نحو فهمٍ أعمق للحقائق

منذ 2017-02-21

كل مؤمن معاصر يحتاج إلى فهم المستطاع من أحكام الله القدرية، حتى يفهم منها ما يحيط به من تقلبات الدنيا التغييرية، التي لم تعد تُفهم أحداثها العظمى إلا في ضوء تلك الحقائق الكبرى ..

الأحداث الكبرى التي يشهدها العالم اليوم وسيشهدها غدًا وبعد غد؛ ستزداد تداعياتها مع الزمن شدة وحدة، وكثير منها قد يستعصى على الفهم، ويعسُر التعامل معه على من لا يعثُر على مفاتيحه ووسائل إدراكه.. لهذا لابد من البحث عن القوانين التي تدور وفقها الأمور، لمحاولة فهم مآلاتها وعواقبها، سواء في الواقع المنظور، أو عندما تُرجع إلى الله الأمور. ويتطلب ذلك التفقه في أحكام الله القدرية، مثلما هو مطلوب التفقه في الأحكام الشرعية .

لابد أولًا أن نوقن أنه كما أن لله تعالى (أحكامًا دينية شرعية) تكليفية، قد يُطاع فيها أو يُعصى وقد تُقام في الناس أو تُهمل أو تُقصى؛ فإن له سبحانه (أحكامًا كونية قدرية) لا يمكن لأحد أن يعصيها أو يُقصيها.. وهي تسمى أيضا بالسُّنن الإلهية، وتنبني على مواقف الناس من الأحكام الشرعية ، وهذه السنن تتعلق بما جعله الله نواميس وقوانين تحكم مسارات الأقدار في هذه الدار، سعادة أو شقاءً.. فقرًا أو غَناءً.. عزًا أو ذلًا.. هزيمًة أو نصرًا.

والجانب العملي المستفاد من ذلك الوجه العلمي؛ أن نراقب علاقة الأحكام القدرية بالأحكام الشرعية ؛ حيث إنه بحسب مواقف الأقوام من الدين إقبالًا أو إدبارًا؛ تكون أقدارهم في حياتهم توفيقًا أوخذلانًا، بل مصائرهم في آخرتهم نعيمًا أو عذابًا، وهذه الثالثة هي التي يسميها بعض أهل العلم: ( الأحكام الجزائية ).

إذا وعينا هذا المفهوم عن أنواع الحكم الثلاثة التي تفرد الله تعالى بها وهي: (الحكم الشرعي والحكم القدري والحكم الجزائي) سيسهِّل علينا ذلك فهم الكثير من قضايا القرآن المتعلقة بمصائر بني الإنسان، أفرادًا وجماعات ومجتمعات، حيث يجئ الحكم (الشرعي التكليفي) في القرآن تحليلًا أو تحريمًا - مقرونًا في الغالب بالحكم (القدري الكوني) المبني عليه امتثالًا أو إعراضًا ، ثم يأتي في ذات السياق أو في غيره (الحكم الجزائي) الذي يكون امتدادً أخرويًا للمقادير الدنيوية..

وقد جاء ذكر هذه الأنواع الثلاثة من الحكم في كثير من آي القرآن، فقد قال تعالى على لسان يعقوب – عليه السلام {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [ يوسف:67] وفيه إشارة إلى حكم الله القدري. وجاء على لسان يوسف عليه السلام قوله تعالى : {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40] وفيه ذكر الحكم الشرعي. وأُمر نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم – أن يقول : {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّـهِ ۖ يَقُصُّ الْحَقَّ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام جزء من الآية: 57] وهو يشير إلى الحكم الجزائي.

وفي آخر سورة القصص التي قص الله سبحانه فيها بعض سننه الكونية وأحكامه القدرية فيمن أعرض عن شرائعه الدينية أو أطاعها : قال بعدها مخاطبًا النبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد أمته - : {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّـهِ إِلَـٰهًا آخَرَ ۘ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ۚ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88] فجمعت هذه الآية أنواع الحكم الثلاثة . والمعنى المفهوم فيها من خلال التفاسير المعتمدة : اجعلوا عبوديتكم وطاعتكم لله وحده بامتثال حكمه في شرعه، فلا بقاء في الوجود إلا لله المعبود، الذي ينفرد بالقضاء في مصائركم وأقداركم، ويجازيكم في الآخرة وفق أعمالكم.

كل مؤمن معاصر يحتاج إلى فهم المستطاع من أحكام الله القدرية، حتى يفهم منها ما يحيط به من تقلبات الدنيا التغييرية، التي لم تعد تُفهم أحداثها العظمى إلا في ضوء تلك الحقائق الكبرى ..!
(يُتْبع)..

  • 4
  • 0
  • 3,961

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً