالنسبة لبولس وحده، يمكننا أن نفترض أنه كتب رسائل كثيرة أخرى أكبر من من تلك المنسوبة إليه في العهد الجديد؛ فقد كان أحيانًا، يذكر رسائل أخرى لم يعد لها وجود؛ ففي 1 كورنثوس 5:9، على سبيل المثال، ذكر رسالة كان قد كتبها قبل أن يكتب الرسالة إلى الكورنثيين (في وقت ما قبل الرسالة الأولى إلى الكورنثيين). وذكر رسالة أخرى أرسلها إليه بعض الكورنثيين (1 كور 3:1)، لكنَّ أثرًا لم يبق لأيٍّ من هذه الرسائل.

ارتاب العلماء لفترة طويلة في أن بعضًا من هذه الرسائل الموجودة في العهد الجديد منسوبةً لبولس هي في الحقيقة من كتابات أتباعه المتأخرين ونسبت إليه بالباطل (5). ولو صحَّت هذه الشكوك ،فستعطي دليلًا لا شك فيه على أهمية الرسائل عند الحركة المسيحية الأولى: فلكي يجذب الإنسان الأسماع إلى وجهات نظره، كان عليه أن يكتب رسالة ممهورة بتوقيع الرسول مفترضًا أن ذلك سيمنحها حجمًا من الموثوقية جديرًا بالاعتبار.

إحدى هذه الرسائل التي يزعمون أنها منسوبة إليه هي الرسالة إلى أهل كولوسي ، التي تؤكد بحد ذاتها أهمية الرسائل و هي تذكر رسالة أخرى لم يعُد لها الآن وجود: "وَمَتَى قُرِئَتْ عِنْدَكُمْ هَذِهِ الرِّسَالَةُ فَاجْعَلُوهَا تُقْرَأُ ايْضاً فِي كَنِيسَةِ اللاَّوُدِكِيِّينَ، وَالَّتِي مِنْ لاَوُدِكِيَّةَ تَقْرَأُونَهَاأنْتُمْ أيْضاً" (1كولوسي 4 : 16). من الواضح أن بولس -إما هو نفسه، أو شخص آخر يكتب باسمه- كتب رسالة إلى مدينة اللاودكية المجاورة، هذه الرسالة أيضًا مفقودة (6).

النقطة التي أدندن حولها هي أن الرسائل كانت تحمل أهمية لحياة المجتمعات المسيحية الأولى. هذه الرسائل كانت هي الوثائق المكتوبة التي كتبت لترشدهم في إيمانهم و عباداتهم؛ فقد وحَّدت تلك الكنائس برباط واحد، وساعدت على جعل المسيحية ديانة شديدة الاختلاف عن غيرها من الأديان الأخرى المنتشرة في أنحاء الامبراطورية، وذلك في أن المجتمعات المسيحية المتعددة التي تتوحد من خلال هذا الأدب المشترك الذي تشاركوه هنا وهنالك (قارن مع كولوسي 4 :16)، كانت ملتزمة بالتعاليم الموجودة في الوثائق المكتوبة أو "الكتُب". ولم تكن الرسائل هي الوحيدة التي حملت أهمية بالنسبة لهذه المجتمعات؛ فلقد كان هناك أدبٌ في الحقيقة يتم انتاجه ونشره وقراءته والالتزام به على نطاق شديد الاتساع من خلال المسيحيين الأُوَل، وهو أدب شديد الاختلاف عن أيِّ شئ آخر شهده العالم الروماني الوثني على الإطلاق، وبدلا من وصف كل هذا الأدب بتفصيل مملّ، يمكنني الآن ببساطة أن أذكر بعض الأمثلة من تلك الأنواع من الكتب التي كانت تُكتَب وتُوَزَّع.


الأناجيل المبكرة:

كان المسيحيون بالطبع معنيِّين بمعرفة معلومات أكثر عن حياة وتعاليم، وموت الرب و قيامته؛ ولذلك كُتِبَتْ العديد من الأناجيل التي قامت بتسجيل التقاليد المتصلة بحياة يسوع، أربعة من هذه الأناجيل أصبحت هي الأوسع استخدامًا -وهي تلك التي كتبها متَّى، ومرقس، ولوقا، ويوحنا في ثنايا العهد الجديد- لكنَّ أناجيلا أخرى كثيرة كُتِبت: منها على سبيل المثال: الأناجيل المنسوبة إلى فيليبُّس تلميذ يسوع، ويهوذا توما أخيه، ورفيقته مريم المجدلية، كما فقدت أناجيل أخرى بعضها من الأناجيل الأكثر قِدمًا. نعلم ذلك على سبيل المثال من إنجيل لوقا الذي يشير مؤلفه أنه يسترشد في كتابة روايته ب"كثيرٍ" من المؤلَّفات السابقة (لوقا 1 : 1)،التي من الواضح جدا أنها لم يعد لها وجود . إحدى هذه الروايات الأكثر قِدَمًا ربما كانت هي المصدر الذي حدده العلماء تحت اسم المصدر "Q"، والذي يحتمل أنه كان رواية مكتوبة تشتمل على أقوال يسوع بشكل أساسيّ، واستخدمها كل من لوقا ومتَّى كمصدرٍ لكثير من تعاليم يسوع التي انفردا بها (على سبيل المثال صلاة الرب والتطويبات) (7). فسَّر بولس وآخرون حياة يسوع، كما رأينا، على ضوء الكتابات المقدسة اليهودية. هذه الكتب أيضًا ـ أي كلا من الأسفار الخمسة و الكتابات اليهودية الأخرى، مثل أسفار الأنبياء والمزامير ـ كانت تُستخدم على نطاقٍ واسعٍ بين المسيحيين الذين سبروا أغوارها ليروا ما يمكنها كشفه بخصوص إرادة الله كما تحققت في شخص المسيح خاصةً. كانت نسخ من هذا الكتاب المقدس اليهودي مترجمة في العادة باليونانية (تسمى السبعينية)، منتشرة على نطاق واسع إذًا في المجتمعات المسيحية الأولى كمصادر للدراسة والتأمل.


الأعمال المبكرة للرسل:

ليست حياة يسوع فحسب، بل أيضًا حياة الأتباع الأوائل كانت محطًّا لاهتمام المجتمعات المسيحية المتنامية في القرنين الأول والثاني. ليست مفاجأة إذًا أن نرى أن قصص الرسل ـ مغامراتهم وأعمالهم التبشيرية، خاصة بعد موت وقيامة يسوع- أصبحت تشغل مكانة هامة عند المسيحيين المهتمين بمعرفة المزيد من المعلومات عن دينهم. إحدى هذه القصص، أي سفر أعمال الرسل، نجحت في النهاية في أن تصبح جزءًا من العهد الجديد. لكنَّ قصصًا أخرى كثيرة كُتِبَتْ عن الرسل كلٌّ على حدى، مثل تلك الموجودة في أعمال بولس، وأعمال بطرس، وأعمال توما، أعمال أخرى نجى بعضها من الضياع ولكن في صورة مقاطع صغيرة فحسب، بينما فُقِدَ البعض الآخر تمامًا.


الرؤى المسيحية:

كما أشرت، نشر بولس (مع الرسل الآخرين) تعليمًا يقول إن يسوع كان مُزمعًا أن يعود من السماء للحكم على الأرض. النهاية الوشيكة لكل الأشياء كانت أمرًا سَحَرَ باستمرار لُبَّ المسيحيين الأوائل الذين في العموم كانوا يتوقعون أن الله سيتدخل قريبًا في شئون العالم ليقهر قوى الشر وليقيم هنا على الأرض مملكته الخيِّرة، وعلى رأسها يسوع. بعض المؤلفين المسيحيين كتبوا قصصًا تنبُّؤيَّة
(prophetic accounts) عمّا سيحدث في هذه النهاية الكارثية للعالم كما نعرفه. لقد كان عند اليهود أعمال حاذت قصبة السبق في هذا النوع من الأدب "الرؤَوِيّ" (apocalyptic)، في كتاب دانيال على سبيل، في الكتاب المقدس اليهودي، أو كتاب أخنوخ1 (book of 1 Enoch) في الأبوكريفا اليهودية. ومن بين الرؤى المسيحية دخلت واحدة في النهاية إلى العهد الجديد: رؤيا يوحنا. بينما كانت رؤى أخرى من بينها رؤيا بطرس والراعي لهرماس شائعة القراءة في عددٍ من المجتمعات المسيحية في القرون الأولى للكنيسة.


نُظُم الكنيسة:

تضاعفت المجتمعات المسيحية ونمت ،بدءًا من عصر بولس ولتتواصل خلال الأجيال التي جاءت من بعده. كانت الكنائس المسيحية في الأصل ،أو على الأقل تلك التي أقامها بولس نفسه من المجتمعات التي يمكننا أن نطلق عليها مجتمعاتٍ ذات مواهب قيادية (charismatic)؛ فقد كانوا يؤمنون بأن كل فرد من المجتمع قد أُوتِيَ "موهبةً" (كاريزما باليونانية) من الروح القدس لمساعدة المجتمع في تسيير حياته الحاضرة: على سبيل المثال، هناك مواهب التعليم، موهبة الإدارة، موهبة إعطاء الصدقات، موهبة الشفاء، وموهبة التنبوء. إلا أنه في نهاية المطاف، حينما بدأت التنبؤات الخاصة بالنهاية الوشيكة للعالم في الاضمحلال بدى واضحًا أن هناك حاجة لإيجاد بنية كنسية أكثر صرامة خاصة إذا كانت الكنيسة ستظل قائمة لفترة طويلة (قارن 1 كرونثوس 11؛ مع متّى 16،18). بدأت الكنائس الواقعة على جانبي البحر المتوسط، ومن بينها تلك التي أسسها بولس، في تعيين قادة سيتولُّون المسؤولية واتخاذ القرارات (بدلا من النظر إلى كل فرد من أفراد الكنيسة باعتباره "متساويًا" في الموهبة من الروح)؛ فبدأت القواعد الخاصة بكيفية عيش المجتمع المسيحي معًا، وبكيفية ممارسته لشعائره المقدسة (العماد والقربان المقدس على سبيل المثال)، وتعليم الأعضاء الجدد..إلخ، يتمُّ صياغتها. وسرعان ما بدأ تدوين الوثائق التي تذكر الكيفية المثلى لتنظيم وهيكلة الكنيسة. لقد أصبح ما يعرف ب"النظم الكنسية" أمرًا ذا أهمية متزايدة في القرنين المسيحيين الثاني والثالث،لكن في العام 100 بعد الميلاد تقريبًا كان الكتاب المعروف باسم "ديداخي (تعليم) الرسل الاثنى عشر" هو أول (حسب ما نعلمه) ما كتب بالفعل، وخلال زمن قصير تبعه العديد من الكتب.


كتب اللاهوت الدفاعي المسيحي:

عندما كانت المجتمعات المسيحية في مرحلة النشوء، كانت تجابه أحيانًا بمعارضة من اليهود والوثنيين الذين رأوا في هذا الإيمان الجديد تهديدًا وارتابوا في انخراط أتباعه في طقوس لا أخلاقية ومدمرة للمجتمع (كما ينظر اليوم إلى الحركات الدينية الجديدة في أحيان كثيرة بالريبة ذاتها تماما). هذه المعارضة أدت في أحيان كثيرة إلى وقوع اضطهادات للمسيحيين في مجتمعهم المحلي؛ وفي النهاية أصبحت الاضطهادات ذات طابع "رسميّ"، حيث تدخلت السلطات الرومانية للقبض على المسيحيين وفي محاولة لإجبارهم على الرجوع إلى معتقداتهم الوثنية القديمة. وعندما كانت المسيحية تنمو، نجحت في النهاية في استمالة المثقفين إلى الإيمان، وهم الذين كانوا مؤهلين جيدًا لمناقشة الاتهامات التي رُفِعَت في وجوه المسيحيين ودحضها.

كتابات هؤلاء المثقفين يطلق عليها أحيانًا الدفاعيات، من الكلمة اليونانية (أبولوجيا) المقابلة لكلمة "دفاع". المدافعون كتبوا أعمالا فكرية دفاعًا عن الإيمان الجديد ، محاولين إظهار أن المسيحية هي ديانة تبشر بالقيم الأخلاقية ،وهي بعيدة كل البعد عن أن تكون تهديدًا للبناء الاجتماعي للإمبراطورية الرومانية، وأن المسيحية تمثل الحقيقة المطلقة في توجهها نحو عبادة الإله الحق وهي بعيدة كل البعد عن أن تكون تلك الديانة الخطرة المبنية على الخرافات.

هذه الكتابات الدفاعية كانت ذات أهمية للقراء المسيحيين الأوائل؛ لأنها أمدتهم بالحجج التي يحتاجونها عند تعرضهم للاضطهاد. هذا النوع من الدفاع نشأ بالفعل في العصر الذي كُتِبَ فيه العهد الجديد، على سبيل المثال، في 1بطرس 3:15 نقرأ "مُسْتَعِدِّينَ دَائِماً لِمُجَاوَبَةِ كُلِّ مَنْ يَسْأَلُكُمْ عَنْ سَبَبِ الرَّجَاءِ الَّذِي فِيكُمْ"، وفي سفر الأعمال حيث يدافع بولس والرسل الآخرون عن أنفسهم ردًا على الاتهامات التي وجهت إليهم، قريبًا من النصف الثاني من القرن الثاني، كانت الكتابات الدفاعية قد أصبحت شكلا معروفًا من الكتابة المسيحية.


سِيَر الشهداء المسيحيين:

قريبا من الفترة الزمنية ذاتها التي بدأ فيها تدوين الكتابات الدفاعية، بدأ المسيحيون في تدوين روايات عن اضطهاداتهم و الاستشهادات التي وقعت نتيجة لهذه الاضطهادات. هناك بعض الوصف للأمرين كليهما في سفر الأعمال الموجود في العهد الجديد،حيث كانت المعارضة للحركة المسيحية، وإلقاء القبض على الزعماء المسيحيين، وإعدام أحدهم (ستيفانوس) على الأقل تشكل جزءا هاما من الحكي داخل السفر (انظر أعمال 7). بعد ذلك، في القرن الثاني الميلادي، بدأت سير الشهداء في الظهور، أول ما ظهر منها كان استشهاد بوليكاربوس الذي كان قائدا مسيحيًّا مرموقًا وكان أسقفًا لكنيسة "سميرنا"، في آسيا الصغرى، تقريبا طوال النصف الأول من القرن الثاني كاملا. قصة موت بوليكاربوس موجودة في رسالة كتبها أفراد كنيسته، حيث كتبوها لمجتمع مسيحي آخر.

بعد ذلك مباشرة ، بدأت قصص الشهداء الآخرين في الظهور، هذه القصص أيضا كانت واسعة الانتشار بين المسيحيين؛ لأنها منحت هؤلاء الذين كانوا محلا للاضطهاد من أجل الإيمان تشجيعا، ومنحتهم البوصلة التي بها يعرفون طريقهم في مواجهة أقصى التهديدات مثل الوقوع في الأسر، والتعذيب و الموت.


المقالات ضد الهراطقة:

لم تقتصر المشكلات التي واجهت المسيحيين على التهديدات الخارجية المتمثلة في الاضطهاد؛ فقد كان المسيحيون منذ أقدم العصور، يعون أن ثمة تنوُّعًا في تفسير "الحقيقة" الدينية كان موجودا بين صفوفهم؛ فها هو الرسول بولس يشتكي من "المعلمين الكذبة" -على سبيل المثال- في رسالته إلى الغلاطيين. فإذا قرأنا الروايات الموجودة، يمكننا أن نرى بوضوح أن هؤلاء الخصوم لم يكونوا من الغرباء؛ فقد كانوا مسيحيين فهموا الدين بطرق مختلفة على نحوٍ مطلق. وللتعامل مع هذه المشكلة بدأ القادة المسيحيون في كتابة المقالات التي تتصدى "للهراطقة" (أي الذين اختاروا الطريق الخطأ لفهم الإيمان)؛ تمثل بعض رسائل بولس، إلى حدٍ ما، أقدم النماذج لهذا النوع من المقال. في النهاية أصبح المسيحيون من كل الاتجاهات معنيين بمحاولة تحديد "التعليم الحق" (وهو المعنى الحرفي لكلمة "الأرثوذكسية") وبالتصدي لهؤلاء الذين يدافعون عن التعاليم الباطلة.

هذه المقالات المضادة للهرطقات أصبحت مَيزة مهمة من ميزات المشهد الأدبي المسيحي المبكر. الأمر الطريف هو أنَّ مجموعات" المعلمين الكذبة" كتبوا هم أيضًا مقالات ضد "المعلمين الكذبة"، حتى إن المجموعة التي أقامت ذات مرة وللأبد ما أصبح المسيحيون يؤمنون به ( هؤلاء مسؤولون ، على سبيل المثال، عن العقائد التي وصلت إلينا اليوم) أصبحت تتعرض أحيانا لانتقادات المسيحيين الذين اعتنقوا عقائدا اعتبرت في النهاية تعاليم باطلة. علمنا ذلك من خلال بعض الاكتشافات الحديثة نسبيًا للآداب "الهرطوقية"، التي يصر فيها من يُعْرَفُون بالهراطقة على أن رؤاهم هي الرؤى الصحيحة و أن تلك التعاليم التي يعتنقها قادة الكنيسة "الأرثوذوكسية" هي تعاليم باطلة (8).


التفاسير المسيحية المبكرة:

مساحة واسعة من الجدل حول العقيدة الصحيحة والعقيدة الباطلة تم الزج بها في تفسير النصوص المسيحية، ومن ضمنها "العهد القديم" الذي ادعى المسيحيون أنه جزء من كتابهم المقدس.

هذا يبين مرة أخرى كيف احتلت النصوص موقعا مركزيًّا بالنسبة للمجتمعات المسيحية المبكرة، في النهاية بدأ المؤلفون المسيحيون في كتابة تفاسير هذه النصوص ليس بالضرورة بغرض دحض التفاسير الباطلة على نحوٍ مباشرٍ (على الرغم من أن ذلك كثيرا ما كان في الحسبان أيضًا)، لكن أحيانا ببساطة لتفسير معنى النصوص ولإظهار علاقاتها بالحياة والممارسة المسيحيتين. من الطريف أن أول التفاسير المسيحيَّة التي نعرفها لأيِّ نص من نصوص الكتاب المقدس كان كاتبه هو واحد ممن يسمَّوْن هراطقة، وهو الغنوصي المسمى هيراكليون الذي عاش في القرن الثاني، والذي كتب تفسيرًا لإنجيل يوحنا (9).

في النهاية أصبح وجود التفاسير ،والحواشي التفسيرية ،والتفاسير التطبيقية، والعظات الدينية حول النصوص أمرًا شائعًا داخل المجتمعات المسيحية في القرنين الثالث والرابع.

لقد كنت أقوم بتلخيص الأنواع المختلفة من الكتابات التي كانت ذات أهمية لحياة الكنائس المسيحية الأولى، كما أتمنى أن يكون واضحًا للعيان أنَّ الكتابة كانت هي الظاهرة الأكثر أهمية بالنسبة للكنائس والمسيحيين المنضويين تحتها. لقد احتلت الكتب مكان القلب من الديانة المسيحية ـ على عكس الديانات الأخرى داخل الإمبراطورية ـ منذ البداية؛ فالكتب قصَّت علينا الروايات التي حكاها المسيحيون مرارًا وتكرارًا عن يسوع وتلامذته؛ وزودت الكتبُ المسيحيين بالتعاليم التي ينبغي ان يؤمنوا بها وبالطريقة التي يعيشون حياتهم من خلالها؛ كما وحَّدَت الكتب بين المجتمعات المنفصلة جغرافيًا لتنشأ كنيسة واحدة عالمية؛ ودعَّمت الكتبُ المسيحيين في أيام الاضطهاد وأعطتهم نماذج من التضحية بالذات ليتمثلوها في مواجهة التعذيب والموت؛ لم تعطِهم الكتب فحسب نصيحة نافعة بل صحَّحت العقيدة، وحذرت من تعاليم الآخرين الباطلة و عجَّلت من قبول المعتقدات الصحيحة (الأرثوذكسية)؛ وسمحت الكتب للمسيحيين أن يعرفوا المعنى الصحيح للكتابات الأخرى، معطية إياهم إرشاداتٍ عما ينبغي أن يفكروا فيه، وكيف يتعبدُّون، وكيف ينبغي أن يكون سلوكهم، لقد كانت منزلة الكتب في القلب تمامًا من حياة المسيحيين الأوائل.


تشكل قائمة الكتب الرسمية المسيحية (القانون):

في النهاية ،بعض هذه الكتب المسيحية بدأ المسيحيون ينظرون إليها ليس فقط باعتبارها كتبًا تستحق القراءة وإنما أيضًا باعتبارها كتبًا موثوقًا بها تمامًا كمصدر تستقى منه المعتقدات والممارسات الخاصة بالمسيحيين... لقد صارت هي الكتاب المقدس.


بدايات القانون المسيحي:

لقد كانت عملية تشكُّل القائمة الرسمية للكتاب المقدس المسيحي (Christian canon of s cripture طويلة ومعقدة، ولست بحاجة إلى أن أدخل في كل التفصيلات هنا (10). بدأ، كما أشرت بالفعل من قبل، المسيحيون بقانون مبنيٍّ على أن منشئ ديانتهم هو نفسه معلمٌ يهوديٌّ اعترف بالتوراة ككتاب مقدسٍ موثوقٍ به موحى به من الله، وعلَّم تلاميذه تفسيره الشخصيّ له. كان المسيحيون الأوائل أتباعًا ليسوع الذي قبِلَ الكتب التي يتكون منها الكتاب المقدس اليهودي (الذي لم يكن قد نُصِّبَ حتى هذه اللحظة و إلى الأبد ك"قانون") باعتباره كتابهم المقدس الخاص. في اصطلاح مؤلفي العهد الجديد، بما فيهم بولس، أقدم مؤلفينا، يشير مصطلح "الكتابات المقدسة (s-riptures)" إلى الكتاب المقدس اليهودي، وهو مجموعة الكتب التي كان الرب قد أعطاها لشعبه والتي تنبأت بالمسيح الآتي، يسوع.

مع ذلك، لم يدم الأمر طويلا حتى بدأ المسيحيون في قبول الكتابات الأخرى باعتبارها مساوية للكتب المقدسة اليهودية. هذا القبول ربما كان له جذوره في التعاليم الأصلية ليسوع نفسه، حيث أخذ تلاميذه تفسيره للكتاب المقدس باعتباره على قدم المساواة في الموثوقية مع كلمات الكتاب المقدس نفسه. من المحتمل أن يكون يسوع قد شجع هذا الفهم عبر الطريقة التي عبر بها عن بعض تعاليمه؛ ففي أثناء موعظة الجبل ،على سبيل المثال، تم تصوير المسيح وكأنه يذكر القوانين التي أعطاها الرب لموسى، ثم يعطي تفسيره الخاص الأكثر تشددا لها مشيرا إلى أن تفسيره هو الجدير بالاعتماد والقبول. هذا يوجد فيما يعرف في إنجيل متى، في الفصل 5 ب"المقابلات"، يقول يسوع ،" «قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَقْتُلْ(وهي واحدة من الوصايا العشر) وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلاً يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ « ما يقوله يسوع ، في سياق تفسيره للشريعة ،يبدو مماثلا في الموثوقية للشريعة نفسها . أو يقول يسوع ،" قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَزْنِ.(وهي وصية أخرى من الوصايا العشر) وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ." في بعض المناسبات تبدو هذه التفسيرات الموثوقة للكتاب المقدس، في الواقع، ناسخةً لشرائع الكتاب المقدس (أي اليهودي) ذاتها. على سبيل المثال ،يقول يسوع: "وَقِيلَ: مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَلْيُعْطِهَا كِتَابَ طَلاَقٍ،(وهو أمرٌ موجودٌ في التثنية 24 :1) أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إِلاَّ لِعِلَّةِ الزِّنَى يَجْعَلُهَا تَزْنِي وَمَنْ يَتَزَوَّجُ مُطَلَّقَةً فَإِنَّهُ يَزْنِي."

من العسير أن نفهم كيف يستطيع شخصٌ أن يتبَع أمر موسى بإعطاء كتاب طلاق، لو لم يكن الطلاق في حقيقة الأمر خيارًا متاحًا. على أية حال، أصبحت تعاليم يسوع ينظر إليها باعتبارها تعاليم في الرتبة ذاتها التي تحتلها شرائع موسى ـ التي هي شرائع التوراة ذاتها. هذا الأمر أصبح أكثر وضوحًا فيما بعد في زمن العهد الجديد ، ففي الرسالة الأولى إلى تيموثي، التي من المفترض أن بولس هو كاتبها وإن كان العلماء كثيرا ما يعدُّونها مكتوبة بمعرفة أتباعٍ متأخرين نسبوها إليه . في 1 تيموثاوس 5 : 18 يستحث المؤلف قراءه إلى أن يدفعوا مالا إلى من يعظون بينهم ، ويدعم هذا الحث باقتباسٍ من "الكتاب المقدس". الأمر الطريف أنه حينئذ اقتبس فقرتين، اقتبس واحدة من التوراه ("لاَ تَكُمَّ ثَوْراً دَارِسًا" تثنية 25 : 4) والأخرى جاءت من كلمات يسوع ("وَالْفَاعِلُ مُسْتَحِقٌّ أُجْرَتَهُ")؛ انظر لوقا 10 : 7).

يبدو أنَّ أقوال يسوع، حسب وجهة نظر هذا المؤلف ، كانت على قدم المساواة بالفعل مع الكتاب المقدس، ولم تكن تعاليم يسوع فحسب هي التي كان الجيلان المسيحيان الثاني والثالث يعتبرانها جزءا من الكتاب المقدس، بل اعتبرت كتابات رسله أيضا كذلك. الدليل على ذلك يأتي من آخر أسفار العهد الجديد كتابةً، أي رسالة بطرس الثانية، وهو السفر الذي يعتقد معظم علماء النقد أنه لم يكتب في الحقيقة بقلم بطرس وإنما بقلم واحدٍ من أتباعه ، الذي كتبه تحت اسم مستعار؛ ففي 2 بطرس3 يشير المؤلف إلى أن المعلمين الكذبة يحرِّفون معنى رسائل بولس ليجعلوها تقول ما يريدونها أن تقوله "يُحَرِّفُهَا غَيْرُ الْعُلَمَاءِ وَغَيْرُ الثَّابِتِينَ كَبَاقِي الْكُتُبِ أَيْضا" (2 بط 3: 16).

يبدو أن رسائل بولس ً قد فهمت ها هنا على أنها كتاب مقدس. بعد عصر العهد الجديد بقليل، كانت بعض الكتابات المسيحية يتمُّ اقتباسها كنصوص رسمية نافعة لحياة ومعتقدات الكنيسة. الرسالة التي كتبها في بداية القرن الثاني بوليكاربوس، أسقف سميرنا المذكور سابقا، تعتبر مثالا بارزًا.

لقد طلبت كنيسة فيليبي النصيحة من بوليكاربوس فيما يتعلق تحديدًا بقضية تمَسُّ واحدًا من القادة الذي كان من الواضح أنه تورط في بعض أشكال سوء الإدارة المالية داخل الكنيسة (ربما اختلاس أموال تخص الكنيسة). رسالة بوليكاربوس إلى أهل فيليبي التي بقيت إلى الآن هي رسالة مثيرة لعددٍ من الأسباب، ليس أقلها نزوعها إلى الاقتباس من كتابات أقدم تخص المسيحيين؛ ففي أربعة عشر فصلا فقط ، يقتبس بوليكاربوس أكثر من مائة فقرة معروفة من تلك الكتابات الأقدم، مصرحًا بسلطانها على الوضع الذي كان أهل فيليبي يواجهونه (على العكس من اثني عشر اقتباسا فقط من الكتابات المقدسة اليهودية)؛ وفي أحد المواضع يبدو وكأنه يطلق على رسالة بولس إلى أهل أفسوس كتابا مقدسا، كان من المعتاد كثيرا أن يقتبس ببساطة من كتابات أقدم أو يشير إليها، مصوِّرًا للمجتمع كونها كتاباتٍ موثوقًا بها (11).


دور الطقوس الدينية المسيحية في تشكيل القائمة الرسمية للكتاب المقدس:

في وقت ما قبل تدوين رسالة بوليكاربوس ،نعلم أن المسيحيين كانوا يستمعون إلى الكتب المقدسة اليهودية تُقرأ أثناء تأديتهم الطقوس التعبديِّة. كاتب رسالة تيموثي 1 ،على سبيل المثال، يحفِّز مستلم الرسالة أن: "َ أعْكُفْ عَلَى الْقِرَاءَةِ (أي العامَّة) وَالْوَعْظِ وَالتَّعْلِيمِ."(4 : 13). وكما رأينا في حالة الرسالة إلى أهل كولوسي ،يبدو أن رسائل المسيحيين كانت تُقرأ على المجموعة المجتمعة أيضًا. ونعلم أيضًا أنه قريبًا من منتصف القرن الثاني ، كان جزءٌ كبيرٌ من طقوس العبادة المسيحية يتضمن القراءة العامة للكتاب المقدس. في فقرة كثيرا ما تناولتها ألسنة المتناقشين من كتابات المفكر المسيحي و عالم الدفاعيات جوستينوس الشهيد، على سبيل المثال، لدينا إشارة إلى ما تضمنته الخدمة الكنسية في مدينته الأم روما:

"في اليوم المسمى يوم الأحد، كلُّ من يعيشون في المدن أو في البلد يجتمعون سويًا في مكان واحدٍ، وتُقرأ مذكرات الرسل أو كتابات الأنبياء، بحسب ما يسمح الوقت، ثمَّ، لما يتوقف القارئ، يلقي القسيس التعاليم، ويعظ بضرورة احتذاء هذه الأعمال الطيبة" (1 أبولوج 67).

يبدو على الأرجح أن الاستخدام الليتورجي (الطقسي) لبعض النصوص المسيحية -على سبيل المثال- أعلت "مذكرات الرسل" التي عادةً ما ينظر إليها على أنها هي نفسها الأناجيل، من مكانة هذه النصوص لدى معظم المسيحيين حتى إنها كانت تُعَدُّ جديرة بالاعتماد والقبول (authoritative) على قدم المساواة مع الكتابات المقدسة اليهودية ("كتابات الأنبياء") ذاتها.

(من كتاب Misquoting Jesus)

ترجمة كرم شومان عضو فريق الترجمة بمنتدي حراس العقيدة


بقية هذا الفصل دور مارقيون في تشكُّل قاءمة الطتاب المقدس

الفصول التالية

الفصل الثاني نسخ ( تدوين ) الكتب المقدسة - الفصل الثالث إختلاف مخطوطات العهد الجديد - الفصل الرابع البحث عن أصول الكتاب المقدس

الفصل الخامس مناهج النقد النصي - الفصل السادس التحريف لدوافع لاهوتية - الفصل السابع التحريف لأسباب اجتماعية - الخاتمة

____________________________________


هوامش

(1) يستخدم العلماء في عالم اليوم هذا المصطلح (Common Era) بديلا عن الشكل القديم (Anno domini) أو (A.D ) التي تعني: "في يوم ميلاد الرب"، لأن الأول منهما مناسب أكثر لكلّ الأديان.

(2) للاطلاع على وصف إجمالي يتناول تشكل القائمة الرسمية للكتاب المقدس اليهودي ، انظر مادتي ("Canon, Hebrew Bible") في كتاب "جيمس ساندر " (the Anchor Bible Dictionary) المطبوع بتحرير ديفيد نويل فريدمان (نيويورك ، دابلداي ،1992)، الجزء 1 ص 838 - 852.

(3) إن إطلاق لقب "ربِّي" أو "معلم" على يسوع لا يعني أنني أقول إن المسيح حظي باحترام رسمي داخل الديانة اليهودية لكنني ببساطة أعني أنه كان معلمًا يهوديًّا. لم يكن بالطبع معلمًا فحسب، ربما يمكن من الأفضل اعتباره كـ"نبيّ".

للاطلاع على المزيد من النقاشات، انظر كتاب بارت إرمان: يسوع: النبيّ الرؤوي للألفية الجديدة (Apocalyptic Prophet of the New Millennium) من مطبوعات (جامعة أكسفورد نيويورك . القسم المطبوعات،1999).

(4) لمعرفة معنى هذا الاختصار انظر هامش رقم 1 بالأعلى.

(5) سيشمل هذا الثلاث رسائل (الثلاثية البوليسية "Deutero-Pauline") إلى أهل كولوسي، أهل أفسس، والرسالة 2 إلى أهل تسالونيكي وبشكل خاص الرسائل "الرعوية " "pastoral" الثلاث وهي الأولى والثانية إلى تيموثي و الرسالة إلى تيطس.

للاطلاع على أسباب تشكك العلماء في صحة نسبة هذه الرسائل إلى بولس نفسه، انظر كتاب بارت إرمان "العهد الجديد: مقدمة تاريخية للكتابات المسيحية المبكرة (The New Testament :A Historical Introduction to the Early Christian Writings), الطبعة الثالثة (نيويورك: جامعة أكسفور .قسم المطبوعات، 2004)، الفصل 23.

(6) في وقت متأخر، كانت هناك العديد من الرسائل المزيفة تدعي أنها الرسالة إلى اللاوديكيين. ما يزال لدينا واحدة منها،التي عادة ما تدخل في إطار ما يعرف بأبوكريفا العهد الجديد. وهي تزيد قليلا عن كونها مزيج من أقوال وجُمَلٍ بولسية (أي منسوبة إلى بولس)، تم ترقيعها معًا ليبدو مشابها لواحدة من رسائل بولس. هناك رسالة أخرى تسمى "إلى اللاوديكيين" تزييفها من خلال مارقيون، المهرطق الذي عاش في القرن الثاني، أمر واضح؛ إلا أن هذه الرسالة لم يعد لها وجود.

(7) على الرغم من أن المصدر Q لم يعد له وجود، هناك أسباب معقولة للاعتقاد بأنه كان وثيقة حقيقية ـ حتى لو كنا لا نعرف على وجه اليقين محتوياته الكاملة. انظر كتاب "العهد الجديد" لإرمان، في الفصل ال6 . الاسم Q هو اختصار للكلمة الألمانية Quelle، التي تعني "مصدر" (الذي هو مصدر لكثير من مادة لوقا ومتّى من أقوال المسيح).

(8) كمثال ،في الرسائل(tractates) المعروفة باسم رؤيا بطرس والمقالة الثانية لشيث العظيم (Treatise of the Great Seth)، اللذان اكتُشفا كلاهما في 1945 في مخبأ للوثائق "الغنوصية" قريبا من قرية نجع حمّادي في مصر.

للاطلاع على الترجمة، انظر مكتبة نجع حمادي بالإنجليزية ،لجيمس .م.روبنسون، الطبعة الثالثة (سان فرانسيسكو:هاربر سان فرانسيسكو ،1988 )،362 - 378.

(9) اسم غنصويين مأخوذ من كلمة جنوسيس اليونانية ،التي تعني "معرفة". الغنوصية تشير إلى مجموعة من الأديان من القرن الثاني فصاعدًا وهي تؤكد على أهمية الحصول على المعرفة السرية (secret knowledge) من أجل الخلاص من هذا العالم المادي الشرير.

(10) للاطلاع على نقاش أكثر تفصيلا "Lost Christianities:The Battles for ******ure and the Faiths We Never Knew(New York:Oxford Univ.Press,2003) خاصةً الفصل 11.

للاطلاع على معلومات أكثر العملية برمتها يمكن الحصول عليها في كتاب هاري جامبل""The New Testament Canon:Its Making and Its Meaning مطبعة (فيلادلفيا:فورترس برس،1985). للاطلاع على شرح نموذجي علمي موثوق ،انظر كتاب بروس ميتزجر ""The Canon of The New Testament:Its Origin,Development,and Significance طبع (أكسفورد: كلاروندون برس،1987).

(11) للاطلاع على ترجمة حديثة لرسالة بوليكاربوس، انظر بارت إرمان (الآباء الرسوليين) من منشورات (Loeb Classical Library;Cambridge:Harvard Univ.press,2003) المجلد 1.

(12) لمزيد من المعلومات حول مارقيون وتعاليمه، انظر "الديانات المسيحية المفقودة" لبارت إرمان ص 103- 108
 

المصدر: د/ بارت إيرمان - ترجمة: السيد كرم
  • 2
  • 0
  • 16,873

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً