شرح الحديث: "الذين لا يرقون ولا يسترقون ..."

محمد الحسن الددو الشنقيطي

  • التصنيفات: شرح الأحاديث وبيان فقهها -
السؤال: ما شرح قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون"؟
الإجابة: إن: "لا يرقون" هذه الجملة من هذا الحديث شاذة فهي غير صحيحة، وعلى ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عُرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرهيط، والنبي وليس معه أحد، حتى رأيت سواداً عظيماً، فقلت: هؤلاء أمتي، فقيل: لا هذا موسى وأمته، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد عظيم قد سدَّ الأفق، فقيل: هؤلاء أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة من غير حساب ولا عذاب"، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بيته، فاختلف أصحابه في هؤلاء، فقالت طائفة منهم هم الذين ولدوا في الإيمان ولم تسبق عليهم سابقة الشرك، وقال آخرون: هم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاهدوا معه، فدخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم عن حوارهم فذكروا هذا، فقال: "هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون"، وهذا الحديث فيه بيان لمنزلة من منازل أهل الإيمان هي حق التوكل على الله سبحانه وتعالى.

والتوكل لا ينافي الأسباب، ولذلك فالقاعدة الشرعية في الأسباب أن التوكل عليها شرك وأن تركها معصية، فالتوكل على الأسباب شرك بالله: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}، وترك الأسباب تعطيل للشرع فهو حرام، فيجب على الإنسان أن يتسبب: فإذا رأى جداراً سيسقط عليه يجب عليه الهرب، وإذا رأى سيارة تتجه إليه فيجب عليه الهرب، ومع ذلك يؤمن بأنه قد رفعت الأقلام وجفت الصحف عما هو كائن، وأن الهرب لا ينجي: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}، لا بد أن يوقن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه.

ومن هنا فالناس في التوكل على درجات:

منهم من يقتنع به في عقله، ولكنه لا يطبقه في أمره، فهو يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كُتب له لكن لا يتذكر ذلك إلا بعد الإصابة.

ومنهم من يتذكر ذلك قبل الإصابة فيجده واقعاً لديه، ولكنه لا يحبه لا يربطه بالله تعالى، فهو يرى أنه إجبار وإكراه، وهؤلاء معترضون على الديان سبحانه وتعالى في حكمه.

ومنهم من يعلم أن الله قدر الأمور كلها وكتب مقاديرها، وأنها تجري على وفق ما أراد الله لها بمراتب القدر الأربع، التي يجب الإيمان بها، وهي علم الله السابق بجميع الأشياء إجمالاً وتفصيلاً وكتابته لكل ذلك في الصحف التي عنده فوق عرشه، وتوزيعه لذلك على الزمن، وتنفيذه لذلك على وفق ما أراد فهذه أربع مراتب، هي مراتب القدر: اثنتان منها قديمتان وهما العلم السابق والكتابة السابقة، وهما المذكورتان في قول الله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}، والمرحلتان اللاحقتان محدثتان: وهما تزمينه أو توزيعه على الزمن، كالفرق في ليلة القدر، وقد قال الله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا}، وكما يكتب مع كل جنين في بطن أمه يكتب معه رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فكل ذلك محدث لأنه مرتبط بالمخلوق، وكل ما ارتبط بالمخلوق فهو مخلوق مثله محدث، والمرتبة الرابعة محدثة كذلك وهي تنفيذ ذلك على وفق الزمن، فجلستنا هذه علمها الله قبل خلق الكون بكل ما فيها من التفاصيل، ثم كتبها قبل أن يخلق الكون في الصحف التي عنده فوق عرشه، ثم كتبها في اللوح المحفوظ في هذا العام أنها ستقع في ليلة القدر من هذا العام، ثم نفذها الآن على وفق ما علم لا يختلف فيها شيء عما أراده الله، ولذلك فإن التوكل على الله سبحانه وتعالى يقتضي الاتصال به ومحبته والأنس به، وأن يعلم الإنسان أن تصرفه في الكون هو الحكمة، فالله عز وجل هو ذو الحكمة البالغة: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}، فكل تصرف في هذا الكون فهو الحكمة وهو المصلحة.

ومن اعترض عليه فلا يضر إلا نفسه ولا يمكن أن يؤثر في قدر الله النافذ الماضي، بل إنما يتأذى هو ويتأثر ولا يرد شيئاً من قدر الله عز وجل، كذلك فإن التوكل على الله سبحانه وتعالى بعد حصول أصله يتفاوت الناس فيه، فمنهم من يكون توكله مرتبطاً بالأخذ بالأسباب كلها، فهو متوكل في باطن أمره، ولكنه يباشر الأعمال كلها، فلا يترك علاجاً لمرض إذا أصيب به، بل يأتي على كل أنواع العلاجات حتى لو كانت غير محبوبة شرعاً أو طبعاً، وهذا لا ينافي التوكل ولكنه مستوى ناقص فيه، والمستوى الأعلى من هذا أن يأخذ الإنسان بالمجزئ المسقط للتكليف في الأسباب ويترك بقيتها فلا يمكن أن يتتبع الأسباب كلها، إذا طلب الرزق يجمل في الطلب ولا يطلبه بخسائس الأمور وما كان دنيا منها، وإذا طلب العلاج من مرض طلبه كذلك بالأسباب إما الشرعية وإما الكونية.

والأسباب تنقسم إلى قسمين إلى أسباب شرعية كالصدقة وصلة الرحم والدعاء فهذه أسباب شرعية لا يمكن أن تخضع للتجربة، وإنما جاء الوحي بها فعرفنا أنها كذلك، كما أخبر الله بها ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأسباب كونية وهي ما يخضع للتجربة كالعلاج بأنواع العقاقير والحبوب ونحوها فهذه أسباب كونية يجربها الناس فما أصابوا في تجربتهم ووافق القدر نفع، وما أخطأوا في تجربته لم ينفع، وما أصابوا في تجربته لكنه لم يوافق القدر لم ينفع أيضاً، فلذلك الذين يصلون إلى المستوى العالي من التوكل يباشرون الأسباب ولكن لا يتعمقون فيها، فإذا أرادوا الاكتساب وجمع المال لم يكتسبوا بالتعب الشديد ولا بإضاعة الوقت كله في ذلك، وأجملوا في الطلب، ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب"، والإجمال في الطلب يقتضي أن لا يتعب الإنسان نفسه بأن تكون الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه مشغولاً فيها بالليل والنهار، لا بد أن يأخذ لنفسه راحة وأن يجعل من وقته وقتاً للاكتساب نعم لكن لديه وقت آخر للعبادة، ووقت آخر للتعلم ووقت آخر لراحة بدنه وحقوق نفسه، هذه الأمور لا بد منها.

ولذلك فإن هؤلاء القوم فُضِّلوا: ومع ذلك ذكر تركهم لبعض الأسباب لأنها ليست من الإجمال في الطلب، وهذه الأسباب منها أنهم "لا يسترقون"، أي لا يسألون غيرهم أن يرقيهم، ومنها أنهم "لا يكتوون"، فالكي بالنار من الأشفية، هو دواء فعلاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أشفية أمتي في ثلاث، في شربة عسل أو شرطة محجم أو لذعة من نار وما أحب أن أكتوي"، وصح عنه صلى الله عليه وسلم كذلك أنه ذكر أن شفاء الرأس في الحجامة، وأن شفاء البطن في العسل، وأن شفاء الرجلين في الخضاب، والخضاب الحناء، فهذه أشفية ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم وهي صحيحة، وإذا قدر الله سبحانه وتعالى اجتماعها بالمرض الذي هي شفاء له فإن الله يشفي ذلك المرض بها، ولكن مع ذلك بعضها ليس من الإجمال في الطلب ومنه الكي، بخلاف الحجامة فهي من الإجمال في الطلب، فقد احتجم النبي صلى الله عليه وسلم حجمه أبو طيبة فأعطاه صاعاً من تمر، ومع ذلك فالاكتساب بالحجامة ليس من الإجمال في الطلب، أن يكون الإنسان حجاماً يأخذ على ذلك أجراً ليس هذا من الإجمال في الطلب، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كسب الحجام خبيث"، كسبه أي ما يأخذه من الناس في مقابل حجامته خبيث، لأن هذا من العمل السهل ولا ينبغي للإنسان أن يأخذ عليه أجراً، فالأعمال السهلة الميسورة ينبغي للإنسان أن يتصدق بها من بدنه فهي من زكاة البدن، ومثلها الرقى ونحوها الرقى الشرعية ونحوها فينبغي للإنسان أن يجعلها صدقة من بدنه وأن لا يأخذ عليها أجراً إلا في حق من كان من البخلاء الذين لا ينفقون أبداً فيمكن أن يأخذ منهم وإذا أخذ لم يختص هو بذلك بل جعله ملكاً عاماً للمسلمين، كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنهم خرجوا في غزاة فنزلوا على حي من أحياء العرب فاستضافوهم فلم يضيفوهم من البخل، قال: فهش سيدهم أي نهش لسعته حية، فقالوا: إن سيدنا قد نهش فهل معكم شيء مما جاء به هذا الرجل؟ -يقصدون القرآن- هل معكم شيء من القرآن؟ قال: فقام إليهم شاب منا والله ما كنا نأبنه بذلك -أي ما كنا نظنه بالرقية- فقال: قد تضيفناكم فلم تضيفونا فلا نرقيكم إلا بأجرة، فجعلوا له قطيعاً من الغنم، فقام إليه فجعل يقرأ بسورة الحمد ويجمع بصاقه أو بزاقه ثم ينفثه عليه فقام كأنما نشط من عقال، فأعطوه الغنم، فاستاقها، فقال: على رسلكم حتى نقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اقسموها واجعلوا لي سهما"، وقال: "وما يدريك أنها رقية"، وهنا أمرهم أن يقسموها وأن يجعلوا له سهماً، فدل هذا على أنها أصبحت ملكاً عاماً لهم، لأن الغزاة المجاهدين في سبيل الله عملهم عمل مشترك.

فما كان منه فيه مخاطرة يجب تخميسه: خمسه لله، وأربعة أخماس للغزاة المجاهدين، وما كان من غير مخاطرة أو مغامرة فهو للمجاهدين أنفسهم يقسمونه بينهم، فلذلك عملهم مشترك، وهذا النوع هو أصل في التشريع لنوع من أنواع الشركة، وهو شركة العمل، إذا كان العمل من جنس واحد أو كان متلازماً فما كان من الجنس الواحد كالكتبة الذين يكتبون أو نحوهم، وما كان من جنس متلازم كالحافر الذي يحفر في قعر البئر، والرافع الذي يرفع عنه التراب، أو كالذي يذيب الذهب والذي يصوغه فعملهما متلازم فيجوز لهما الاشتراك في العمل، ويكون الكسب بينهما على قدر ما اتفقا عليه في شركتهما، والنبي صلى الله عليه وسلم بهذا لم ينه عن الكي ولا نهى عن الرقية، بل قد جاء إثبات ذلك في أحاديث أخرى، ولكن اقترن ذلك هنا في هذا الحديث بالتطير والتطير حرام، فقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث أخرى كقوله صلى الله عليه وسلم: "الطيرة من عمل الجاهلية"، وكذلك في قوله: "أمران من أمر الجاهلية في أمتي وهما بهم كفر: الطيرة والطعن في الأنساب"، فجعل الطيرة إذن من الشرك وهي من الشرك لكنها تختلف باختلاف مراتب صاحبها، فقد تكون من الشرك الأكبر كمن ظن أنها مؤثرة، إذا خرج الإنسان فلقي أعور أو مشلولاً أو رأى ما يكره فقطع عمله من أجل ذلك وهو يظن أنه مؤثر فيه، أو قال: ما أصبت بكذا إلا من أجل فلان، فهذا النوع هو من الطيرة التي هي شرك أكبر، لأن صاحبها يعتقد التأثير للمخلوق وأنه ينفع ويضر من غير إذن الخالق، وأما النوع الثاني وهو إذا كان المتطير يكره ذلك في نفسه ولكنه لا ينسب له التأثير فهذا من الشرك الأصغر ليس كفراً ولا مخرجاً من الملة ولكنه حرام، والشرك الأصغر محرم ولكنه لا يخرج من الملة، ومن هنا يعلم أن قوله: "لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون" الدلالة بينها دلالة اقتران فلا تدل على تحريم هذه الأمور، وإنما عرف تحريم الطيرة من الأحاديث الأخرى، فتبقى هذه الأمور مباحة ولكن المباح بعضه مرغوب عنه، كثير من المباحات مرغوب عنها شرعاً، ومن هنا فهؤلاء القوم لهم فضل لا محالة لأنهم يدخلون الجنة من غير حساب ولا عذاب، ولكن مع ذلك ليسوا أفضل هذه الأمة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قطعاً ليس منهم، لأنه رآهم، قيل له: هؤلاء أمتك، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فالنبي صلى الله عليه وسلم ليس منهم قطعاً فدل هذا على أنهم ليسوا أفضل هذه الأمة، وقد رغب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أن يكون منهم، فقال عكاشة بن محصن: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: "أنت منهم"، فقام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: "سبقك بها عكاشة"، وذلك ليقطع على الناس مثل هذا التطلع، لأنه لو تتبع ذلك لقام آخر ورابع وخامس وهكذا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نقلاً عن موقع فضيلة الشيخ الددو على شبكة الإنترنت.