صيود الأوراد (17): الطيبات والخبيثات!

منذ 2016-07-28

قيل: إن الطيبات من الأقوال والأفعال للطيبين من الناس رجالا ونساءً، والخبيثات من الأقوال للخبيثين من الناس رجالا ونساءً.. قيل: الطيبون من الرجال للطيبات من النساء، والطيبات منهــن لهــم، وأن الخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، وأن الخبيثات منهــن لهــم.

يقول الله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}[النور:26]
فقد استشكل بعض الناس هذا من ناحية المعاني ومن ناحية الواقع...

الخلاصة من جملةِ ما اطّلعت عليه من التفاسير أن هناك عدة أقاويل في تفسير هذه الآية، وما ظهر لي من معاني، فهو ممزوج بين منقول ومقول:

1- قيل: إن الطيبات من الأقوال للطيبين من الناس رجالا ونساءً، والخبيثات من الأقوال للخبيثين من الناس رجالا ونساءً، كما أن الطيبون من الناس (رجالا ونساءً) للخبيثات من الأقوال، والخبيثون منهم للخبيثات منها.

قلت: وهذا يرجع إلى أن الذي صدر من الناس-في حادثة الإفك- أقــوال تلوكها الألسن تطعن في أشرف الأعراض، فهي كلماتٌ خبيثات ردَّدها خبيثون، في مقابل أقوال طيبات صدرت من المؤمنين الذين ظنّوا بأنفسهم خيراً، وقالوا خيراً وشهدوا خيرا. ولذلك ذكر هذا التفسير الأقــــوال فحسب.

2- وقيل : إن الطيبات من الأعمــال للطيبين من الناس رجالا ونساءً، والخبيثات من الأعمــال للخبيثين من الناس رجالا ونساءً، كما أن الطيبين من الناس (رجالا ونساءً) للخبيثات من الأعمــال، والخبيثون منهم للخبيثات منها.

قلت: وهذا يرجع إلى أن الذي ذكره المفترون هو التهمة بصدور الفعل الخبيث من المبرَّئَيْنِ-رضي الله عنهما- عائشة وصفوان-، فرموهما بارتكاب هذا العمل الخبيث، فجاء التفسير أن الطيبات من الأعمال تصدر عن الطيبين من الناس رجالا ونساءً، وتلصق بهم، وأن الخبيثات من الأعمال للخبيثين من الناس رجالا ونساءً، كما أن الطيبين من الناس (رجالا ونساءً) للخبيثات من الأعمال والأفعال، والخبيثون منـــهم للخبيثات منــها.

3- وقيل: الطيبون من الرجال للطيبات من النساء، والطيبات منهــن لهــم، وأن الخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، وأن الخبيثات منهــن لهــم.

قلت: وفي هذا يعود المعنى إلى النبي  الطيِّب المُطيَّب – صلى الله عليه وسلم-، فلا يكون له إلا طَيِّبَة من النساء، وهذه تزكية ربانية وحكم بِطِيبة عائشة-رضي الله عنها- لِطِيبة النبي-صلى الله عليه وسلم-، فالله طهَّر نبيه الكريم، وطيَّبه وسلَّمه مِن أن ينكح غير طَيِّبة، ويكون هذا من العام الذي أريد به الخصوص، لأنه يقصد أمرا متحققاً وواقعاً... فويلٌ لمن طعن فيها..

كما أن الخبيثين والخبائث من الرجال والنساء، الذين خبثوا بالزنا بعضهم لبعض.

ويعتمد هذا القول أيضاً على الآية في صدر السورة:  {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } [النور:3]. ويؤيد هذا المعنى أيضاً قوله تعالى:  {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ...}  الآية[البقرة:221].

لكـن عند حمل الآية على معنى (الطيبون من الرجال للطيبات من النساء، والعكس بالعكس)، وحملناه مع ذلك على العموم في الطيبين والخبيثين منهم والطيبات والخبيثات منهن، فهل يعني ذلك الشرع أو القضاء والقدر؟

يعني : هل يُقصد به ما ينبغي أن يكون، أو يقصد به ما لا يقع غيره قضاءً وقدرا وواقعا؟!

يتأيَّد الاحتمال الأول بأننا مأمورون بالاجتهاد في اختيار الطيب من الرجال والنساء في النكاح، واجتناب الخبيث منهم ومنهن، مثل ما دلَّت عليه الآيتان السابقتان في البقرة والنور، وكما جاء في حق الرجال :  «فاظفر بذات الدين تربت يداك» الحديث(متفق عليه*، وللنساء قال أيضا: «إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض» (حسنه الألباني في الصحيحة برقم: [1022]).

وعلى وجه العموم قوله-صلى الله عليه وسلم-:«لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي»(الترمذي في سننه، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم: [7341])، ومن أولى المصاحبة وألصقها وأبقاها مصاحبةُ الزوجين بعضهما لبعض.

فإذا اجتهد الطيبون في ألا ينكحوا إلا طيبات، واجتهدت الطيبات في ألا ينكحن إلا طيبين، لم يبق للخبيثات والخبيثان إلا الخبيثون والخبيثات.

فيكون هذا ما هو مطلوب شرعاً، وعلى هذا الاحتمال هو متحقق في النبي-صلى الله عليه وسلم- فلم يكن رب العالمين إلا أن يختار له الطيبة، ويبعده عن الخبيثة.

أما على الاحتمال الثاني، وأن المقصود به ما يقع قدرًا ويكون واقعاً، فإنه يبدو مشكلاً، ويتذكر بعض الناس أنه وقع وأن تزوَّج الطيبون بخبيثات مثل ما حدث مع نوح ولوط- عليهما الصلاة والسلام-، وتزوج الخبيثون بطيبات مثل ما فعل اللعين فرعون.قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:10-11]. ويشبه ذلك ما جاء في سورة يوسف من قصة امرأة العزيز...

أما نبينا-صلى الله عليه وسلم- فقد برئ وسلم على الاحتمالين، فوافق المطلوب الشرعي الواقع قدراً، والحمد لله رب العالمين.

أما فيما يخص النبيين الكريمين نوح ولوط، فلا أُراه مشكلا، فقد كان ذلك قبل النبوة، وأما بعدها وبعدما بان الحق، فقد أهلك الله الخبيثات وفرق بين الطيبين والخبيثات، لأنهن لم يعدن لهم.

أما ما يظهر من عموم الناس، وأن بعض الطيبين يتزوج خبيثات، أو بعض الطيبات تتزوجن خبثاء، فلا بد من الرجوع أولا إلى معنى الخبث هنا والطيبة، فليس كل خطأ أو معصية تصنف صاحبها في قائمة الخبثاء، فهل يمكن أن يوصف مثلا مدخن بأنه خبيث، وبالتالي نقول: أم التي تزوجت مدخنا فقد تزوجت خبيثا وعليها أن تفارقه؟!

هل أن الذي تزوج امرأة تفرط في بعض الواجبات قد تزوج خبيثة وعليه أن يفارقها؟!

لابد من تحديد معنى الخبث، أو العصيان الذي يوصف بالخبث مرتكبه من الرجال والنساء. ولعل الخبث المقصود هنا هو الزنا والفحش البالغ في المعصية، وإلا فقد قال النبي-صلى الله عليه وسلم- : «لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خُلقا رضي منها آخر» أو قال: «غيره» [صحيح مسلم: 1469].

من ذا الذي ما ساء قط... ومن له الحُسنـى فقط؟!

ثم من هو الطيب؟ أترون كلَّ مصليًا أو حتى ملتحيا طيباً، أو ترون كلَّ مصلية أو حتى متجلببة، أو متنقبة طيبة؟!
هـــذا الظن والأمل، ولكن ليس الأمر كذلك، فربما يكون الرجل أو المرأة طيبا أو طيبة في الظاهر، ويعملان بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وسرائرهم خبيثة، فيبتلى الرجل بخبيثة في الظاهر فيقال : مسكين طيب ولكنه ابتلي بخبيثة! وما أدراك- بل هو الأقرب- أنه خبيث الباطن..

وهنا أتذكر قول النبي-صلى الله عليه وسلم-: «إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة، فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار، فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة»[متفق عليه]، ويدخل فيه الرجال والنساء، فنسأل الله تعالى أن يجعل سرائرنا خيرا من ظواهرنا وأن يجعل ظواهرنا خيرا.

وعلى العكس من ذلك، فقد يظهر من بعض الناس خبثٌ ومعصية، ولكنه طاهر السريرة، مسه طائف من الشيطان أوقعه في (الخبث)، وحقيقته حي الضمير قريب الطوع سلسل القياد، وهنا أتذكر دائما قوال النبي-صلى الله عليه وسلم- في الرجل الذي اسمه عبد الله يلقب حمارا كان يضحك النبي صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب فأتي به يوما فأمر به فجلد فقال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تلعنوه فو الله ما علمت أنه يحب الله ورسوله»[البخاري 3625]
وهـذا موطن بحث وتحقيق والله أعلم.

وبعد هذا التفصيل يمكن القول بأن الكل مقصود، لأنه لا تعارض بينها، فالطيبات من الأقوال والأعمال والأخلاق والمكاسب والمراكب والمساكن والملابس...للطيبين من الرجال والنساء، والخبيثات من ذلك كله للخبيثين من الرجال والنساء، وأن الطيبين من الرجال للطيبات من النساء والطيبات منهن لهم، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، والخبيثات منهن لهم. والله أعلم
فاللهم اجعلنا جميعا من الطيبين 

 23 شوال 1437 (28‏/7‏/2016)

أبو محمد بن عبد الله

باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.

  • 3
  • 0
  • 5,003

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً