وَفَارَ التّنَُّورُ.. وقفات مع ثورة ليبيا

منذ 2011-03-26

ما منا اليوم واحدٌ إلا وقد أبصر القَذافي عين ليبيا؛ بسبب تهور القذافي باستعماله العنف ضد شعبه، وكل الدول تجلي رعاياها من هناك، إنه في الحقيقة فيضانٌ سيأتي على الأخضر واليابس، وتكون له انعكاسات سلبية على العالم برمته.


ما منا اليوم واحدٌ إلا وقد أبصر القَذافي عين ليبيا؛ بسبب تهور القذافي باستعماله العنف ضد شعبه، وكل الدول تجلي رعاياها من هناك مسلمين كانوا أو أجانب، تمامًا كما تفعل العجماوات عندما تشعر بالخطر الداهم من زلزالٍ أو فيضان. إنه في الحقيقة فيضانٌ سيأتي على الأخضر واليابس، وتكون له انعكاسات سلبية على العالم برمته. وكل مسلم غيور، يهتم بأمر المسلمين في العالم، إلا وتجده مهمومًا من جهة ليبيا.


إن أول ما ابتدأ الطوفان في قصة نوح مع قومه كان بتفجر الماء من تنور، قيل له : إذا رأيت الماء يفور من التنور؛ فاركب أنت وأصحابك. وأنبع الله الماء من التنور، فعلمت به امرأته فقالت: يا نوح فار الماء من التنور، فقال: جاء وعد ربي حقًا (1).

نعم صارت الأرضُ عيونًا تفور؛ حتى فار الماء من التنانير التي هي مكان النار صارت تفور ماءً.

ففي العالم العربي والإسلامي اليوم فار تنور الثورة من تونس بمقتل البوعزيزي، وهو يدافع عن كسب لقمة العيش. ومن مات دون ماله فهو شهيد، وفارت تنانير مصر، وارتفع الماء، وها هو ذا تنور ليبيا يفور. التنور الذي لا نشك أنه سيشكل طوفانًا من دماء الأبرياء الباحثين عن العدل المفضي إلى السعادة، وإقامة الحق في البلد. والحق ليس له لسان، والعدل ليس له يدان، والسيف يمسكه جبان.

مهما كانت الأحداث في ليبيا الشقيقة ( القضية الفرع )، فلن تصل إلى الحدث الجلل الذي حكاه القرآن عن نوح وقومه (القضية الأصل)، وإن كانت الدراسات تُظْهِرُ- في الحقيقة - كثيرًا من المخاوف حول القضية الفرع؛ بسبب ما آلت إليه الأوضاع هناك، حتى أصبح الواقع مشاهدًا، والحديث جاريًا عن فتنة عمياء، تدير رحى حربٍ طاحنة، والاقتتال بين فريقين يُحْسبان على المسلمين بطرفيهما، وأشد فتن الحروب أن يقتل المسلم أخاه، وأن تُزْهَقَ أرواح الأبرياء.


شعب ليبيا وسط صراعٍ مريرٍ بين حقٍ وباطل، كما قال الزبير- رضي الله عنه- لابنه عبد الله يوم الجمل:« إنه لايقتل اليوم إلا ظالمٌ أو مظلومٌ، وإني لا أراني إلا سأُقتل اليوم مظلومًا » (2). فمن خلال هذه الأحداث، الكل يعرف في صف من يوجد الحق، ولكن حيازته بات صعب المنال.

ليبيا .. تجربة الثورة فيه صعبة بكل المقاييس، فكما يحكي التاريخ عن الشهيد الحسين بن علي - رضي الله عنه- لما بلغ بقعة كربلاء، سأل: ما اسم هذا الموضع؟ قيل له: كربلاء. فدمعت عيناه وراح يقول:« اللهم إني أعوذ بك من الكرب والبلاء ». وقد أيقن بأن شهادته هو وأصحابه في هذا المكان، فقال:«هذا موضع كُرب وبَلاء، ها هنا مناخ ركابنا، ومحط رحالنا، وسفك دمائنا». (3)


ليبيا... البلد الذي يُقرأ من اليمين ومن اليسار، وقع اليوم في حصار عنيف بين الثوار من جهة، والثيران من جهة أخرى. ثيرانٌ معلوفةٌ ما يزيد على أربعة عقود من الزمن، تأكل في سواد وتمشي في سواد، وهي متعطشةٌ للدماء، وتحب حمرتها. وكلما شاهدتها تقول: هل من مزيد!. قال تعالى :{مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [سورة هود:24].

هذا الصراع أثمر قتلى بالآلاف، وهروب أفراد الشعب الليبي بالآلاف من بلده؛ مستغيثين بالأشقاء في تونس ومصر. وفاقد الشيء لا يعطيه، فهذان الشعبان اللذان أنهكتهما رياح الثورة من قبل، أحق بالمساعدة من إخوانهم في ليبيا، ولكن كما يقول الحق تبارك وتعالى :{ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة الحشر:9].


ما منا اليوم واحدٌ إلا وقد أبصر القَذَافي عين ليبيا؛ بسبب تهور القذافي باستعماله العنف ضد شعبه، وكل الدول تجلي رعاياها من هناك مسلمين كانوا أو أجانب، تمامًا كما تفعل العجماوات عندما تشعر بالخطر الداهم من زلزالٍ أو فيضان. إنه في الحقيقة فيضانٌ سيأتي على الأخضر واليابس، وتكون له انعكاسات سلبية على العالم برمته.

وكل مسلم غيور يهتم بأمر المسلمين في العالم إلا وتجده مهمومًا من جهة ليبيا. وليت الأمر يقف عند حد الصراع بين طرفين، بل هناك طرفٌ ثالثٌ يحمل سمومًا قاتلة، يزحف نحو حلبة الصراع متخفيًا تحت قناع الحَكَم، وتقديم يد المساعدة، وايقاف النزيف الدموي في البلد!.

متى عهدنا من أمريكا أن تساعد الشعوب، إن لم تكن مساعدتها كتلك التي قامت بها في العراق: النهب، وهتك الأعراض، والتقتيل والتشريد، زيادة على الاستفادة من البترول، واكتساب التجربة في استعمال السلاح، وقتل الأرواح؛ لاكتساب المناعة لمواجهة الأعداء في كل زمان ومن كل مكان.


إن شرارة الثورة قد انطلقت؛ نتيجة مجموعة من الأسباب والدوافع المعقولة، وقد حققت المبتغى في بعض الأقطار.

ولو على حساب أرواح المسلمين ومصالحهم ومنشآتهم، مع التخوف الذي يبديه البعض على قضية التغيير هذه مستقبلًا؛ لكون بعض المنطلقات فيها شبهات، والغايات لا تبرر الوسائل كما استفدنا ذلك من علمائنا الأفاضل.

كشبهة الأيادي الخفية التي تحرك الشباب في الثورة للتغيير بارتكاب جملة من المخالفات الشرعية، كالتخريب والسطو على ممتلكات الفئات الشعبية. والمولى - جل وعلا- يقول: { وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [سورة الأعراف:56]. مهما كانت إصلاحات العهد القديم ضئيلة، ولا ترقى إلى طموحات الشعب، فلا مسوغ للفساد.


ولا شك أن بعض هؤلاء الثوار الذين جنح بهم فهمهم إلى هذا العمل، مخلصون ومحبون للخير، وكم من مريدٍ للخير لم يبلغه، ولا شك أيضًا أن هناك من غير المخلصين الذين يريدون شرًا بأمة الإسلام؛ رغبة في تهديم العالم الإسلامي.

إن ما ننتظره وينتظره كل من له قلب حي من المسلمين، هو النصر لجناب الحق، وتحقيق الأمن والسلام، ويقال للثوار كما قيل لنبي الله نوح- عليه السلام -:{قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَك } [سورة هود:48].


الهوامش :

(1) ورد في تفسير الآية أقوال كثيرة، وما أوردناه في المقال واحد منها، انظر تفسيرابن كثير( ج 2 ص 462)، تفسير سورة هود الآية 12، مكتبة النور العلمية، بيروت،1995.
(2) صحيح البخاري (3129)، من حديث عبد الله بن الزبير.
(3) مروج الذهب، للمسعودي ص 59.


د. أحمد بازز
كاتب مغربي.


18/ 3/ 2011 م
 

المصدر: موقع قاوم
  • 0
  • 0
  • 1,707

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً