تاريخ المسلمين في البرازيل - صفات العبيد المسلمين وفضلهم على البرازيل

منذ 2014-03-16

سأتناول في هذا البحث تاريخ المسلمين الماضي والحاضر وسأطرح نظرة مستقبلية لما يمكن أن يُقدِّمه أهل الخبرة والاهتمام من دعم لمستقبل أفضل لوضع المسلمين في البرازيل...

الثورة الإسلامية في باهيا البرازيلية:

هذه حلقة مهمَّة من تاريخ المسلمين في البرازيل، أشعر بالألَم والحزن كلمَّا تعمَّقت في البحث ولَمَست ما تحمَّله وعاناه إخوانٌ لنا في هذه الأراضي البعيدة؛ من أجْل الحفاظ على دينهم، ولَم يكن لهم من نصيرٍ إلاَّ الله، ولَم تكن لديهم وسائل اتِّصال لتشرح وتَصِف ما عانوه من ظُلم وقتْل وتشريد، وإرغامٍ على اعتناق دين ليس دينهم، واتِّباع عادات ليستْ من عاداتهم، وكلُّ مَن عرَف بعض ما عاناه هؤلاء المسلمون، أُصيب بالحزن والأسى مثلي!

يذكر الشيخ عبد الرحمن البغدادي في مخطوطته "مسلية الغريب": "وكم مرة سألتهم عن سببِ هذا التستُّر الشديد -أي: ممارسة شعائر الدين في السرِّ، مع أن الدول أطْلَقت من الحرية لكلِّ شخصٍ ما يريد-، فأَخْبرُوني بأنَّ حربًا وقَعتْ بينهم؛ أي: المسلمين الأفارقة، وبين الخرستيان، وحاوَل السودان أن يَملكوا منهم البلدان وكانت النُّصرة للنصارى، وكلما رأيت الإسلام فيما ذكَرته من التغطيس -التعميد الإجباري- والدفن في مقابر النصارى، والاكتتام -ممارسة شعائر الإسلام في السرِّ- تَهطل من عيوني الدموع السجام، وأتأسَّف على بلاد الإسلام، وأتذكَّر وطني وبُعْد المسافة، ولا أجد لي حُرًّا أرْتجي إسعافه، سيَّما في بلدة عُدِم بها النصير، وجارَ بها الحقير، ودقَّت النواقيس، وكَثُرت وساوس إبليس" .

إنَّ هذا البحث وغيره من الأبحاث المتصلة به يجب أن تَنال اهتمامَ المؤسَّسات التي تُعنى بتاريخ المسلمين والجاليات الإسلاميَّة، وأن تُرفَع إلى المستويات السياسية في بلاد الإسلام؛ لمطالبة البلاد التي استعمرَت البرازيل بالاعتذار عن هذه الحقبة التاريخيَّة، والتي تعامَلت فيها مع البشر بشكلٍ همجي، لا يمتُّ للإنسانيَّة بصِلة، وكذلك يجب أن تعتذر الجِهات الدينيَّة التي قامَت بعملية إرغام  هؤلاء العبيد؛ ليتحوَّلوا عن دينهم، إنها صفحات حزينة لتاريخ المسلمين في البرازيل.

تناوَلت في الحلقة الأولى من تاريخ المسلمين في البرازيل استعراضًا للأقوال التاريخيَّة التي توضِّح -وبما لا يَدَع مجالًا للشكِّ- أنَّ التواصُل بين المسلمين والبرازيل قديم جدًّا، وتَمَّ التأكيد على أنَّ العبيد الذين جَلَبهم البرتغاليون للعمل على استصلاح أراضي البرازيل وزراعتها، كان أغلبُهم من المسلمين.

صفات العبيد المسلمين وفضلهم على البرازيل:

الواضح من الدراسات التاريخيَّة أنَّ العبيد المسلمين الذين تَمَّ جلْبُهم من إفريقيا، كانوا على قدر واسعٍ من العلم والثقافة والتقدُّم الحضاري، فكانوا يلقبونهم بـ"المعلمين"؛ نظرًا لتفوُّقهم وسَعة اطِّلاعهم وثقافتهم مُقارنة بالبرتغاليين، فلقد كانوا يُجيدون القراءة والكتابة باللغة العربية.

"إنَّ الدراسات الإستوريوغرافيَّة حول البرازيل تربط وصولَ الإسلام إلى هذا البلد بتجارة الرقيق، وهي تجمع في تحليلاتها للإثنيَّات الزنجيَّة المسلمة في البرازيل، على أنَّ الأمرَ يتعلَّق بمجموعات بشريَّة ذات مستوى ثقافي لا بأْس به، كانتْ تعرف القراءة والكتابة، ولَم تختلط ببقيَّة الرقيق ذَوِي الأصول الإفريقيَّة، تزعَّمت أهمَّ التمرُّدات الزنجيَّة التي عرَفتها البرازيل، وتَصِف هذه الدراسات الإسلام بالديانة التي تَبعث على عِزَّة النفس، وتُقاوم كل محاولات التمسيح، كما تَصِف الزنوج الذين يدينون بها في البرازيل بأُناس متشامخين ثائرين، لهم عِزَّة نفس".

وعملية التواصُل والتخاطب بين السادة كانتْ تتمُّ عن طريق العبيد المسلمين، "الأسياد الأُميُّون كانوا يتخاطبون من خلال عبيدهم الزنوج؛ يكتب العبد المسلم رسالة السيد الأُمي إلى زميله السيد الآخر الذي يقرأ له الرسالة عبدُه المسلم المتعلِّم".

يقول الدكتور شاكر مصطفى: "ولكن إفريقيا قدمَت إليها أيضًا "للبرازيل" مُعَلِّمين للمدارس، كما قدمت وهو الأهمُّ شيوخًا مسلمين".

"جاؤوا مُؤدِّبين ووُعَّاظًا، وأئمة صلاة، ومعلِّمي دينٍ، وكانوا في معظمهم من ممالك البورنو وسوكوتو وغاندو، ذوات التنظيم السياسي المتقدِّم، والأدب الديني الإسلامي الكامل، ولهم مؤلَّفاتهم المحليَّة باللغة العربيَّة، وفنُّهم القوي الأصيل الذي لا يُقارَن بتفاهات البرتغاليين".

"كان الماليز يتمتَّعون بمستوًى ثقافيٍّ عالٍ إذا ما قُورِن بمستوى البرازيليين، وكانوا قادرين على القراءة والكتابة باللغة العربية".

"في باهيا كانوا قادِرين على أن يكتبوا العربيَّة بمهارة، وكانوا أعلى ثقافةً من أسيادهم بكثير".

أمَّا بالنسبة للمجموعات المسلمة التي تَمَّ اختطافها من غرب إفريقيا، فقد كانتْ أسْمى في التعبير الفني، وفي التعليم وفي قصائد الشعر، وفي نوع الحياة وتنظيمها، وفي أساليب الزراعة والتجارة والقتال.

وأمَّا أولئك الذين تَمَّ اختطافُهم من السهوب الشرقيَّة المسلمة في معظمها، وكلها مناطق إسلاميَّة متقدِّمة الحضارة، بسبب اتِّصالها الدائم بالشمال الإفريقي وبمصر، فقد أكَّد الدكتور مايكل جوميز  أنَّ "هؤلاء العبيد كان يوكَل لهم مهامُ فنيَّة، مثل: الحلاقة، أو البناء، أو النجارة، أو الرسم، أو النحت على الخشب، وبعد فترة حدَث نوعٌ من الاتفاق مع مُلاَّكهم، فكانوا يحصلون على جزءٍ من أجورهم مقابل ترْك حريَّة لهم في العمل وإعالة أنفسهم".

وأضاف: "كان بعض العبيد مِن طوائف ومراتب اجتماعيَّة مرموقة، فقد كان مِن  بينهم أُمراء وجُنود، ومعلِّمون وعلماء، تَمَّ أسْرهم وترحيلهم كعبيدٍ إلى بلاد مسيحية غربيَّة".

وقد كان لهؤلاء العبيد الفضْل في اكتشاف الذهب والأَلْماس؛ "لقد أصرَّ البُرتغاليون أن يستعبدوا الأفارقة؛ لأنهم الأقدر على اكتشاف مناجم الذهب البرازيلية"، وقد تَمَّ اكتشاف المناجم 1720م.

"لقد استطاع الأفارقة أن يُنَقبوا عن الذهب البرازيلي حتى في الأنهار والجداول، وذلك تحت إمرة البرتغاليين".

يقول جيلبيرتو فريري: "كانوا يُشكِّلون عنصرًا نشيطًا مبدعًا، ويُمكن أن نقول: إنه نبيلٌ في استعمار البرازيل لا يخفض من مكانته، إلاَّ أنهم يُعتبرون رقيقًا! ما كانوا حيوانات جَرٍّ أو عُمَّال زراعة، ولكنَّهم مارَسوا دورًا حضاريًّا بارزًا، كانوا اليد اليمنى في التكوين الزراعي، بينما كان الهنود وبعض البرتغاليين اليد اليسرى.

البرازيل تدين لهم على الأقل بقصب السكر والقهوة التي جلَبَوها، والتبغ والقطن والحبوب، حتى الأدوات الزراعية الحديديَّة كلها إفريقيَّة، وقد طوَّرها الزنوج أنفسهم، والخلاسيون المولَّدون منهم حسب حاجات البلاد، ليس هذا فحسب، بل إن التعدين في البرازيل واستخراج الحديد قد أُخِذا عن هؤلاء الإفريقيين، كانتْ وسائلهم التقنية في ذلك أكثرَ تقدُّمًا من وسائل الهنود، ومِن وسائل الأوروبيين أيضًا، ويُمكن أن نُضيف تأثيرًا ثالثًا أيضًا لهم هو الطَّهي، فلقد اغْتَنى وارتَقى بالإسهام الإفريقي، ونُضيف أثرًا رابعًا هو رعْي الماشية، إنها في ماتو غروسو من أصل إفريقي قامَت على أكتاف الزنوج" .

ولقد "كان تأثير هؤلاء الزنوج أصيلاً خلاَّقًا، طوَّر المجتمع الذي كان على طريق التكون في البرازيل بعناصر ذات قيمة من الحضارة الإفريقيَّة وتقنياتها المتقدِّمة يومذاك لا على حضارة البرازيل، ولكن على حضارة الولايات المتَّحدة أيضًا".

"لقد أقرَّ البرتغاليون أنفسهم بأنه لولا العبيد الأفارقة ما استطاعوا أن يَجنوا ثمرة واحدةً من البرازيل، وما استطاعوا أن يفعلوا ما فعلوه"، "رسَّخوا أقدامهم في البرازيل، وباتَ وجودهم وكَثرة أعدادهم أمرًا لافتًا للانتباه، ومن هنا لَم يستطع أحدٌ أن يُنكر عليهم وجودهم الفعَّال، وفي القرن السادس عشر الميلادي توقَّع البُرتغاليون للأفارقة أن يَصبحوا بعد أربعة قرون الركيزة الأساسيَّة للاقتصاد البرازيلي".

دور علماء المسلمين الأفارقة:

لقد كان للعلماء والمشايخ في إفريقيا دور بارزٌ وتضحية تُكتب لهم في ميزان أعمالهم يوم القيامة، كانوا يقعون في الأَسْر مُختارِين؛ حتى يقوموا بمرافقة هؤلاء العبيد في طريقهم للأرض المجهولة، كان هدفهم واضحًا في الحفاظ على إسلامهم، وتقوية عزائمهم، وتعليمهم شعائرَ الدِّين، وعدم ترْكهم عُرضة لمصير مجهول لا يعلمه إلا الله!

شاهَد العلماء كيف كانتْ تتمُّ عملية غسْل عقول العبيد، وتغيير أسمائهم قبل شحْنهم في السفن، وشاهَدوا عملية التعميد الجماعيَّة التي كانتْ تُقام لهم لدى وصولهم البرازيل، وكانتْ وصيَّتهم للمسلمين بالصبر والثبات، وبدأ هؤلاء العلماء رحلة طويلة وشاقَّة؛ لتعليم العبيد شعائرَ الإسلام والمحافظة على دينهم، دون شعور من الأسياد، ونجحَت هذه العمليَّة التربويَّة في الحفاظ على العقيدة الإسلاميَّة لدى العبيد، وأن تكون حافزًا للكثير من الثورات التي تَمَّت بعد ذلك.

"كانوا يلحقون بالعبيد متطوعين؛ لإرشادهم إلى الدين، وينزلون معهم في الأكواخ، ويُلَقِّنونهم القرآن والكتابة، ومبادئ الشريعة، كانوا يحبسون أنفسهم معهم، وفي إطار عبوديَّتهم؛ ليستنقذوا البقيَّة الباقية من تمسُّكهم بالدِّين في الظروف الوحشيَّة التي يعيشونها".

يذكر الدكتور علي الكتاني: "وصادَف أن كان من بين هؤلاء علماء في الدين، فنَجَحوا في الحفاظ على علْمهم، وأسَّسوا جاليات قويَّة ومنظَّمة بين المستعبَدين في ولايات باهيا، وريودي جانيرو، وسان لويس دو مرانيون، ونَجحوا في إدخال كثيرٍ من العبيد الآخرين في الإسلام، وكانت لهم المدارس الإسلاميَّة والمساجد وشيءٌ من الحرية الدينيَّة، وكان يُسَمِّيهم البرتغاليون بالمعلِّمين" .

وهذا ما أكَّده الدكتور خالد محمد أبو الحسن: "فقد وُجِد من هؤلاء العبيد شيوخٌ كِبار، كانوا يقومون بمهمة جليلة في البرازيل، وهي مهمَّة الوعظ والإرشاد والتفقيه، فقد كانوا ينزلون مع العبيد الصغار الأكواخ، ويعلِّمونهم القرآن ومبادئ الشريعة الإسلامية السَّمحاء".

ويؤكِّد الباحث الإثنوغرافي "روجيه باستيد"  الذي اهتمَّت أبحاثه بالديانات الإفريقية في البرازيل، وفي دراسة صدَرت له سنة 1971م، ذكر فيها أنَّ المسلمين الزنوج كانوا يوجدون خلال الثُّلُث الأخير من القرن التاسع عشر في جُلِّ مناطق البرازيل، وأنهم -وبحسب المصادر الشفوية التي اعتمَدها- كانتْ لهم مساجدُ في الأغواس، وبرنامبوكو وباهيا.

نفس النتيجة وصَل إليها جواو خوسيه رايس حينما ذكَر "أنَّ الثورة الإسلامية جاءتْ في وقت انتشار الإسلام بين الأفارقة الذين يعيشون في باهيا".

الإعداد العلمي والتربوي للمُسلمين الأفارقة:

اتَّبع العلماء والمشايخ أسلوبًا تربويًّا وتنظيمًا راقيًا؛ حيث كانوا يقسمون الأفارقة مجموعات، كلُّ مجموعة تضمُّ عددًا من الأتْباع بين الخمسة والعشرة، ويُباشر الشيخ تعليمَهم القرآنَ، ويؤدي معهم الصلوات، ولقد أشار القس إتيان "أنَّ الإسلام قوي وتفرَّع في البرازيل، وأضاء ظُلمة أكواخ الرقيق الذين جاؤوا من إفريقيا -معلِّمين ووُعَّاظًا- لتعليم القراءة والكتابة باللغة العربية والقرآن الكريم؛ حيث كانتْ توجَد المدارس والمصليات المحمديَّة".

ونستطيع التأكيد على أنَّ الدِّين الإسلامي كان الدافع لتجمُّع العبيد وتوحُّدهم؛ "إنَّ الدين الإسلامي هو الذي أوْجَد للمهاجرين إلى البرازيل كِيانًا، ورُبَّما كان سببًا في تقوية تجمُّعهم وتعضيد استقرارهم، رغم حياة الشَّتات التي كانوا يعيشونها".

"فالأغلبيَّة الساحقة من هؤلاء العبيد كانوا من المسلمين الذين أُرْغموا على ترْك دينهم تحت التهديد والتعذيب، وعليه تقهقَر الإسلام في أمريكا اللاتينية".

يذكر الدكتور مايكل جوميز: "إنَّ العبيد المسلمين عاشوا في مجموعات متراصة، وكانوا يشدون من أزْرِ بعض، ويُطَوِّرون أنفسهم ومجتمعهم، وخَلقوا مساحة لهم بعيدًا عن بقيَّة السكان، وضربوا مثلًا برفْضهم مصافحةَ غير المسلمين باليد، وسُخريتهم من نُظرائهم ممن اعْتَنقوا المسيحية بسبب وضْعهم لصُوَر القديسين في بيوتهم، وكانوا يعملون على التجمُّع في منزل محدَّد للصلاة وقراءة القرآن الكريم، بعض العبيد كانوا يُدرِّسون العربية لغيرهم، ووُجِد الكثير من المخطوطات في ملابس القتلى والأَسْرى منهم تتضمَّن آيات قرآنيَّة وأدعية وأحاديث شريفة، وعَمَدوا إلى ارتداء الملابس البيضاء لتمييز أنفسهم، بالإضافة إلى تناول المنتجات الحلال والابتعاد عن الخمور".

وقام العلماء المسلمون بإحياء المناسبات الإسلاميَّة كفرصة لالتقاء أكبر عددٍ من المسلمين والعمل على تنظيمهم؛ يقول جواو خوسيه ريس: "لقد تحوَّلت أكواخ العبيد إلى مدارس قرآنيَّة، ليس هذا فحسب، بل كانوا يجتمعون يوميًّا للصلاة، وللإفطار الجماعي خلال شهر رمضان"، ويَصِف خوسيه رايس آخر احتفال قام به المسلمون في باهيا قبل ثورة 1835م، فيقول: "وكانوا يجتمعون لإحياء المناسبات الإسلامية المختلفة، وهنا يُمكننا أن نلاحظ أنَّ آخِرَ اجتماع عام قامَ به المسلمون كان لإحياء ليلة المعراج -صعود النبي محمد إلى السماء- قد حدَث في  يوم السبت 29 نوفمبر عام 1834م".

بدايات الثورة الإسلامية:

أثْمَرت التربية الإسلامية التي قام بها العلماء عن وجود رُوح جهاديَّة قويَّة عند المسلمين دفَعتهم للكثير من الثورات، كانتْ نهايتها الفشل، "ففي مايو 1807م خطَّط الأئمة المسلمون للثورة اعتراضًا على الظلم، بعد أن حوَّلوا بيوتهم إلى مساجد؛ لشحْن الثوَّار، وكدَّسوا فيها السلاح، وكان للثورة ثلاثة أهداف: قتل السادة البيض المستعبِدين للأفارقة، وتسميم مصادر مياه الشرب العامَّة، والهروب في السفن عبر ميناء سلفادور، والعودة إلى الأوطان في غرب إفريقيا، لكن حاكِم "باهيا" كان قد دسَّ عُملاء من الأفارقة بين الثوَّار تَمكَّنوا من تسريب المعلومات المطلوبة قبل إشعال الثورة، فتَمَّ اعتقال قادة الثورة، وصدَرت أحكام بالإعدام والجَلد والسجن على المسلمين المشاركين في التمرُّد، ثم طُبِّقت قوانين حظرِ التجوُّل ليلاً في كافة مناطق وجود المسلمين والأفارقة في باهيا".

في  يناير  1809م تكرَّر التمرُّد، وكان ناجحًا هذه المرة، وأوْقَع عشرات القتْلى والجرحى من الجنود البيض، بعد أن استولَى المتمرِّدون على مستودع للسلاح في منطقة ريفيَّة من باهيا، وتتبَّعت السلطات المتمرِّدين، وقتَلَت وأَسَرت منهم المئات، ثم تكرَّرت عشرات حوادث التمرُّد التي انخرَط فيها مئات الأفارقة، وتزعَّمهم قادة مسلمون من قبائل اليوروبا والهوسا في أعوام (1814-1816)م، و(1822-1826)م، ثم اندلَعَت عدة تمرُّدات على مدى أربعة أعوام متتالية (من 1827 وحتى 1830)م.

في بداية القرن التاسع عشر تَمَّ جلْبُ المزيد من العبيد الأفارقة، وكثير منهم كان قد تتلمَذ على يد الشيخ "عثمان بن فون"، وعايَش حركته الجهادية الإصلاحيَّة في إفريقيا؛ لتصحيح عقائد المسلمين ضد الخُرافات، وكان وصولهم للبرازيل بمثابة وقود جديد لاستمرارية الثورة ضد البرتغاليين، لقد أسهَمت هذه المجموعة الجديدة في توسيع حركة الجهاد داخل صفوف الأفارقة، وتشكيل العقليَّة المسلمة بأفكار جديدة وقُدرة تنظيميَّة رائعة، جعَلت المسلمين يقرِّرون الثورة على المظالم التي يتعرَّضون لها.

إنَّ  المسلمين في باهيا وبقيَّة مناطق البرازيل قاوَموا الرِّقَّ والعبودية، من خلال تطوير مفهوم جديد للجهاد اعتبروا فيه الكتابة بالعربيَّة، والحفاظ على الصلاة والصوم، وارتداء الأزياء العربيَّة الإفريقيَّة - نوعًا جديدًا من الجهاد يحافظ على الهُويَّة من مَغبَّة التنصير والابتلاع.

ثورة العبيد 1835م:

تُعتبر ثورة العبيد 1835م والتي قامَت في مدينة "سلفادور" عاصمة ولاية باهيا، أكثر الثورات شُهرة في تاريخ البرازيل، وعُرِف باسم تمرُّد مالي Male؛ أي: تمرُّد المسلمين الأفارقة؛ حيث بدأ المسلمون في جمع الأموال وتخزين الأسلحة، ووضْع الخُطط باللغة العربية لثورة 1835م؛ "كان الإسلام قد عشَّش وتفرَّع وقَوِي في عَتْمة الأكواخ "السنزالا"، وكان العبيد قد بلَغوا من الشكيمة في أنفسهم، ومن القوة بدينهم، ومن الاعتداد بكَثرتهم - الدرجة التي قرَّروا فيها الثورة، قادَهم فيها الشيوخ الذين يَقبعون معهم في العتمة المنبوذة، وتعاوَن فيها أبناء الهاوسة مع الفولا، واليوروبا، والناغو، والأيوه والكيجة...، كان المسلمون وشيوخهم من هؤلاء يمثِّلون نوعًا من الأرستقراطية بين زنوج الأكواخ".

الأجواء التي سبَقت ثورة سنة 1835م للزنوج في باهيا؛ أجواء حماسة دينيَّة بالغة، في أزقة ماتابوركس على شرفة الساحة، قُرْب صليب القديس فرانسوا، وفي ظلِّ الكنائس والأديرة الكاثولويكيَّة، وفي الأركان التي تُنتصب فيها العذراء وتماثيل سان أنطونيو اللشبوني، كان الزنوج يضعون القرآن ويُقيمون الصلوات، متحدِّين بذلك الأسيادَ البيض الذين كانوا يَرقبونهم من النوافذ في أعالي البيوت، وكانوا يهاجمون القُداس الكاثوليكي، مُعلنين أنه ليس أكثر من عبادة لقطعة من الخشب، وكانوا يرفعون مسابهم ذات الـ 99 حبَّة من الخشب، والمنتهية بطرة وكُرة صغيرة في وجْه المسابح التي تحمل الصليب.

تعود أسباب الثورة إلى عدم رضا المسلمين عن العبوديَّة والتمييز العنصري الذي كان يُمارس في حقِّهم، وبُغضهم للتعصُّب الديني الذي مارستْه الكنيسة بإجبارهم على اعتناق الكاثولوكيَّة.

"كانت المقاومة في باهيا وغيرها من مناطق أمريكا اللاتينية موجَّهة ضد الأوضاع الاستبدادية والقمعيَّة التي نشأَتْ من محاولات تحويل المسلمين قسْرًا إلى المسيحية، وكانتْ دوافع الرفض واضحة: كيف يُمكن اعتناق دين أصحابه استعبدوا غيرهم، وطبَّقوا العنصرية في مقابل التخلِّي عن دين يعلم المساواة والحرية؟!".

لقد حدَّد المسلمون أهدافهم، والتي تبلوَرت في التحرير الكامل للعبيد، والقضاء على الديانة الكاثولوكية، ومُصادرة جميع الممتلكات الخاصة بالبيض، وإقامة دولة إسلاميَّة.

استطاع العلماء توحيدَ الأفارقة وتربيتهم على القرآن، وبثُّوا في نفوسهم السعي للتحرُّر، عن طريق مقاومة المستعبد، وحاوَل العبيد القيام بأكثر من ثورة، وكانتْ أهمُّ هذه الثورات ثورة العبيد أو ثورة المالي؛ كما يُطلق عليها في البرازيل عام 1835م؛ حيث أعدَّ لها الأفارقة إعدادًا جيدًا، وخطَّطوا للقضاء على النظام البرتغالي الموجود، ورفْع الظلم وتحرير العبيد، والحريَّة في ممارسة الشعائر الإسلاميَّة.

تَمَّ اختيار ليلة القدر؛ لتكون شرارة انطلاق الانتفاضة، وكانت تناسب يوم الأحد 25 يناير، وهو يوم عُطلة رسميَّة للجنود البرازيليين "عيد القيامة النصراني"؛ مما يعني ضَعْف الرقابة الصارمة التي كانتْ تُمارس ضد العبيد، وتعدُّ عليهم أنفاسهم.

اجتمَع قادة الثورة في تلك الليلة لوضْع اللمسات الأخيرة لقيام الثورة، وحدَث ما لَم يتوقَّعه أحدٌ، أن تسرَّبت هذه المعلومات لأحدِ العبيد الذي كانتْ له صِلة بالشرطة، فقام على الفور بالإبلاغ؛ مما دفَع بقوَّات كبيرة للوصول إلى المكان وحاصَرَتْه، وبدأ إطلاق الرصاص فما كان من العبيد إلاَّ أن انطلَقوا في الشوارع؛ لإعلام بقيَّة العبيد بقيام الثورة، واندلَعَت مواجهات قويَّة وحرب شوارع في شارع النصر، استدعَت القوات في مدينة سلفادور قوات للتعزيز من شرطة ساو بالو، ودارتْ معارك شَرِسة في أكثر من مكان، كان من نتائجها قتْل معظم قادة الثورة، وإلقاء القبض على الكثير من العبيد، ومُصادرة أيِّ كتابات باللغة العربية، أُقيمَت المحاكمات لِمَن تبقَّى منهم، وحُكِم على بعضهم بالإعدام، وأُعِيد بعضهم إلى إفريقيا، وتَمَّ توزيع البقيَّة على ولايات البرازيل المختلفة، بحيث يتمُّ تشتيت الأُسَر؛ الأب في مكان، والأم في مكان، والأولاد في مكان.

ذُبِحت الثورة سنة 1835م كما ذُبِحت سابقاتها، ولكن بشكلٍ أشدَّ عنفًا ودمويَّة، كلُّ قوى الدولة والكنيسة الكاثوليكيَّة، والمستعمرين، سُخِّرت لسحْقها الشديد كالديدان المؤذية.

القصة السوداء التي تُحكى عن الوحشيَّة الإسبانيَّة في تدمير الهنود، هي نفسها التي مارَسها البرتغاليون في خَنْق الثورات الزنجية الإسلاميَّة، وهذه الأخيرة بالذات ظلَّت جُثثهم تتعفَّن -روائحَ ودَمًا وعِظامًا- مدة طويلة على الطرقات وفي عتمة السنزالات الخَرِبة.

نتائج الثورة:

تَمَّ ترحيل 500 من قادة التمرُّد من العبيد المحرَّرين إلى بلادهم الأصليَّة، وأشار ميشل تورنر من جامعة مدينة نيويورك في بحثٍ له عن المسلمين المحرَّرين من البرازيل إلى إفريقيا، أنهم قد عادوا إلى داهومي، وأقاموا أوَّل مسجدٍ بعاصمة البلاد ، وأكَّد ذلك الدكتور على الكتاني: "وهاجَر الكثير منهم إلى إفريقيا؛ حيث يكونون اليوم ساحل الداهومي ونيجيريا والدول المجاورة لها جاليات إسلاميَّة من أصْل برازيلي، وأسماؤهم ما زالت بُرتغالية إلى اليوم".

إنَّ عملية القمع التي عانَت منها الجالية الإسلامية بعد هذه الثورة شتَّتت الجالية وفرَّقتها، حُكِم بالإعدام على أربعة إفريقيين، على الرغم من عدم كونهم من الزعماء؛ ليكونوا مثالًا لباقي الثوار، ونال المئات الجَلْدُ وغيرهم السجن، وتَمَّ نفي الأحرار منهم إلى إفريقيا، وبِيعَ الآخرون إلى مناطق أخرى في البرازيل، واعْتُبِر مشبوهًا أيُّ إفريقي يحمل أوراقًا باللغة العربية.

لقد أثَّرت الثورة على كلِّ البرازيل، وانتشر خبرُها في صحف أمريكا الشمالية والصحف الإنجليزية، وكانتْ سببًا مباشرًا لصدور القرار الخاص بتحرير العبيد، والقضاء على تجارة الرقيق والذي وقعته الأميرة إيزابيل في 13 مايو عام 1888م في دولة البرازيل.

على الرغم من عِظَم التضحيات التي قُدِّمت من قِبَل المسلمين الأفارقة للحصول على حريَّتهم، وبالرغم من الملاحقات والتعذيب والتشريد، فإنَّ المسلمين ظلُّوا محافظين على دينهم، وبَقِي الإسلام في البرازيل لسنوات عديدة بعد ذلك، حاوَل المسلمون خلال هذه الفترة تنظيمَ أنفسهم، والتواصُل فيما بينهم رغم بُعْد المسافات، وقلَّة وسائل النقل آنذاك، إلاَّ أنَّ تعاليم الدين الإسلامي كان قد أصابَها الكثير من التبديل والتحريف والذي أسهمَت فيه العوامل السابقة، إضافة لاختراق بعض اليهود لصفوف المسلمين؛ لكي يُفسدوا عليهم دينهم، وهذا ما سنتاوله بالدراسة في الحلقة القادمة بإذن الله.

الشيخ خالد رزق تقي الدين

 

Editorial notes: بتصرّف يسير.
المقال السابق
الجذور التاريخية
المقال التالي
الشيخ عبد الرحمن البغدادي في بلاد السامبا