إعجاز القرآن ... أفلا يؤمنون ؟
د.سلامة عبد الهادي
القرآن الكريم نور يهدي إلى الله وإلى طريقه، ولكل آية من آيـات القرآن إشعـاع خـاص بها، منه ما يهدي إلى صـراط الله المستقيم و سعـادة الدارين والاطمئنـان بهمـا، ومنـه مـا يلقى على آيــات الله في الكون، فـيـتـعمّق في أسـرارهـا بحكمة خـالقهـا، يعي منهـا المتدبّر بحسـب علمه وتخـصـصـه، ليهتدي بهـا إلى عظمـة الخـالق الذي وسع كل شيء رحمـة و علمـاً. و عندمـا يعجز العلم عن الوصول إلى تفسير كيف بدأ الخلق ومن هو القائم عليه، حتى يستمر ويسير بهذا النظام الثابت والواحد في كل شيء، وكيف ينتهي، نجد في آيـات القرآن الرد التـام والكـامل، والتي هي بمثابة إعلان من الله أنه هو الخالق والحي القيوم، والقائم على كل هذا، ودليل وبرهان على حقائق مطلقة يدركها العربي والأعجمي، تنتهي إلى الإيمان بعظمة الله وقدرته. يأتي هذا البرهان بالقول الذي يعجز عن أن يأتي بمثله من في الأرض جميعـاً ولو اجتمعوا له. وما نتطرق إليه في هذا المقال وجه واحد من أوجه الإعجاز في هذه الآيات، وهو الإعجاز الذي يراه مهندس تطبيقي. ولكن هناك الإعجاز الأدبي والبلاغي والجمالي والتضافري والتركيبي والعلمي، وأوجه أخرى يراهـا كل إنسان بحسب معارفه وتخصصه في كل آية وكلمة وحرف من هذه الآيات، دليلاً على صدق هذه الرسالة، خاتمة رسالات الله إلى خلقه و التي تتناسب مع هذا العصر و علومه.و لنـنظر إلى آيات نـقرأهـا في القرآن الكريم أو نراهـا في هذا الكون البديع و نختص في هذا المقال بآيات جاءت متعاقبة في سورة الأنبياء حيث يقول الحق:
{ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ.وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ.وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ.وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [الأنبيـاء:30 ـ 33]
ثم ننظر لمتابعة نفس الموضوع إلى آيـة جـاءت في نهـاية نـفس السورة لتعـبر عمـا يحدث للسماء في يـوم القـيـامة حيث يقول الحق { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَآءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } [الأنبياء:104]
تخـاطب هذه الآيـات الكـافـرون بوحدانية الله وقدرته في كل زمـان ، فتعرض عليهم بأقوى الأسـانيد العلمية والأدلة المـرئية مـا يـؤيد دعوته إلى كل الأنبياء وإلى خـاتم المرسلين أنه لا إله إلا الله. فتبدأ الآيــات بقول الحق {أَوَلَمْ يَرَ} دليلاً على أن من له الرؤية السليمـة سـوف يصل إلى هذه الحقـائق.
و قد أقـر جمهور علمـاء الطبيعـة أن خلق هذا الكـون جـاء من مـادة واحدة ملأت الكون في بدايته، وأن هذه المـادة المنتـشرة التي ملأت الكون في بـداية خلقـه، جـاءت جميعهـا من أصل واحــد ومن نبت واحد بحيث تـشابهـت في كل أركـان هذا الكون، فقد رأوا نفس الذرات والعنـاصـر والمركبات في كل أركان الأرض، بل وعلى سطح القمـر وفي المريخ والشمـس والكواكب الأخرى، وفي النجوم والمجـرات جميعهـا، فالمعـادن التي على الأرض هي نفس المعـادن التي وجدتهـا مركبات الفضـاء فوق سطح القمـر والمـريخ.. والغـازات التي تكوّن الشمس وتحيط بهـا، هي نفـس الغـازات التي نجدهـا في معـاملنـا على الأرض. وجميع الكواكب تخضع في حركتهـا إلى نفس القوانين التي تخضع لهـا الأرض وجميع النجوم تخضع في تفـاعلاتهـا إلى نفس القوانين التي تخضع لهـا الشمس ولهـا نفس مكونـاتهـا، لهذا وضع العلمـاء نـظريـاتهم عن بداية هذا الكون أن المـادة التي جـاء منهـا خلق الكون، كـانت جميعهـا مجتمعـة في حـالة انضغـاط لانهائي قبل ولادة الكون، ثم وقع على قدر تخيّلهم حدث بدأ وانتهى في لحظة واحدة، ونشأ عنه انـتـشار هذه المادة في الكون كله، وأسمَوا هذا الحدث "الانفجـار الكبير". ثم تحوّلت مـادة الكون بعـد هذا الانفجـار إلى إشـعـاع مـلأ الكون كله، ثم تحوّل الإشعاع بفعل بـرودة الكون إلى ذرات تمـاثلت جميعهـا في تكوينهـا وأشكـالهـا، ثم تجمّعت الذرات في نظـام واحد إلى نـجـوم ثم كواكب تـابعة للنجوم، وتجمعت النجوم في مجـرّات وحـارات، أي تشـابهت النجوم والكواكب والمجـرات منذ بداية الكون واتّزنت وانتظمت بجميع مكونـاتهـا على حد قولهم بفعل انفجـار كبير لم يستغرق سـوى لحظـة واحدة.
لقد أصـابت النظـرية في أن مــادة الكون -كما رآها هؤلاء- نشأت جميعهـا من أصـل واحد ومن مـصـدر واحــد، لأن نـسيج الكون كـله متـشـابه في كـل شيء. ولكن إنكـار يـد الخـالق الذي دبـّـر أن يأتي هذا الكون من منشـأ واحد، ثم إرجـاع هذه النـشـأة إلى انفجـار كبـير جاء في لحظة وحدة، يمثل تعـامٍ عن الحـقـائق؛ فمـا ينـشـأ عن انفجـار كبير هو الدّمـار، وليس عمـارة الكون بهذا النظـام الكامل والوحدة الرائـعــة.. هو الفوضى، وليس اتـزان النجوم في مجراتهـا والكواكب في أفـلاكهـا منذ اللحظة الأولى .. هو الاختلاف، و ليس تـشـابه الكون في كل أركـانه وأنحـائه.. كيف يكون هذا الكمـال والاتزان والتمـاثل نتيجة لانفجار عشوائي؟ ثم مـا الذي أحدث انفجـار هذه المـادة وفي هذا الوقت القصير بحيث تملأ مـادته الكون كله على اتـســاعه بهذه الدقة المتنـاهية والتماثل التام، فينـشـأ عنه كـون متسع يـتّسم بالكمـال والجمـال والوحدة والاتـزان منذ لحظـته الأولى. إن العلم المجرد من الإيمان يقف عـاجزاً عن الرد عن هذه الاستفسارات، ولا يستطيع أحد أن يملك الرد على كل هذه الاستفـسـارات سوى خـالق هذا الكون الذي أنـشأه، وشــهد نـشــأتـه.. خـالق لم يرضَ أن يترك النـاس في حـيرة وشـك، عندمـا يدركون مـا في هذا الكون من تمـاثل أو تشابه جاء منذ بدايته دون أن يجدوا لهذا تفسـيراً، فـأرسل كتـاباً يهدي به إلى الحق والحقيقة وإلى صـراط الله المـستقيم. فجـاءت هذه الآية بالرد الحق على كل مـا رآه العلمـاء وحاولوا أن يـجدوا له سبـبـاً { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا }، أي أن وراء هذا الكمـال والوحدة والاتـزان خـالقـاً قديراً، جعل ولادة هذا الكون من نسيج واحد أو رتق واحد، ثم فصل أو فتق هذا الرتق الذي كان يجمع السماوات والأرض في حيز محدود من نسيج واحد إلى خيوط تـشابهت جميعهـا في أشكـالهـا و خـامـاتها، فجـاء هذا الفتق- بحكمته وعلمه- إلى هذه الأفلاك والأجسام والنجوم والكواكب والمجرات والحارات، التي تشابهت جميعاً في تكوينها وقوانينهـا وطاعتهـا وخاماتها ونسيجها وذراتها وعناصرها وتسبيحها. لهذا جـاء التوحيد والتمـاثل والاتزان والإبداع في كل أرجـاء الكون..
هكذا جـاءت كلمتـا (الرتق) و (الفتق) بكل المعاني التي عبّرت عن كل مـا وجده وحـار في تفسيره العلمـاء، وليردّ على من ينكروا أن وراء نظم هذا الكون وانتظامه بالمنطق والتفسير والعلم والحكمة خـالق قدير وعظيم. وهل يـتأتّى إحكام هاتان الكلمتـان لأحد سوى خـالق السماوات والأرض، خـالق الرتق ومحدث الفتق؟
إنهـا حكمة لا تتأتّى لأحــد غيره، وهذا هو الردّ المعجز على كل من ينكر فضله وآياته في عمـارة هذا الكون وفي كتابه.
ثم تأتي الآية التـالية بدليل آخــر أمـام الكـافرين بوحدانية خـالق هذا الكون والحياة، فكمـا خلق الله الكون من نسيج واحد، جـاء فتقه ونشره -بقدرته- فصـار لهذا الكون اتسـاعه وإبداعه، جعل من الماء كل شيء حي فيقول الحق: { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ }.. من ينظر إلى هذه النجوم العملاقة يجد أنهـا جـاءت من أحد عنصري المــاء، وهو الهيدروجين، ثم نجد نتيجة مـا يحدث في هذه النجوم من تفاعلات أثنـاء حياة النجم أو عند انقباضه يتحول النجم إلى مجموعة من العناصر الأخرى التي لهـا ذرات عمـلاقة.
هناك من يدّعى أن بعض هذه الذرات العملاقة قد كوّنت (بالصدفة) الأحمـاض النووية والأمينية العملاقة، ثم اشتركت هذه الأحمـاض، بالصدفة أيضـاً، في تكوين أول خلية جـاءت إلى الأرض، ثم دبّت بهذه الصدفة الحياة في تلك الخلية، دون أن يعرفوا مــادة الحياة، أو يقولوا مـا هي عناصر الحياة التي دبّت في الخلية بحيث ينشأ منهـا كل هذا الخلق!! إن العقل البشري يوقن أن مـا يحويه عنصري المـاء ( ذرتي الهيدروجين والأكسيجين ) من إلكترونات وبروتونات ونيوترونات وجسيمات نووية وذرية أخرى، لا نعلم منهـا إلا القليل، يمكن أن يتراصّ ويأتلّف ليكوّن كل العنـاصر التي تراصت وترتبت لتكوين تلك الأحمـاض الأمينية والنووية.. ولكن هذا الترتيب والتنسيق لهذه المكونات والذرات لا يمكن أن يتأتّى إلا بـإعجـاز خالق مبدع؛ فالأحمـاض النووية وهي تشكّل وحدة بنـاء نواة الخلية التي تتمركز بداخل الخلية وتراقب عملهـا، لها عدد من الذرات الداخلة في تركيبهـا -يصل إلى ملايين الذرات- بترتيـبـات محددة، ونواة الخلية التي لها هذا التركيب هي المسئولة عن متابعة قيام الخلية بوظـائفهـا وانقسامها وتعاملهـا مع المحيط الخارجي، وتعاونهـا مع باقي الخلايـا المحيطة بهـا في الجسم البشري أو جسم أي كائن حي. وجميع الخلايا الحية على الأرض -سواء كانت نباتية أو حيوانية- تتمـاثل جميعهـا في هذا الترتيب، ولو اختلّ هذا الترتيب بأي درجة، مهمـا كانت ضآلتهـا، لانهـار بناء الخلية ولمـا كانت لهـا القدرة على القيام بوظـائفهـا المتعددة؛ إذا كيف تقوم الصدفة بهذا الترتيب المعجز لهذه الذرات وبهذا النظام المبهر لجزيئاتها العملاقة لكي تؤدي كل هذه الوظائف؟ إن هذا التفسير الذي افترضه العلماء لإنكار يد الخـالق الواحد الذي دبّر هذا التركيب الثابت شيء بعيد عن كل عقل وكل منطق. وكذلك الأحماض الأمينية التي تشكّل جسم الخلية وهي المسئولة عن تنفيذ مـا تحدده لهـا النواة من مهــام، والقيام به على أتمّ وجه. وللأحمـاض الأمينية أيضاً جزيئـات عملاقة تتكون من ملايين الذرات التي لهـا ترتيب خـاص ومبهـر، ولو اختلفت في ترتيب أي منهـا مـا كان لها أن تؤدي مـا لهـا من مهـام.
وكل الخلايا الحية قد جـاءت بهذا التركيب ومن هذه الأحمـاض، وكلهـا جميعـاً جـاءت من نفس مكونات المـاء كمـا أثبتت علومنـا. ولكن حكمة الخـالق جعلت كل خلية تختلف عمـا تؤديه أي خلية أخرى، بحسب موقعهـا في نبات أو حيوان أو حشرة أو طير أو في أمعـاء أو في سـاق، وبحسب ما تختزنه نواتهـا من أسرار، ويطلق العلماء على مادة الخلية الحية اسم 'البروتوبلازم'. وعنصرا المـاء والماء نفسه، هو المكون الرئيسي لهذه المادة -كما جاء في هذه الآية بهذا النص المعجز-، فـإذا جفَّ المـاء في الخلية توقفت حياة هذه الخلية.
وإذا نظرنـا إلى الحبِّ الذي يلقى في الأرض بدون المـاء، فلن تكتب له الحـياة أو الحركة. فـإذا ارتوت الأرض، فإن هذه الحبوب تعود وتدبّ فيهـا الحياة والنمـاء والحركة والاخضرار بما تحصل عليه من المـاء، فنـجدهـا بهذا المـاء قادرة على أن تذيب ما في الأرض من عنـاصر وأملاح، فتمتص من الأرض مـا تمتصه لتكون به أحمـاضـاً نووية وأمينية ينشأ بهـا خـلايـا أخرى، و تستمر الخلايـا في التكاثر ويستمر النبات في النمو والنمـاء. مـا هو سـر هذا المـاء الذي لا تستقيم الحياة بدونه؟ فمن هذا المـاء جاء خلق كل خلية، وبدون هذا الماء لن تكون للنبات حياة، وبدون النبات لن تكون للإنسان أو الحيوان أو أي شيء آخـر حـياة، وكل المخلوقات تسير على هذه السنة الثابتة
-هكذا تبلغنـا هذه الآية الكريمة- أن كل النجوم والكواكب والمجرات ومـا يملأ الكون من جـاء من نسيج واحد تفتق بأيدي خـالق واحد، فكـان هذا التماثل والوحدة، وجـاء خلق كل الأحـياء على الأرض من مـاء واحد وبيد خـالق واحد فكان هذا التماثل والوحدة، ألا يدل هذا على وحدانية خـالق هذا الرتق، وهذا الماء الذي جعلهمـا من أسراره. إن العلم قد وصل إلى وحدة نسيج هذا لكون، ثم عجز عن تفسير سـر هذه الوحدة، فلجأوا إلى اللامنطق بنظرية الانفجـار الكبير؛ ولو نظر هؤلاء العلمـاء إلى هذا الإعلان الذي جـاء منذ أربعة عشر قرنـاً في خـاتم رسـالات رب السماوات والأرض، لسلِموا من هذا الـخـلط. ثم أن العلم وصل إلى أن المـاء هو مـادة الحياة، ولكن العلمـاء عجزوا عن معرفة كيف يمكن لهذا الجزيء الذي تتكون منه الماء -هو من ذريتين صغيرتين- أن يتحول إلى هذه الجزيئـات العملاقة التي تتكون منهـا الأحماض الأمينية والنووية والبروتوبلازم ومكونات الخلية الحية، ثم كيف تتحول هذه الجمادات إلى شيء حي يتحرك ويتنفس ويتكاثر ويتكامل مع الخلايا الأخرى؟ لو كانت الصدفة هي المسئولة عن هذه الترتيبات وهذا أبعد شيء عن العقل، فمـا هي مادة الحياة؟
الرد هو التسليم بقول الحق أنه هو الذي جعل من المـاء مـا وهبه الحياة، فأصبح حي. وقد جـاء إعلانه لخلقه عمـا حـاروا في تفسيره بهذا النص المعجـز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه..
إنهـا قدرة الخـالق على كل شيء وإعجـازه في كل شيء، فمـا للكـافرين لا يؤمنون؟؟ ولهذه جـاء قول الحق بعد هذه الإثبـاتات { أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ }. نحن نؤمن ونسلم بخالقنا، فـأمامنـا هذا الإعجـاز الذي فتح الله إليه قلوبنـا وأزال من عليهـا هذا الوقر الذي يصيب قلوب وآذان وأبصـار الكافرين. وندعو الله لهم بالهداية إلى هذا النور الذي أرسله سبحـانه ليكون لنـا نوراً يهدي إلى الحق وإلى صراط الله المستقيم.
لقد اختصّ الخـالق هذه الأرض بـرحمته حتى تحتضن الحياة والأحياء عليهـا، والآيـات التـالية تذكرنـا بهذه الرحمـة الإلهية. ولكي نتعرف على مظــاهر هذه الرحمة، لا بد لنـا من إطلالة قصيرة على الكواكب الأخرى في مجمـوعتنـا الشمسية، كي نرى لِمَ عجزت هذه الكواكب عن احتضـان أي نوع من أنواع الحياة عليهـا.
نبدأ بعطــارد، وهو أصغـر كوكب يدور حول الشمس وأقربهـا إليهـا، وكتلته أصغـر من كتلة الأرض ولهذا تقل قدرته على جذب الأشـيـاء إلى أقل من ربع الجـاذبية الأرضية ممـا يفقده القدرة على الاحتفـاظ بغلاف جوي مثل الغلاف الجوي للأرض -يحميه من القصف المباشر للنيازك-، ولهذا نجد سطح هذا الكوكب مغطى بالبثور والفوّهات نتيجة الـصدام المباشر مع النيازك، كمـا تلعب مكونـات هذا الكوكب دوراً أســاسياً في سـرعة دورانه حول نفسه؛ حيث أصـابته بالبطء الشديد فيصل اليوم في عطـارد إلى 60 يومـاً من أيـام الأرض، ولهذا ترتفع درجة حرارة سطحه المضيء إلى 400 درجة مئوية. ونتيجة هذا الارتفاع في درجات الحرارة، لا يوجد أثـر للمـاء على هذا الكوكب، وكذلك أي أثر لحياة بيولوجية من أي نوع، ومن المشاهد أن هذا الكوكب غير متزّن؛ حيث أن سطحه غير مستقر، ويهبط بصورة مستمرة مـمـا جعل التجـاعيد تغطّي وجهه، وبالتالي فإنـه غير ممهـّد لقيـام الحياة عليه بأي صورة.
ثم إذا انتقلنـا إلى كوكب الزهـرة، وهو كوكب من كواكب المجموعة الشمسية ويـساوي الأرض في الكتلة والحجم، ولهذا نجد أن له جـاذبية تعادل جـاذبية الأرض مـمـا مكنته من الاحتفاظ بغـلاف جـوي، ولكننـا نجد أن سماء هذا الكوكب الذي احتفظ بهـا، قد امتلأت بغـاز ثاني أكسيد الكربون مع سحب من حـامض الكبريتيك وغـاز ثاني أكسيد لكربون غـاز ثـقيل، وله قدرة عـالية على امتصـاص أشعة الشمس ممـا جعل جو هذا الكوكب جحيمـاً لا يطـاق، كمـا أن سحبه تسقط أمطـاراً حمضية حوّلت سطح هذا الكوكب إلى كيان هش لا يحتمل السير عليه. ويصل طول اليوم الواحد في الزهرة إلى 243 من أيـام الأرض نتيجة لاختلاف أبعاده وبعده عن الشمس، مما جعل درجة حرارة الوجه المضيء تصل إلى 450 درجة، والضغط الجوي فيه يصل إلى 90 ضعف الضغط الجوي على الأرض. وهكذا نجد هذا الكوكب بأرضه وسمـائه غير قـادرين على الاحتفاظ بالمـاء ومن ثم بأي حياة بيولوجية على سطحه.
ثم إذا نظرنـا إلى المريخ -وهو أقرب كوكب إلى الأرض-، فنجد أنه يدور حول نفسه مرة واحدة كل 24 سـاعة مثل الأرض، ولكن الغلاف الجوي الذي يحيط بالمريخ يتكون أسـاسـاً من غـاز ثاني أكسيد الكربون عند ضغط منخفض جداً، ولأن المريخ أبعد عن الشمس من الأرض، فنجد أن درجة الحرارة على سطحه تصل إلى الصفر في أيام الصيف الشديد، وتهبط إلى 123 درجة مئوية تحت الصفر في أيام الشتاء. ونتيجة لهذا الانخفاض في درجات الحرارة على سطح المريخ، نجد أن المـاء المتجمع عليه في حـالة جليد دائم، ولعـل هذا هو السبب في اختفـاء أي أثـر للحياة على سطح المريخ.
وقد فشلت جميع الرحلات التي ذهبت إلى المريخ -أو إلى أي كواكب أخرى من كواكب المجموعة الشمسية- في العثور على أي أثر للحياة على هذه الكواكب، فقد اختص خـالق الأرض بأسباب لم يهبها أو يهيئها سوى للأرض، بحيث تكون لديهـا هذه القدرة على احتضان الحياة عليهـا، وهذا مـا تبينه الآيــات التالية، ونبدأ أولاً بهذه للآية الكريمة: { وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ }، فقد أرسى الخـالق في هذه الأرض الكتلة والمكونات التي تنضبط بها قدرة الأرض على جذب الأشياء فوقهـا، فتنضبط عليهـا حركة البشر وجميع المخلوقات فلا تميد بهم ولا تنهـار من تحتهم، وكذلك أدى استقرار القشـرة الأرضية إلى استقرار الغلاف الجوي وضغطه الثابت واستقرار المـاء في البحـار والأنهـار، وكذلك استقرت على الأرض حياة البشر، وجعل الخالق بهذه الرواسي مـا يرسى للأرض فلكـاً ثـابتاً حول الشمس وحول نفسهـا لا تحيد عنهما، بحيث تتّزن سـرعـتهـا وبعدهـا عن الشمس، فتنضبط عليهـا درجـات الحرارة واتـزان حرارتهـا المفقودة أثناء الليل مع مـا تكتسبه من حرارة أثناء النهـار، وكذلك جعل للأرض بهذه الرواسي مجالاً مغناطيسياً يحدّد ميلاً لمحور الأرض مع محور دورانها حول الشمس، فكـان للأرض بهذا الميل فصولاً محددة كل عـام، ومسارات للسحاب والرياح وخرائط للأمطـار، ممـا أتاح للبشر الحياة المستقرة عليهـا.
إن من يتدبّر هذه الكلمـات أن تميد بهم والتي تدل على أن الخـالق قد ضبط كتلة الأرض أو مـا أودعه الخـالق في الأرض من رواسي بحيث لا تميد بهم، فلا تتقلص القشرة الأرضية تحت أقدامهم كمـا يحدث في عطـارد، ولا يطيرون من فوقهـا كما يحدث على القمر ولا يلتصقون بهـا كمـا يحدث في المريخ، وتحفظ لهم غلافـاً جويـّاً حامياً بالضغط المناسب، وتحقّق لهم درجة الحرارة المناسبة لهم بحيث مكّنهم من الحياة عليهـا. وقد تحددت بهذه الرواسي وتكوينهـا الذي لا يعلمـه إلا الله، البعد المناسب عن الشمس والميل المطلوب مع محور الشمس والسرعة المطلوبة حول الشمس وحول نفسهـا، فلا يكون للأرض انحرافـات عن المعدلات المطلوبة لحياة الأحياء عليهـا. ومـاذا يحدث لو لم تكن لهـا هذه الرواسي ومـادت الأرض عن فلكهـا ومسـارهـا حول الشمس بأدنى انحراف، فزاد مثلاً بعدهـا عن الشمس بأدنى مقدار، ستتجمّد المياه والحياة كلهـا على الأرض لأن الطاقة الساقطة عليهـا تتغير بتغير مربع بعدهـا عن الشمـس، ومـاذا يحدث لو اقتربت بـقدر يسير من الشمس لا يتعدى مثلاً 1 % من بعدهـا الحالي، سيصل متوسط درجـات الحرارة على الأرض إلى مـا يزيد عن درجـة غليان المـاء -أي عن 100 درجة مئوية-، وهذا الحدّ كـافيٍ لتحول كل مياه البحار والمحيطات والأنهـار إلى بخـار أو سحب، وتتوقف الحياة على الأرض، وسيتغير أطوال الفصول ومقدار أيام السنة الشمسية، ممـا يؤدي إلى هلاك كل مـا نقوم بزراعته ونـتغذى عليه نحن وكل الأحياء، ومـاذا يحدث أيضـاً لو لم تكن في الأرض رواسي بهذا القدر المحكم فتبـاطأت سرعة الأرض حول نفسهـا فيتكرر لنـا مـا يحدث على كوكب الزهرة، فتزيد درجة حرارة الوجه المضيء وتفقد البحار ميـاهها على هذا الوجه، وتتجمد المياه في البحـار على الوجه المعتم وتتوقف الحياة عليه، وكذلك يلتصق الأحياء على الأرض كمـا يحدث على هذا الكوكب، وبنفس هذه التأثيرات لو زادت سرعة دوران الأرض حول محورهـا، فـينخفض متوسط درجـات الحرارة على الوجهين ونطير من على سطح لأرض كمـا يحدث في القمـر، ولا يبقى لنا غلاف جوي مثل عطارد. هكذا جـاءت حكمة الخـالق وعلمـه في تحديد الرواسي التي يتحدد بهـا كل شيء، فترسو حياتنـا ونرسوا على هذا الكوكب الذي أعده الخـالق ليحتضننـا عليه بكل الرحمة، فكانت للأرض هذه الرواسي، حتى لا تميد بنـا كما جاء في قول الحق { وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ }، إن الحرف 'أن' جـاء إعلانـاً بأن الخـالق أحكم كل شيء في هذا الكون، فدبّر رواسي الأرض بهذا التقدير الحكيم وبهذا العلم الدقيق حتى يكون للأرض مـا لهـا من استقرار، ورسوٍّ دون أي انحراف أو تجـاوز، فتكون مرسى لهذا الكائن الذي مهد خالقه كل شيء من أجله.
ثم تستكمل الآية الكريمة في فضل الله علينـا في هذه الأرض التي يسرهـا لنـا بقوله سبحانه { وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً }، إن من يذهب إلى القمـر ولا يجد عليه سـوى فوّهـات أو على عطـارد فلا يجد عليه سـوى التجـاعيد، أو إلى الزهرة فلا يجد إلا تربة هـشّة لا يستطيع السير عليهـا، سيستشعر نعمـة الله علينـا في هذه الفجـاج التي يسّرهـا الله لنـا على الأرض كي نحيـا ونسير عليهـا، وتيسـر لنـا سـبل الزراعة والتجـارة والصنـاعة والترحـال والانتقال بسهولة ويسـر، فقد امتدت القشرة الأرضية في تمـاسـك وصـلابة واستواء وامتداد، فاتسعت رقعتهـا للغـابـات والوديان والطرق والأنهـار والبحـار والقرى والمدن، وكل مـا يبغيه البشر من سبل لحياتهم ومتاعهم ورزقهم وأنعامهم وعرباتهم وطـائراتهم. لقد يسّـر الله هذه الفجـاج ليهتدوا إلى سبل الرزق والحياة والتعارف، ثم يهتدون إلى خـالقهم ومانحهم هذه النعم وموفر لهم هذه الأرض بانبسـاطهـا وامتدادهـا وطرقهـا، وهكذا كان ختام هذه الآية بهذه الكلمـات { لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ }، أليس في هذه السبل والفجاج هداية إلى معرفة فضل الله علينا وهداية إلى الحياة على الأرض، والانتفاع بخبراتها.
ثم تأتي الآية التـالية لتذكرنـا بفضل الخـالق في أن يخصنا بسمـاء تحفظنـا من فوقنـا برحمته، فنرى فضل الله في خلقهـا لنـا بهذه الكيفية. من يستعرض الكواكب من حولنـا فلا يرى لها سمـاءً حافظة ومحفوظة مثل سماء الأرض، فبها غـلاف جـوي يحمينـا من أشعة الشمس الضـارة، فيسمح هذا الغلاف بمرور مـا ينـفـعـنـا من هذه الأشعة، ويحتجز مــا يضرنـا بطبقة تسمى طبقة الأوزون، ثم اختص هذا الغلاف بنسبة عـالية من غازي الأكسيجين والنيتروجين، وكلاهمـا لا يمتصّـان أشعة الشمس، فتنفذ الأشعة النافعة من خلالهمـا لتصل أشعة الشمس إلى النبات ليختزن الطـاقة اللازمة له ولمن حوله، ثم أن وجود هذه النسبة من الأكسيجين في الهواء الجوي، تحرق أي نيازك قبل أن تصل إلى الأرض، فلا ترى هذه الفوّهـات والبثور على أرضهـا مثل باقي الكوكب التي لم يخصها الله برحمته، وفي الهواء نسبة ضئيلة من غـاز ثاني أكـسيد الكربون القـادر على امتصاص أشعة الشمس لا تتعدى جزء من الواحد بالمـائة كي يتغذى عليها النبات، ولكن لو زادت لحدث لنـا مثل ما يحدث على كوكب الزهرة الذي يـسـتحيل الحياة عليه، وقد حفظه الخالق لنا بهذا الثبات حتى نتمكن من الحياة على الأرض إلى أن يشـاء الله. ثم نجد أن غـاز الأكسيجين يؤدي أدواراً عديدة أخرى في حياتنـا، حيث يحترق به الغذاء في أجسامنـا والنار من حولنا، وكذلك غـاز النيتروجين ومـا يؤديه في حياة النبات الذي يُتَغَذَّى عليه
كل هذه الأدوار تؤديهـا سمـاءً حفظهـا الخالق لنـا وحفظنـا بهـا كسقف يمنع عنـا أن يصيبنـا من فوقنـا مـا يصيب كواكب أخرى حولنــا، ويتيح لنـا الحياة عليهـا دون أن نحترق أو نختنق. هل جـاءت سماء أرضنـا، كمـا قال خـالقهـا:{ سَقْفاً مَّحْفُوظاً }، بكل هذه الخصوصيات والآيـات بدون تدبير أو تنظيم أو تقدير خـالق عـزيز عليم. كيف نعرض عن كل هذه الآيـات ولا نتدبرها حقّ التدبر؟ هكذا يعاتبنـا الخـالق بقوله سبحانه { وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ }، فالسمـاء كلّهـا آيـات على عظمة خـالقهـا ورحمته وعزته وعلمه. علينـا أن نتدبر بهـا بهذا الاستدلال المعجز الذي أرسله الخـالق إلينا في خـاتم كتبه، وهل يستطيع بشراً أن يضع لفظـاً جـامعـاً يصف هذه السمـاء، ومـا تؤديه من أدوار في حياتنـا كسقف حـافظ ومحفوظ لنـا، ولأرضنـا بأبدع وأروع من هذه الكلمـات؟ إنهـا كلمـات جاءت حقاً من خالق الأرض والسمـاء.
ثم تأتي الآية التالية التي تذكّرنـا بـفضل الله وآيـاته في هذه الأشياء التي من حولنـا، في الليل والنهـار، الشمس والقمــر، كيف انتظمـت وتوافقت مع حياتنا وخلقنا وعملنا وراحتنا ودورات حياتنا وأعمـارنـا، وانتظم بهم كل شيء من حولنا. الحياة المستقرة والعمل نهاراً والنوم ليلاً ومـا يناسب أجسامنا من درجـات الحرارة وضغط الهواء. نحن لا نستطيع أن نحيا على كوكب الزهرة، الذي يصل طول اليوم فيه إلى 243 مثيله على الأرض، فتصل درجة الحرارة على سطحه إلى مئات الدرجات. إنه لا يتوافق مع حياتنـا ومع تكويننـا ومع خلقنـا. فمن سخّر كل هذه الأشياء لنـا، من سخر كل هذا التوافق والانسجام بيننا وبين كل هذه الأفلاك، من دبر للأرض وخلقهـا تدور حول نفسهـا بهذه السرعة الثابتة أمام الشمس ليأتي الليل والنهـار منسجمـاً مع بعد الأرض عن الشمس وراحة الإنسان وحرارته وحياته وسعيه. من سخر الأرض تدور حول الشمس بهذا الخضوع وهذا الثبات فيأتي هذا التعاقب للفصول بهذا الإبداع والالتزام في كل أنحاء الأرض ومع مـائهـا وهوائهـا ورمـالهـا وسحابهـا وكل شيء عليـهـا. من سخر للقمر دورته حول الأرض وأمام الشمس فيأتي هلالاً وبدراً، وتتعاقب أشكاله بهذا الإبداع والانسجام مع كل مـا خلق الله على الأرض، أنهم جميعـاً يسبّحون لخـالقهم بهذا الالتزام وهذه الطـاعة المتنـاهية والمتمثّلة في هذا الانسجام الشامل والكـامل.
لقد أعلن العلمـاء أنه حتى نرى كوكبـاً آخر يمكن أن تقوم حياة عليه في هذا الكون، فيجب أن تكون له كتلة مثل كتلة الأرض وحجمـاً مثل حجم الأرض وقمراً مثل قمر الأرض، وله زاوية ميل وسرعة دوران حول نفسه وحول شمسه مثل مـا للأرض، وأن تكون له شمساً مثل شمسنا عمراً وحجماً وكتلة وإشعاعاً وأبعاداً وثباتـاً. وأن يكون لهم جميعاً نفس الأفلاك والظروف والمقادير، أي أن يسبح كل شيء بنفس هذه التسبيحات وفي نفس هذه الأفلاك. وهذا مـا تنص عليه هذه الآية في نهايتهـا { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }. فإنهـا سبـاحة وتسبيح بعلم خـالق عزيز وعليم وقدير ومقدّر لكل شيء بحكمته، فهـل لنا أن نسبح معهم؟
كمـا رأينـا أن يد الخـالق هي التي بدأت هذا الكون، وكيف أيقن العلمـاء بهـا بعد أن تداعت نظرياتهم في الانفجـار الكبير، واعترفوا أن من ينظـر إلى الكون يشعـر أن هناك يد خـالق واحد نسقت كل هذا الكون، فجـاء كله وحدة واحدة أوله مثل آخره، وأعلن الخـالق عن أن يده هي اليد العليـا في هذا الكون المنتظم في خاتم كتبه بآيات يعجز البشـر عن أن يأتــوا بمثلهــا، ولكن نرى أن هؤلاء العلمـاء يتخبّطون مرة ثانية وهم يحـاولون أن يعرفوا كيف ينتهي هذا الكون دون اللجوء إلى الله. فقد أثبتت نظـريـاتهم بأنه أي الكون يتمدد ويتّسع دائمـاً، وقد أشـار الحق في خـاتم كتبه إلى هذه الحقيقة الجـامعة بقوله سبحـانه { وَالسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } [الذاريات:47]. هكذا تفسر الآية أن هذا التوحد و التماثل و التشابه في بناء هذا الكون قد جـاء لأن يدا واحدة كان لهـا مـطلق الخلق والتشكيل فيه، يداً تعلن عن نفسهـا، ولا أحد غيرها يتطـاول أن يدّعى سوى هذا. وتأتي هذه الآية أيضـاً لنـقـرّ بالحقيقة الأخرى التي اكتشفهـا العلمـاء، أن إرادته وحده هي التي جعلت هذا الكون يتّسع ويتمدد دائمـاً، ويتم هذا التوسع بنفس الانتظام وعلى نفس السنة منذ أن بدأ خلق الكون، منذ أن شـاء الله فتق الرتق الأول حتى يومنـا هذا. ويأتي سـؤال آخــر من العلم والعلمــاء؟ إلى متى يستمر فتق هذا الرتق الذي بدأ منه الخلق في التمدد والتوسع. إذا كان هذا الرتق محدوداً فهو لن يستمـر في التمدد والتوسع إلى الأبد، ولكن سوف تأتي لحظـة معينة -بحسب نظريات العلماء- سيبلغ فيها المكان والزمان نهايتهما، وسوف تـعود المـادة التي ملأت هذا الكون فتتجمع مرة أخرى ويتساقط الكون في حدث أطلقوا عليه اسم "الانسحاق العظيم"، و هو اسم مرادف للاسم الذي أطلقوه على بداية الكون بالانفجار العظيم، حيث سينسحق هذا الكون كمـا تنسحق النجوم التي ملأت الكون عن آخره، فتتحول إلى ثقوب سوداء.
ويبقى السؤال الذي لا ردّ له إلا الإيمان بخالق هذا الكون وباعثه.. متى تأتي هذه اللحظة؟ ومـاذا يحدث بعدهـا؟ وهل ستكون هناك دورة جديدة يتجدد فيهـا المكان والزمان مرة أخرى، ومن له اليد العليا في تحديد هذه اللحظة. هل هي المـادة ذاتهـا التي تقوم بهذا الحدث من تلقـاء نفسهـا، ودون أي إرادة أعلى.
إنـنـا ونحن نواجه أقوال العلمـاء وهم يذكرون هذا الحديث، نشعر بأنـنـا أمام افتراضات عقلانية وغير قادرة على إقامة الدليل على شيء محدد؛ فلم يرَ أحد كيف بدأ الخلق وكيف ستكون نهايته.. ولكننا سنحاول بالقدر الذي أتاحه الله لنـا من العلم، وهذا النور الذي بين أيدنـا أن نتدبر في خلق الله، فالكون له بداية كمـا أثبت العلم والعلمـاء، وأقـر الخـالق هذه الحقيقة في قرآنه، وكل شيء له بداية بهذا الإبداع والانسجام والانتظام لا بد أن له مبدأ، وهذا مـا أقرّه الخـالق وأعلن أنه هو المبدأ في قرآنه. وكل شيء له بداية أيضـاً فإن لـه نهـاية، وهذا مـا أثبته العلمـاء أيضـاً بنظريتاهم وأسـانيدهم، ولكن لن يستطيع أن يصف تلك اللحظـات الأخيرة لهذا الكون سوى خـالق الكون ومسيّره، فهو مبدأ الكون والعالم والمقدّر والقادر والعالم بنهـايته وكيف ينهيه، هو الموجود من قبل ومن بعد وله اليد في كل شيء. ولكننا نوقن بما يسّره الله لنا من علمه أنه لا بد أن يعود هذا الكون مرة أخرى بشكل لا يـعلمه إلا خـالقه ومبدؤه، وكل مـا توصّلنـا إليه هو محض فروض بنيت على المنطق العلمي ومـا اكتشفه العلمـاء، من توسع الكون بالقياسات العلمية وعبّرت عنهـا كلمـات شــاذة مثل "الانفجار العظيم" و "الانسحاق العظيم"، لا يستطيع أحد إدراكها أو يتخيل حدوثهـا لو كان له ذرة من العقل والمنطق والبصيرة، ولكن معرفة هذا لن تتأتّى دون الإيمان بالله خالق الكون ومبدعه، والقائم على أمره والقادر عليه.
تعالوا نترك الآن أقوال العلمـاء ونقف أمام قول الحق في نهاية نفس السورة التي عبرت في أولهـا عن بداية الخلق، حيث تحدّثُنـا عن يوم القيامة، اليوم الذي قدّره الخالق لنهـاية حياتنـا الأرضية وبداية حياة أخرى لا يعلمهـا إلا هو: { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَآءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ }، أي أن السمـاء كانت مطوية في هذا الرتق الذي عبرت عنه الآيات الأولى في السـورة، ثم إذا جـاء أمره في نهـاية الحياة الدنيـا سوف تعود وتطوى بقدرته مرة أخرى، لتعود سيرتهـا الأولى.. ثم مـا ذا يكون بعد ذلك، هذا علمــه وحده..
هكذا يكون تعبير الخالق عن خلقه، كلمـات ذات معنى يفهمهـا المرء دون صخب أو تعب أو ضجر أو ملل، فليس انسحاق عظيم، ولكن طيّ بيد الخالق الذي فتق أو أفرد صفحـات هـذه المادة التي ملأت الكون برحمته وعلمه وفضله. وانسحاق مادة الكون لا يدل على انقباض المكان، ولكن الطي يحوي انحسار المكان والزمان والكون كله. والانسحاق معناه التحول إلى العدم، ولكن الطي معناه إعـادة الشيء إلى أصله وبدايته، والانسحاق معناه الغوغائية واللانتظام. ولكن الطي معناه الحكمة والـتمهّل والنظام، و الانسحاق معناه أن المادة هي المسيطرة وتنسحق وقتمـا تشاء، ولكن الطي يبيد الخالق الذي جـاءت البداية بيديه، وكما بدأ أول خلق يعيده كما تذكر الآيات. والانسحاق معناه اللاعودة أو النهاية لكل شيء، ولكن الطي معناه نهـاية مرحلة وبداية أخرى.. هل يستطيع عـالم مهمـا بلغ علمـه أن يأتي بكل هذه المعاني في كلمـات محدودة أوعت كل شيء؟ وهل يستطيع عـالم أن يقرر هذه الحقائق بهذه القدرة والطلاقة و البيان؟؟
إننـا حقـاً أمام أنوار الحق تضيء لنـا الحقائق التي تخرجنا من الظالمات إلى النور، ظلمـات المـادية التي تصور المـادة على أن لهـا القدرة على أن تنفجر وقتمـا تشاء، وتنسحق وقتمـا تشـاء، وتصورنـا ألعوبة في يد مـادة بلا عقل أو تفكير، فتقوم بنفسهـا بانفجـار كبير فتنشأ كونـاً متسعـاً ومتوسّعـاً منتظماً ومنسّقاً، أو تنتهي وتتحول بدون مقدمـات من تلقاء نفسهـا بانسحاق عظيم، فينتهي الكون كله بمكانه وزمانه!!
هل يقبل العقل مـا يقوله المـاديون بهذه المسميات المادية الغير متعقلة، أم يقبل هذه الآيات من خالق السماء والأرض { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَآءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } صدق الله العظيم.
لقد أثبت العلم أن من كانوا ينادون بأن المـادة هي أصل كل شيء -بدعوى قـانون بقـاء المـاد-ة قد وقعوا في وهم شديد؛ فالمـادة ليست بـاقية كما أعتقد هؤلاء بعد إثبات أن المـادة تتحول إلى طـاقة والطـاقة أيضـاً ليست باقية كمـا ظن الناس قديمـاً؛ فهي تهبط من الدرجة الأعلى إلى الأدنى ولا تعود مرة أخرى، وهكذا اتضح أن المـادة لهـا نهـاية، وأن المـادية وهم في وهم، ولهذا انهـارت المـادية في العـالم أسـسـاً وتطبيقـاً وفلسفةً، وانهـارت معهـا الشيوعية وكل أدعيـاؤهـا، و أعلن أهلهـا أنهـا كانت أسوأ مـا عرفته البشرية من نظريات أو فلسفات؛ فليس للمـادة من إرادة، ولكن إرادة الخالق هي التي فتقت المـادة في البداية لتنتشر في الكون الآخذ في التوسع، وتطـويهـا في النهـاية لتعود كمـا أراد لهـا خـالقهـا، ولا مناص لنـا من الاعتراف بقدرته والعودة إليه في تفسير كيف بدء الخلق ثم كيف ينتهي.. فلم نشهد ولم يشهد أحد على الأرض هذه اللحظة، حيث يقول الحق { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ } [الكهف:51]، لهذا فلا بد لنـا أيضـاً من الاعتراف أنه بعد نهـاية الكون فسوف ينبعث مرة أخرى ليعود كمـا يريد له خالقه ومبدؤه ثم معيده..
ولهذا نجد أن هذه المعاني قد جاءت في كتاب الله العزيز عدة مرات ({اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } [الروم:11]، { أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِيءُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }، [العنكبوت:19] أنفطن إلى هذه الحقيقة التي لم نراها عند بدء الخلق أو لا نعرفهـا لأن الكون لم ينته بعد.. ولكن الخالق يضعهـا أمـامنـا حتى لا نضل ونشقى ... { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُون }.. صدق الله العظيم.
- التصنيف: