هَلْ لِلصُّوفِيَّةِ دَوْرٌ يُذْكَرُ فِي الجِهَادِ ضِدَّ المُسْتَعْمِرِ؟

منذ 2012-03-24

يَتَشَدَّقُ الصُّوفِيَّةُ وَمِنْهُمُ ُ الجِفرِي بِأَنَّ لَهُمْ تَارِيْخاً فِي جِهَادِ أَعْدَاءِ الإِسْلاَمِ، وَهَذِهِ دَعوَى مُجَرَّدَة عَنِ الدَّلِيْلِ، بَلِ الدَّلِيْلُ بضِدِّها، فَهُم كَانُوا اليَدَ اليُمْنَى لِلغَرْبِ الصَّلِيْبِي، وَلِذَلِكَ نَرَى عُبَّادَ الصَّليبِ يُشَجِعُونَ الطُّرَقَ الصُّوفِيَّةِ لِعِلْمِهِم أَنَّهَا سَبِيْلٌ إِلَى تَخدِيرِ الأُمَّةِ، وَقَتلِ رُوْحِ الجِهَادِ فِيْهَا.



الحَمْدُ للهِ وَبَعْدُ؛

يَتَشَدَّقُ الصُّوفِيَّةُ وَمِنْهُمُ ُ الجِفرِي بِأَنَّ لَهُمْ تَارِيْخاً فِي جِهَادِ أَعْدَاءِ الإِسْلاَمِ، وَهَذِهِ دَعوَى مُجَرَّدَة عَنِ الدَّلِيْلِ، بَلِ الدَّلِيْلُ بضِدِّها، فَهُم كَانُوا اليَدَ اليُمْنَى لِلغَرْبِ الصَّلِيْبِي، وَلِذَلِكَ نَرَى عُبَّادَ الصَّليبِ يُشَجِعُونَ الطُّرَقَ الصُّوفِيَّةِ لِعِلْمِهِم أَنَّهَا سَبِيْلٌ إِلَى تَخدِيرِ الأُمَّةِ، وَقَتلِ رُوْحِ الجِهَادِ فِيْهَا.

قَدْ يَقُوْلُ البَعْضُ: "إِنَّكَ تُبالِغُ"، فَأَقُوْلُ: "تَعَالَوْا مَعِي أُبَيِّنُ لَكُمْ بِالدَّلِيْلِ وَالبُرهَانِ".

قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الوُكَيِّل فِي "هَذِهِ هِي الصُّوفِيَّةُ" ( ص 170 - 171 ): "وَيَزْعُمُوْنَ أَنّ الصُّوفِيَّةَ جَاهَدْتْ حَتَّى نَشَرَتْ الإِسْلاَمَ فِي بِقَاعٍ كَثِيْرَةٍ، وَلَقَدْ عَلِمْت مَا دِيْنُ الصُّوفِيَّةِ؟ فَمَا نَشَرُوا إِلا أَسَاطِيْرَ حَمْقاء، وَخُرَافَاتٍ بَلْهاء، وَبِدْعاً بَلْقاء شَوْهَاء...".ا.هـ.

نَأْخُذُ زَعِيمَ الصُّوفِيَّةِ أَبَا حَامِدٍ الغزَالِيَّ مِثالاً، فَقَدْ عاصَرَ الحُرُوْبَ الصَّليبِيةَ وَلم يُشِرِ الغزَالِيُّ إِلَيْهَا، وَلا أَظْهَرَ اهتمَاماً بِهَا.

قَالَ ابْنُ كَثِيْرٍ فِي "البِدَايَةِ والنِّهايَةِ" (12/166 - 167) وَهُو يَصِفُ مَا فَعَلَهُ الفِرَنْجُ فِي بَيْتِ المَقْدِسِ فِي شَعْبَانَ، سَنَةَ 492 هـ: "أخذت الفرنجُ -لعنهم اللهُ- بيتَ المقدسِ -شرفهُ اللهُ-، وكانوا في نحو ألفِ ألفِ مقاتلٍ، وقتلوا في وسطهِ أزيدَ من ستين ألفِ قتيلٍ من المسلمين، وجاسوا خلالَ الديارِ، وتبروا ما علوا تتبيراً.

قال ابنُ الجوزي: وأخذوا من حولِ الصخرةِ اثنين وأربعين قنديلاً من فضةٍ، زنةُ كل واحد منها ثلاثة آلاف وستمائة درهم، وأخذوا تنوراً من فضة زنته أربعون رطلاً بالشامي، وثلاثة وعشرين قنديلاً من ذهب، وذهب الناس على وجوههم هاربين من الشام إلى العراق، مستغيثين على الفرنج إلى الخليفة والسلطان، منهم القاضي أبو سعد الهروي، فلما سمع الناس ببغداد هذا الأمر الفظيع هالهم ذلك وتباكوا، وقد نظم أبو سعد الهروي كلاماً قرئ في الديوان وعلى المنابر، فارتفع بكاء الناس، وندب الخليفة الفقهاء إلى الخروج إلى البلاد ليحرضوا الملوك على الجهاد، فخرج ابن عقيل وغير واحد من أعيان الفقهاء فساروا في الناس فلم يفد ذلك شيئاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

فقال في ذلك أبو المظفر الأبيوردي شعراً:
 

مزجنا دمانا بالدموع السواجم * * * فلم يبق منا عرضة للمراجم

وشر سلاح المرء دمع يريقه * * * إذا الحرب شبت نارها بالصوارم

فأيهاً بني الإسلام إن وراءكم * * * وقائع يلحقن الذرى بالمناسم

وكيف تنام العين ملء جفونها * * * على هفوات أيقظت كل نائم

وإخوانكم بالشام يضحي مقيلهم * * * ظهور المذاكي أو بطون القشاعم

تسومهم الروم الهوان وأنتم * * * تجرون ذيل الخفض فعل المسالم



قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الوُكَيِّل فِي "هَذِهِ هِي الصُّوفِيَّةُ" (ص 170 - 171) تَعْلِيْقاً: "لقد عاش الغزاليُّ بعد ذلك ثلاثةَ عشر عاماً، إذ مات سنة 505 هـ فما ذرف دمعةً واحدةً، ولا استنهض همةَ مسلمٍ، ليذود عن الكعبةِ الأولى، بينما سواهُ يقولُ:
 

أحل الكفرُ بالإسلامِ ضيماً * * * يطولُ عليه للدينِ النحيبُ

وكم من مسجدٍ جعلوه ديراً * * * على محرابهِ نصب الصليبُ

دمُ الخنزيرِ فيه لهم خلوف * * * وتحريقُ المصاحفِ فيه طيب



أهزَّ هذا الصريخُ الموجعُ زعامة الغزالي؟

كلا، إذ كان عاكفاً على كتبهِ يقررُ فيها أن الجمادات تخاطب الأولياءَ، ويتحدثُ عن الصحو والمحو، دون أن يقاتلَ، أو يدعو حتى غيرهُ إلى قتالٍ!".ا.هـ.

وَقَالَ الدكتور زكي المبارك في "الأخلاق عند الغزاليّ" (ص 25): "أتدري لماذا ذكرتُ لك هذه الكلمةَ عن الحروبِ الصليبيةِ؟ لتعرف أنه بينما بطرسُ الناسكُ يقضي ليله ونهاره في إعدادِ الخطبِ وتحبيرِ الرسائلِ لحث أهلِ أوروبا على امتلاكِ أقطارِ المسلمين، كان الغزاليُّ " حجةُ الإسلامِ " غارقاً في خلوتهِ، منكباً على أورادهِ، لا يعرفُ ما يجبُ عليه من الدعوةِ والجهادِ".ا.هـ.

وَقَالَ الدكتور عُمرُ فروخ في "التصوف في الإسلام" (ص 109): ألا يعجبُ القارئ إذا علم أن حجةَ الإسلامِ أبا حامدٍ الغزالي شهد القدس تسقطُ في أيدي الفرنجةِ الصليبين، وعاش اثنتي عشرة سنة بعد ذلك ولم يشر إلى هذا الحادثِ العظيمِ، ولو أنه أهاب بسكانِ العراقِ وفارس وبلادِ التركِ لنصرةِ إخوانهم في الشامِ لنفر مئاتُ الألوفِ منهم للجهادِ في سبيلِ اللهِ... وما غفلةُ الغزالي عن ذلك إلا لأنه كان في ذلك الحين قد انقلب صوفياً، واقتنع على الأقل بأن الصوفيةَ سبيلٌ من سبلِ الحياةِ بل هي أسدى تلك السبلِ وأسعدها".ا.هـ.

نَخْتِمُ بِسُؤَالٍ مُهِمٍ وَهُو: "بِمَاذَا يُعَلِّلُ الصُّوفِيَّةُ سُكُوْتَهُم وَرِضَاهُم عَنِ المَصَائِبِ الَّتِي تُصِيْبُ الأُمَّةَ؟

يُجِيْبُ الدكتور عُمرُ فروخ بِقَوْلِهِ: "ولكن المتصوفة يعللون سكوتهم ورضاهم بما ينزلُ بقومهم من المصائبِ بأن هذه المصائب عقابٌ من الله للمذنبين من خلقهِ، فإذا كان اللهُ قد سلط على قومٍ ظالماً فليس لأحدٍ أن يقاومَ إرادةَ اللهِ أو أن يتأففَ منها".ا.هـ.

تَعَالَوْا نَعِيْشُ مَعَ التَّارِيْخِ المُعَاصِرِ، وَفِي فَتْرَةٍ كَانَ الاستِعمارُ جاثِماً عَلَى صَدْرِ الأُمَّةِ الإِسلاَمِيَةِ فِي كَثِيْرٍ مِنْ بِلادِها، وَكَيْفَ تَعَامَلتِ الطُّرُقُ الصُّوفِيَّةُ مَعَ المُستَعمِرِ؟

ذَكَرَ مُصْطَفَى كَامِل فِي كِتَابِهِ "المَسْأَلَة الشَّرْقِيَّة" قِصَّةً غَرِيْبَةً عَجِيْبَةً، َأَوْرَدَهَا الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الوُكَيِّل فِي "هَذِهِ هِي الصُّوفِيَّةُ" (ص 170) فَقَالَ: "وَمِنَ الأُمُوْرِ المَشْهُوْرَةِ عَنِ احتِلالِ فَرنسا لِلقَيْرَوَان فِي تُوْنُسَ أَنّ رَجُلاً فَرنسياً دَخَلَ الإِسْلاَمَ، وَسَمَّى نَفْسَهُ سَيِّد أَحْمَد الهَادِي، وَاجْتَهَدَ فِي تَحْصِيْلِ الشَّرِيْعَةِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى دَرَجَةٍ عَالِيَةٍ، وَعُيِّنَ إِمَاماً لِمَسْجِدٍ كَبِيْرٍ فِي القَيْرَوَان.

فَلَمَّا اقْتَرَبَ الجُنُوْدُ الفَرنسِاوِيونَ مِنَ المَدِيْنَةِ اسْتَعَدَّ أَهْلُهَا لِلدِّفاعِ عَنْهَا، وَجَاؤُوا يَسْأَلُوْنَهُ أَنْ يَسْتَشِيْرَ لَهُم ضَرِيحَ شَّيْخٍ فِي المَسْجِدِ يَعْتَقِدُوْنَ فِيْهِ، فَدَخَلَ سَيِّد أَحْمَد الضَرِيحَ، ثُمَّ خَرَجَ مُهَوِلاً لَهُم بِمَا سَيَنَالُهُمْ مِنْ المَصَائِبِ، وَقَالَ لَهُم بِأَنّ الشَّيْخَ يَنْصَحُكُم بِالتَّسْلِيْمِ، لِأَنّ وُقُوْعَ البِلاَدِ صَارَ مُحَتماً، فَاتَّبعَ القَوْمُ البُسَطَاءُ قَوْلَهُ، وَلَم يُدَافِعُوا عَنْ مَدِيْنَةِ القَيْرَوَان أَقَلُّ دِّفاعٍ بَل دَخَلَهَا الفَرنسِاوِيونَ آمِنِيْنَ فِي 26 أكتوبر سَنَةَ 1881 م".ا.هـ.

وَخِدْمَةُ الصُّوفِيَّةِ لِلاستِعمَارِ الفرنسي فِي مِصْرَ مَعْرُوْفَةٌ، وَكَذَلِكَ خَدَمْتُهُمْ لِلإنجليز -وَالكَلاَمُ عَنْ مَجَلَّةِ التَّوْحِيْدِ المِصْرِيَةِ- السَّبَبُ الحَقِيقيُّ فِي هَزِيْمَةِ عُرَابِي فِي مِصْرَ ؛ فَقَدْ شَغَلَ الصُّوفِيَّةُ الجُنُوْدَ فِي التَّلِّ الكَبِيْرِ فِي أَذْكَارٍ حَتَّى نِصْفِ اللَّيْلِ، ثُمَّ نَامَ الجُنُوْدُ، فَدَخَلَ الإنجليزُ فِي الفَجْرِ.

وَجَاءَ فِي كِتَابِ: "كُتُبٌ لَيْسَتْ مِنَ الإِسْلاَمِ" للإِستانبولي (ص 78): "إِنّ الفرنسيين إبّانَ استعمارهم لِتُوْنُس كَانُوا يَجِدُوْنَ مُعَارَضَةً شَدِيْدَةً مِنَ النَّاسِ، فَتَفَاهَم الفرنسيون مَعَ شَّيْخِ الصُّوفِيَّةِ عَلَى أَنْ يَدْخُلُوا البِلاَدَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ الصَّبَاحُ قَعَدَ الشَّيْخُ مُطْرِقاً رَأْسَهُ وَهُو يَقُوْلُ: " لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ "، فَلَمَّا سَأَلَهُ أَتْبَاعُهُ عَنِ الأَمْرِ الَّذِي يُقْلِقُهُ، قَالَ لَهُمْ: " لَقَدْ رَأَيْتُ الخَضِرِ وَسَيِّدِي أَبَا العَبَّاسِ الشَّاذلِي وَهُمَا قَابِضَانِ بِحصَانِ جِنرالِ فرنسا، ثُمّ أَوكَلا الجِنرالَ أَمرَ تُوْنُس. يَا جَمَاعَة ؛ هَذَا أَمرُ اللهِ فَمَا العَمَلُ؟ فَقَالُوا لَهُ: "إِذَا كَانَ سَيِّدِي أَبُو العَبَّاسِ رَاضِياً، وَنَحْنُ نُحَاربُ فِي سَبِيْلَهِ، فَلا دَاعِي لِلْحَرْبِ، ثُمّ دَخَلَ الجَيْشُ الفرنسي تُوْنُس دُوْنَ مُقَاومَةٍ.

قَالَ أَبُو رُقَيْبَةَ: "إِنَّنِي اطَّلَعْتُ عَلَى المِيزَانِيةِ الفرنسيةِ، فَوَجَدْتُ فِيهَا مُخَصَّصَاتٍ ضَخْمَةً للطُّرُق الصُّوفِيَّةِ، لأَنَّهَا تُخْدَرُ المُسْلِمِيْنَ عَنِ الجِهَادِ".ا.هـ.
بَيْنَمَا كُنْتُ أُقَلِّبُ فِي بَعْضِ الكُتُبِ الَّتِي تَكَلَّمْتَ عَنْ دَوْرِ الصُّوفِيَّةِ فِي الجِهَادِ ضِدَّ الاسْتِعْمَارِ، وَقَعْتُ عَلَى بَحثٍ فِي كِتَابِ "الانْحِرَافَاتُ العَقَدِيةُ وَالعِلْمِيَّةُ فِي القَرْنين الثَّالِث عَشَر وَالرَّابِع عَشَر" (1/537 - 546) عُنْوانُهُ: "الصُّوفِيَّةُ وَالجِهَادُ وَمُقَاومَةُ الاسْتِعْمَارِ "أَقتَصِرُ عَلَى ذِكرِ بَعْضِ مَا فِيْهِ.

قَالَ عَلِيُّ بنُ بَخَيْتٍ الزَّهْرَانِيُّ مُؤَلِّف الكِتَابِ: "أما بالنسبةِ لموقفِ الصوفيةِ من الجهادِ ومقاومةِ الاستعمارِ، فإنهُ موقفٌ متباينٌ، يسودهُ التذبذبُ والاضطرابُ، فبينما نرى طائفةً منهم أعلنتِ الجهادَ وقاومتِ الاستعمارَ، وأقضت مضاجعَ المستعمرين، نرى على النقيضِ الآخر طائفةً أخرى نكصت عن الجهادِ ونكلت عنِ الحربِ، وانزوت على نفسها فَرقاً وهرباً.

وبين هاتين الطائفتين طائفتان أخريان، الأولى منها حاربت المستعمرَ وقاومتهُ ردحاً من الزمنِ، فلما طال أمدُ القتالِ، ولم تفلح في طردِ المستعمر، بل كان هو الظاهرُ عليها في كثير من الوقائعِ، استسلمت له في نهايةِ المطافِ، ولم تكتف بالاستسلامِ للمستعمرِ، وإبرامِ المعاهداتِ المخزيةِ معه، بل صارت تشنعُ على من يحاولُ رفع رايةِ الجهادِ ضده من جديدٍ، وينقضُ ما أبرمتهُ من معاهداتٍ، والطائفةُ الثانيةُ، وهي شرُ طوائفِ الصوفيةِ جميعاً، وهي الطائفةُ التي وقفت معهُ منذُ البدايةِ جنباً إلى جنبٍ، تؤازرهُ، وتناصرهُ، وتقاتلُ في صفوفهِ، وتحت رايتهِ، وتدعو الناسَ إلى الرضوخِ له، وتحذرُ من مغبةِ مقاومتهِ.

ومن الطائفةِ الأولى يعتبرُ أتباعُ الطريقةِ السنوسيةِ الذين جاهدوا الاستعمارَ الإيطالي في ليبيا من أوضحِ الأمثلةِ على ذلك. ويقابلهم في الناحية الأخرى كثيرٌ من المتصوفةِ الذين كانوا يعيشون في غير واقعهم، ولا يرون الانشغال بغير الذكرِ والزهدِ.

أما الطائفةُ التي قاتلت ثم نكلت، وجاهدت ثم نكصت، فأوضحُ من يمثلها هو الأمير "عبد القادر الجزائري"... أما الطائفةُ التي والتِ المستعمرَ، وقاتلتِ المسلمين في سبيلهِ، فكثيرٌ من زعماءِ الطريقةِ التيجانيةِ يعتبرون من أبرزِ الأمثلةِ عليها.

... فأما الأميرُ عبدُ القادرِ الجزائري فقد بايعهُ الجزائريون بعد دخولِ الفرنسيين الجزائر، فقادهم إلى جهادِ الفرنسيين طيلةَ سبعة عشر عاماً، ولكنه استسلم في آخرِ الأمرِ، وسلم نفسهُ إلى الفرنسيين فنفوهُ إلى خارجِ البلادِ، ثم أطلقوا سراحهُ، بعد أن اشترطوا عليه أن لا يعودَ إلى الجزائرِ، ورتبوا له مبلغاً من المالِ يأخذهُ كل عامٍ، وزار باريس، ثم استقر في دمشق حتى توفي بها.

وحين انهزمت فرنسا سنة 1870 م أظهر كمالَ الأسفِ، وتزين بنيشانها الأكبر، وكان قد أهدي له لدى زيارته باريس سنة 1867 م، إظهاراً لاعترافِ مصادقتها، وتخلى عن ملاقاة الناسِ مدةً. واعتبر السنوسي ذلك من أخبارِ وفائهِ، وكان الأولى بهِ أن يعتبرها من أخبارِ ضعفِ ولائهِ وبرائهِ.
وحين قام ابنهُ محي الدين بإعلانِ الجهادِ ضد الفرنسيين مرةً أخرى، واتفق مع بعضِ زعماءِ القبائلِ في الجزائرِ، تبرأ عبدُ القادر منهُ، وكان ذلك سبباً في انفضاضِ القبائلِ عنه، وفشل حركته ".ا.هـ.
وَقَالَ عَلِيُّ بنُ بَخَيْتٍ الزَّهْرَانِيُّ فِي كِتَابِ "الانْحِرَافَاتُ العَقَدِيةُ وَالعِلْمِيَّةُ فِي القَرْنين الثَّالِث عَشَر وَالرَّابِع عَشَر" (1/541): "وكان شيوخُ الطرقِ الخائنون يقومون بكتابةِ عرائض بتوقيعاتهم، وتوقيعاتِ أتباعهم، يملؤونها بالثناءِ والشكرِ لفرنسا، التي كانت تعتبرهم ممثلين للشعبِ...
وفي عامِ 1870 م حمل سيدي أحمد تشكرات الجزائريين، وبرهن على ارتباطه بفرنسا، فتزوج "أوريلي بيكار" وبفضلها تحولت منطقةُ " كودران " من أرضٍ صحراويةٍ إلى قصرٍ منيفٍ رائعٍ، وهو أولُ مسلمٍ تزوج بأجنبيةٍ...

وقد كافأتها السلطاتُ الفرنسيةُ لقاء ما قدمتهُ من خدماتٍ بوسامِ جوقة الشرف، وقالت عنها في براءةِ التوجيه: "إن هذه السيدةَ قد أدارت الزاويةَ التيجانية إدارةً حسنةً كما تحبُ فرنسا وترضى، وساقت إلينا جنودا مجندةً من أحبابِ هذه الطريقة ومريديها، يجاهدون في سبيل فرنسا كأنهم بنيانٌ مرصوصٌ".ا.هـ.
وقالَ الرئيسُ فيليب فواندس المستعمرُ الفرنسي في "الاستعمار الفرنسي في أفريقيا السوداء" (ص 52): "لقد اضطر حكامنا الإداريون وجنودنا في أفريقيا إلى تنشيطِ دعوةِ الطرقِ الدينيةِ الإسلاميةِ لأنها أطوعُ للسلطةِ الفرنسيةِ وأكثرُ تفهماً وانتظاماً من الطرقِ الوثنيةِ".

وقال مؤلفو كتاب ِ "تاريخِ العربِ الحديثِ والمعاصرِ" (ص 373) تحت عنوانِ: "المتعاونون مع فرنسا في الجزائرِ": "وتتألفُ هذهِ الفئةُ من بعضِ الشبابِ الذين تثقفوا في المدارسِ الفرنسيةِ، وقضى الاستعمارُ على كلِ صلةٍ لهم بالعروبةِ يضافُ إليهم بعضُ أصحابِ الطرقِ الصوفيةِ الذين أشاعوا الخرافاتِ والبدعَ وبثوا روحَ الانهزاميةِ والسلبيةِ في النضالِ فاستعملهم الاستعمارُ كجواسيس ثم فئةٌ من الموظفين والنوابِ والعسكريين الذين شاركوا الإدارةَ الفرنسيةَ في أعمالها".

وقالَ الشيخُ طنطاوي جوهري في كتابهِ "الجواهر في تفسيرِ القرآنِ" (9/137 - 138): "إن كثيراً من الصوفيةِ قد تنعموا وعاشوا في رغدٍ من العيشِ، وأغدق الناسُ عليهم المالَ من كلٍ جانبٍ، وحُببت إليهم الثمراتُ وهوت إليهم القلوبُ لما ركز في النفوسِ من قربهم إلى اللهِ فلما رأوا الفرنجةَ أحاطوا بالمسلمين لم يسعهم إلا أن يسلموا لهم القيادةَ ليعيشوا في أمنٍ وسلامٍ، وهذا هو الذي حصل في أيامنا، وذكرهُ الفرنسيون في جرائدهم قبل الهجومِ على مراكش، وقرأنا نحن فيها؛ إذ صرحوا بأن المسلمين خاضعون لمشائخِ الطرقِ، وأن الشرفاءَ القائمين في تلك البلادِ ورجالَ الصوفيةِ هم الذين يسلموننا البضاعةَ فعلى رجالِ السياسيةِ أن يغدقوا النعمَ على مشائخِ الطرقِ، وعلى الشريفِ الذي يملكُ السلطةَ في تلك البلادِ".

وقالوا هكذا بصريحِ العبارةِ:

"إن هؤلاءِ جميعاً متمتعون بالعيشِ الهنيء، ورغد المعيشةِ في ظلالِ جهلِ المسلمين وغفلتهم، فمتى أكرمناهم وأنعمنا عليهم فهم يكونون معنا، ويشاركوننا في جر المغنمِ، وبصريحِ العبارةِ يكونون أشبهَ بالغربانِ والنسورِ والعقبان التي تأكلُ ما فضل من فرائسِ الآسادِ والنمورِ".ا.هـ.

قَالَ عَلِيُّ بنُ بَخَيْتٍ الزَّهْرَانِيُّ فِي كِتَابِ "الانْحِرَافَاتُ العَقَدِيةُ وَالعِلْمِيَّةُ فِي القَرْنين الثَّالِث عَشَر وَالرَّابِع عَشَر" (1/544 - 545): "وحين تأسست جمعيةُ العلماءِ المسلمين في الجزائرِ سنة 1931 م، وانطلقت تؤدي دورها التربوي، وتنشىءُ المدارسَ، وتنشرُ اللغةَ العربيةَ، أقلقتِ السلطاتَ الفرنسيةَ، وكان سلاحها الماضي في القضاءِ على تلك الجمعيةِ رجالَ الطرقِ الصوفيةِ.
فقد تألب كلُ أتباعِ الطرقِ العليوية والطريقةِ الشاذليةِ والطريقةِ القادريةِ وغيرها من الطرقِ الصوفيةِ الأخرى - ضد الجمعيةِ - محاولين القضاءَ عليها وتنفيرَ الناسِ منها، ووصل الأمرُ ببعضهم إلى القيامِ بمحاولةِ اغتيالِ مؤسسها المجاهدِ الشيخِ عبدِ الحميدِ بنِ باديس رحمهُ اللهُ. - وقد توفي الشيخُ بن باديس عام 1359 هـ عن نحو خمسة وخمسين عاماً، أوذي من القريبِ والبعيدِ، وجفاهُ أبوه، وقاطعهُ إخوتهُ، واضطهدتهُ السلطةُ المحتلةُ، وظل صابراً محتسباً ينشرُ دعوتهُ، ويجاهدُ بقلمهِ حتى لبى نداءَ ربهِ، بعد حياةٍ حافلةٍ بالجهادِ والتربيةِ والعملِ المثمرِ".ا.هـ.

والتصفيةُ الجسديةُ كما حصل مع بن باديس ليست بالمستغربةِ على الصوفيةِ القبوريةِ وغيرهم، وقد ذكر صاحبُ كتابِ "القبوريةِ في اليمن" أحمد المعلم (ص 533 - 550) بعضاً من طرقِ القبورية في استخدامِ القوةِ في محاربةِ الخصمِ ومنها اعتمادُ التصفيةِ الجسديةِ للخصومِ وخاصةً ممن كتب اللهُ لهم القبولَ عند الناس، وتحملُ دعوتهم العقيدةَ الصحيحةَ، فإنهم يلجأون إلى تصفيتهِ جسدياً إما بالاغتيالِ أو بدس السم، ونقل أحمدُ المعلم صوراً من التصفية الجسدية فقال (ص 546): "حاول جماعةٌ من آل باعلوي اغتيالَ الشيخِ أحمد محمد السوركتي، وذلك بدسِ السمِ داخل فاكهةٍ تسمى: "بلمنبنق"، وكان الشيخُ مولعاً بأكلها فابتاع منها كميةً وأكلها، وبعد لحظاتٍ شعر بمغصٍ شديدٍ وأخذ يئنُ من شدةِ الألمِ فاستدعى طبيباً، وبعد الفحصِ قرر الطبيبُ أنهُ مسمومٌ، ولو لم يسعفهُ الطبيبُ بالدواءِ لذهب الشيخُ إلى رحمةِ ربهِ، وهكذا أراد اللهُ تعالى للشيخِ أن يعيشَ ليستمرَ في تأديةِ رسالةِ الإسلامِ. وفي مدينةِ بوقور هاجم جماعةٌ من العلويين وأنصارهم الشيخَ عبدَ العزيزِ الكويتي ضيفَ إندونيسيا ومؤيد الحركةِ الإرشاديةِ وضربوهُ بآلةٍ حادةٍ في رأسهِ ولكن عناية اللهِ أحاطت بهِ وأنقذتهُ من الموتِ".ا.هـ.

 

عبد الله بن محمد زُقَيْل

بكالريوس من جامعة الإمام محمد بن سعودالإسلامية - قسم أصول دين

  • 4
  • 4
  • 4,646

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً