الالتزام ومقوماته

منذ 2016-11-21
السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

دائمًا أسمع عبارة: هذا شخصٌ مُلتزمٌ، فما هو الالتزام؟ وما مُقومات الالتزام؟

وكيف أحصُل على الالتِزام وأُعَزِّزه في نفسي؟

وعندما يكون الشخص ملتزمًا ويعمل ذنبًا ما، هل يكون منافقًا؟

وجزاكم الله خيرًا.

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاةُ والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعدُ:

فبدايةً نُهنئك أيتها - الابنة الكريمة - على تلك النية الصالحة، والقصد الحسن للتوجه إلى الله، والحمد لله على توفيقك للبحث عن هذا الخير والتمسُّك بِغَرْزِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].

ومِن توفيق الله للعبد المسلم أنْ يسألَ عن بداية طريق الهداية، وكيف يسير فيه؛ ليكون على نورٍ وهدىً مِن الله؛ كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]، وقال: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40].

أما معنى كلمة الالتزام: فهي مُرادِفةٌ للإسلام الذي هو الانقياد والاستسلام؛ فكلُّ طاعةٍ انقاد العبدُ بها لربه، واستسلم فيها لأمره فهي التزامٌ بالإسلام، والانقيادُ حالٌ في القلب يوجب إجلالًا وإكرامًا، وانقيادًا ظاهرًا وباطنًا؛ فهذا هو دينُ الإسلام الذي ارتضاه الله لنا؛ كما دلَّتْ عليه أدلةُ المنقول والمعقول.

قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة في "مجموع الفتاوى" (7/ 314): "والتحقيقُ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر الدين الذي هو استسلام العبد لربه مطلقًا الذي يجب لله عبادةً محضةً على الأعيان؛ فيجب على كل مَن كان قادرًا عليه؛ ليعبد الله بها مخلصًا له الدين".

وقال في "الصارم المسلول على شاتم الرسول" (520): "إن الإيمان قولٌ وعملٌ؛ أعني: في الأصل قولًا في القلب، وعملًا في القلب، فإن الإيمان بحسب كلام الله ورسالته وكلام الله ورسالته يتضمن أخباره وأوامره، فيصدق القلب أخباره تصديقًا يوجب حالًا في القلب بحسب المصدق به، والتصديقُ هو مِن نوع العلم والقول، وينقاد لأمره ويستسلم، وهذا الانقيادُ والاستسلام هو نوعٌ مِن الإرادة والعمل، ولا يكون مؤمنًا إلا بمجموع الأمرين؛ فمتى ترك الانقياد كان مُستكبرًا، فصار من الكافرين، وإن كان مصدقًا فالكفرُ أعم من التكذيب؛ يكون تكذيبًا وجهلًا، ويكون استكبارًا وظلمًا؛ ولهذا لم يوصفْ إبليس إلا بالكفر والاستكبار دون التكذيب، ولهذا كان كفر مَن يعلم مثل اليهود ونحوهم مِن جنس كفر إبليس، وكان كفر من يجهل مثل النصارى ونحوهم ضلالًا، وهو الجهل، ألا ترى أن نفرًا من اليهود جاؤوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وسألوه عن أشياءَ فأخبرهم، فقالوا: نشهد أنك نبي، ولم يتبعوه، وكذلك هرقل وغيره، فلم ينفعهم هذا العلم وهذا التصديق؟!

ألا ترى أن من صدق الرسول بأن ما جاء به هو رسالة الله، وقد تضمنتْ خبرًا وأمرًا، فإنه يحتاج إلى مقامٍ ثانٍ وهو تصديقه خبر الله، وانقياده لأمر الله، فإذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فهذه الشهادةُ تتضمن تصديق خبره، والانقياد لأمره، فإذا قال: وأشهد أن محمدًا رسول الله، تضمنت تصديق الرسول فيما جاء به مِن عند الله؛ فبمجموع هاتين الشهادتين يتم الإقرار، فلما كان التصديق لا بد منه في كلا الشهادتين، وهو الذي يتلقى الرسالة بالقبول، ظن من ظن أنه أصلٌ لجميع الإيمان، وغفل عن أنَّ الأصل الآخر لا بد منه، وهو الانقياد، وإلا فقد يصدق الرسول ظاهرًا وباطنًا، ثم يمتنع من الانقياد للأمر؛ إذ غايته في تصديق الرسول أن يكونَ بمنزلة من سمع الرسالة من الله سبحانه وتعالى كإبليس، وهذا مما يبين لك أن الاستهزاء بالله وبرسوله يُنافي الانقياد له؛ لأنه قد بلغ عن الله أنه أمر بطاعته، فصار الانقياد له من تصديقه في خبره فمن لم ينقدْ لأمره، فهو إما مكذبٌ له، أو ممتنعٌ عن الانقياد لربه، وكلاهما كفرٌ صريحٌ". اهـ.

أما كيفية السير على طريق النبي الأمين صلى الله عليه وسلم: فها هم أتباعه الكرام يسيرون على نهجه، وقد نور الله طريقهم، وهداهم إلى البصيرة الكاملة، فبداية طريق الالتزام بمنهج الله، عبادة الله على بصيرةٍ من علمٍ، فتعلمي دينك؛ فالعلمُ قبل القول والعمل؛ كما قال الإمام البخاريُّ في صحيحه: "باب العلم قبل القول والعمل"؛ فلا تعملي عملًا حتى تعرفي حكم الله فيه؛ فهذه هي البدايةُ الصحيحةُ.

وقال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وما لم تعلمي حكمه فاسألي أهل العلم.

وعليك بمُطالعة الكتب المفيدة، وسماع الأشرطة النافعة، وهي متوافرةٌ على مواقع كثيرةٍ كموقعنا "الألوكة"، وموقع إذاعة طريق الإسلام، وإسلام ويب، وغيرها؛ فهذه وسيلةٌ نافعةٌ ميسورةٌ.

تعمَّقي في معرفة ربك - جل وعلا - بالتعرف على معاني أسماء الله الحسنى وصفاته العُلى، وفي هذا كتبٌ مؤلفةٌ عديدةٌ تفوق الحصر، وكذلك المواد الصوتية فيها كثيرةٌ.

اقرئي السيرة النبوية؛ ككتاب: "الرحيق المختوم"، و"شمائل الترمذي".

وأوصيك بالتوسط في أمورك، فلا تبالغي في أداء النوافل، ولا تهجريها تمامًا، وخذي من الأعمال ما تطيقين؛ كرواتب الصلاة المعروفة، ولكن الأمر الهام الذي يجعل القلب يلتزم الطاعة هو المُداوَمة عليه؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يحب من الأعمال أدومها وإن قلَّ؛ كما ثبت عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - وهذا هو الأصل في كل أبواب الخير، وهو التوسط، وعدم الغلو؛ كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في مسند الإمام أحمد، من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إياكم والغُلُوّ في الدين؛ فإنه أهلك مَن كان قبلكم الغلو في الدين»، وقال: «إن هذا الدين متينٌ، فأوغلوا فيه برفقٍ».

ومما يعينك أيضًا على الطاعة: الصحبة الطيبة، فحاولي أن تنتقي بعض النساء الدَّيِّنات ممن تتوسمين فيهنَّ الخير والصلاح؛ فإن هذا مِن أعظم ما يعين على الحق، ومن المعلوم أنَّ مَن خالط أهل الحق صار منهم.

أما وقوعُ المسلم الملتَزِم في الذنب، فلا يوجب نِفاقًا - عياذًا بالله - فالنفاقُ معناه: أن تبطنَ الشر، وتُظهرَ الخير، والإنسان المسلم مهما بلغ صلاحه، فإنه عرضةٌ لأن يقع في بعض المحظورات، ولم يستثنَ مِن ذلك إلا الأنبياء والرسل، فلقد عَصَمَهُم الله من الوقوع في المعاصي، وأما من سواهم فليس بمعصومٍ، فهو عرضةٌ للخطأ والغفلة، والنسيان والجهل، وهذه أمورٌ كلها تسهل الوقوع في المخالفات، مهما كان صلاح العبد واستقامته.

فقد ينسى أمر الله في مسألةٍ ما، فيقع في مخالفة شرع الله، كمن ينسى الصلاة، أو الزكاة، أو الصيام، أو الأمانة، أو غير ذلك، كذلك قد يقصر الإنسان في طلب العلم الشرعي، فيقع في الحرام بجهلٍ، وهذا كثيرٌ جدًّا.

وقد يضعف الإنسان أمام بعض المغريات، فيقع كذلك في المعصية، وقد يزين الشيطان للإنسان الحرام، ويظل يغريه ويغويه حتى يقع فيه، وهذه أمثلةٌ واضحةٌ نراها من أنفسنا، وممن حولنا، فقد نقع في الغيبة أو النميمة، ولا ننتبه لذلك إلا بعد الوقوع في هذه الكبائر، وقد يزين الشيطان للفتاة النظر إلى شاب مِن الشباب، ويجمل ذلك في عينها؛ حتى تخالف شرع الله، وهكذا الشباب.

وتتوقف نسبة الوقوع في المعاصي على مستوى التربية الإيماني، وعلى البيئة التي يعيش فيها، وتذكَّري دائمًا قولَ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل ابن آدم خطاءٌ، وخير الخطائين التوابون»، فلا يوجد أحدٌ - مهما كان إيمانه - إلا ويحدث له بعض الأمور التي ذكرناها، ولقد شاء الله ألا يعصم العبد مِن الوقوع في المعاصي لحكمٍ يعلمها هو سبحانه، والتي مِن أهمها: حتى نعبد الله تعالى بالأسماء والصفات التي تتعلق بالتوبة والرحمة والمغفرة؛ فالله - عز وجل - ما سمى نفسه رحيمًا إلا ليرحمنا، ولا سمى نفسه توابًا إلا ليتوب علينا، ولا سمَّى نفسه غفورًا إلا ليغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، فإذا ما وقع العبد في معصيةٍ، ثم تاب منها إلى الله، وتركها حياءً من الله أحبه الله.

وهكذا بقية الأسماء والصفات التي تتناسب مع حال العاصي، وتوبته؛ وهو سبحانه القائل: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110]، وقد جاء جماعة وقالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68]، "ونحن دعونا غير الله"، وقال: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151]، "ونحن قَتَلْنا"، وقال: {وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68]، "ونحن وقعنا في الزنا"، فنزلت رحمة الرحيم بقوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 70]، فالتائبُ مِن الذنب كمَن لا ذنب له، وهو سبحانه يفرَح بتوبة عبده حين يتوب إليه، ولن يعدمَ الناسُ مِن ربٍّ يفرح بتوبة العصاة خيرًا.

والله أسأل أن يُثبتك على هذا العزم الأصيل في الإقبال على الله الكريم الحليم.

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام

  • 1
  • 0
  • 24,391

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً