اتباع لا ابتداع

منذ 2014-03-19

وقد أكمل الله لنا هذا الدين، وأتمَّ علينا نعمته، فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}... وقال صلى الله عليه وسلم: «وكلُّ بِدعَةٍ ضَلالَةٌ»...

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تعبه واقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد:


فإن من عظيم كرم الله سبحانه ومنّته، أن بعث فينا رسولًا منّا يتلو علينا الآيات المبيِّنات، ويزكينا بالأخلاق الفاضلات، يرشدنا إلى الصراط المستقيم، والسبيل الموصل إلى جنَّات النعيم.

 

وقد أكمل الله لنا هذا الدين، وأتمَّ علينا نعمته، فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة من الآية:3].

 

وأمر سبحانه  عباده بأن يتبعوا نبيَّه صلى الله عليه وسلم، ويقتفوا أثره، ويهتدوا بهديه، ويستنُّوا بسنَّته، فقال: {وَأَطِيعُوا اللَّـهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران:132].

 

وبيَّن سبحانه أن علامة صدق حُبِّ المحبِّين له، والسبيل إلى حبِّ الله لهم، ومغفرته لذنوبهم؛ إنما هي باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران:31]، قال الحسن البصري: "زعم قومٌ أنهم يحبون الله، فابتلاهم الله بهذه الآية" (ابن كثير [1536]).


وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بأن يلزموا غرزه، ويتمسكوا بما كانوا عليه معه من بعده، وحذَّرهم من مخالفته وتنكُّبِ طريقه فقال: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِى فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَة» (أبو داود والترمذي بسند جيد).


وقد لزم الصحابة غرز نبيّهم صلى الله عليه وسلم، وعملوا بوصيته من بعده، فنشروا السنن، وحذّروا من البدع، قال عمر بن الخطاب: "أيُّها النَّاسُ، قد سُنَّت لكم السنن، وفُرِضَتْ لكمْ الفرائِض، وتُرِكتُم على الواضِحَةِ، إلاَّ أن تَضِلُّوا بالنَّاسِ يَمينًا وشمالًا" (رواه مالك في الموطأ عن ابن المسيب به).


و قال حذيفة بن اليمان: "يا معْشرَ القرَّاء استَقيموا فقد سبقتُم سَبْقًا بَعيدًا، فإنْ أخذتُم يَمينًا وشِمالًا لقدْ ضَللتُم ضَلالًا بَعِيدًا" (رواه البخاري).


وقد يسأل أحدهم عن سبب هذا التحذير الشديد من البدع، وللإجابة عن هذا فإنه يقال: قد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن البدعة ضلالة تودي بصاحبها إلى النار، فقال صلى الله عليه وسلم: «وكلُّ بِدعَةٍ ضَلالَةٌ» (رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح).


وأخبرنا صلى الله عليه وسلم أن المحدِثَ في الدين، ومن آواه، مطرودونَ من رحمة الله سبحانه، فقال: «المَدينةُ حَرم فمنْ أحدَثَ فيها حَدَثًا أو آوى مُحدَِثًا فعليهِ لَعنةُ اللهِ والملائكةِ والناسِ أَجمعينَ لا يقبلُ مِنْهُ يومَ القِيامَةِ عَدلًا ولا صَرفًا» (رواه البخاري ومسلم).


قال ابن الأثير: "والمحدث يروى بكسر الدال وفتحها على الفاعل والمفعول، فمعنى الكسر: من نصر جانيًا أو آواه وأجاره من خصمه، وحال بينه وبين أن يقتصَّ منه. والفتح: هو الأمر المبتدع نفسه، ويكون معنى الإيواء فيه الرضا به والصبر عليه، فإنه إذا رضي بالبدعة وأقرَّ فاعلها ولم ينكِر عليه فقد آواه " (النهاية في غريب الحديث والأثر [1338]).


وقال ابن بطال: "ودل الحديث على أنه من آوى أهل المعاصي والبدع أنه شريك في الإثم، وليس يدل الحديث على أن من أحدث حدثًا أو آوى محدثًا في غير المدينة أنه غير متوعد ولا ملوم على ذلك؛ لتقدم العلم بأن من رضي فعل قوم وعملهم أنه منهم، وإن كان بعيدًا عنهم. فهذا الحديث نصٌ في تحذير فعل شيء من المنكر في المدينة وهو دليل في التحذير من إحداث مثل ذلك في غيرها، وإنما خصَّتْ المدينة بالذكر في هذا الحديث؛ لأن اللعنة على من أحدث فيها حدثًا أشد والوعيد له آكد؛ لانتهاكه ما حذَّر عنه، وإقدامه على مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم"  (شرح صحيح البخاري لابن بطال [10350]).


وقال الشاطبي: "وهو (أي الحديث) وإن كان مختصًّا بالمدينة فغيرها أيضًا يدخل في المعنى" (الاعتصام [1113]).


ثم إن رجوع المبتدع إلى السنة أصعب من رجوع غيره، وذلك لأنه اتَّخذ هذه البدعة دينًا يتقرب بها إلى مولاه، ولذلك قال كثيرٌ من العلماء بأن التوبة محجوبة عنهم، إلا أن يوفِّق الله أحدهم للرجوع والإنابة، وقد وردت بعض الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وهي صحيحة المعنى.


والبدع من أهمِّ أسباب التنازع وإلقاء العداوة والبغضاء بين أهل الإسلام، وذلك لأنها تقتضي تفرق المسلمين شِيَعًا وأحزابًا.


هذا ويقال أيضًا: إن صاحب البدعة قد نزَّل نفسه منزلة المضاهي للشارع الحكيم في التشريع، فهو كالمستدرك على الله ورسوله، بجعله لنفسه مشرعًا معهم يضاهي ببدعته السنة، ويلبِّس بها على الخلق ليصرفهم بهواه عن الهدى إلى الضلال، وكفى بهذا شرًا، قال الإمام مالك: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة، فقد زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة، لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة من الآية:3)]، فما لم يكن يومئذٍ دينًا، فلا يكون اليوم دينًا" (الاعتصام [165-66]).

 

ومما ينبغي التنبيه عليه أن البدعة تميت سنةً في مقابلها، قال حسان بن عطية: "ما أحدثَ قومٌ بدعةً في دينهم إلا نَزعَ اللهُ من سُنَّتهم مِثلَها، ثمَّ لمْ يُعِدها إليهِم إلى يومِ القِيامَةِ" (اللالكائي، والعكبري في (الإبانة الكبرى)، والأثر صحيح)، وقد خولفت في عصرنا الحاضر كثير من السنن، فلم يبق لها ذكرٌ إلا عند الغرباء، الذين يحيون ما مات من السنن.

 


ولتوضيح هذا فإنني أستعرض بعضًا من البدع التي ذهبت بسننٍ في مقابلها، لا على سبيل الحصر، بل على سبيل التمثيل:

 

 

فمن ذلك ما يقوم به البعض من زخرفة للمساجد، وإسراف في البناء، والسنة خلاف ذلك، ولو أن هذه الأموال بُذلت في إعانة فقير، أو إغاثة محتاج لكان أولى.

 


ومن ذلك السلام على المصلين بعد الفراغ من الصلاة مباشرة، والسنة أن يذكر الله ويلتزم بالأوراد التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو بسلامه على المصلي بعد الفراغ مباشرة يقطع عليه هذه العبادة التي ثبتت في السنة.

 


ومن ذلك أيضًا ما يقام في المساجد ليلة القدر (على القول بأنها في السابع والعشرون منه)، من أناشيد وذكر جماعي، والسنة أن يختلي المسلم بنفسه ويعكف قلبه على ذكر الله، ولا بأس بأن يروح عن نفسه قليلًا، لا أن يحيي جلَّ ليله بهذه الأمور التي مخالفة للهدي النبوي.

 


ومن ذلك أيضًا ما يفعله الكثير من المسلمين اليوم من زيارة القبور بعد صلاة العيد مباشرة، ولا يخفى ما يجرُّ هذا الفعل على قلب المسلم من الأحزان، والأصل أن يدخل المسلم على أهله الفرح والسرور والابتهاج في العيد، لا أن يقلبه عزاءً والله المستعان.

 


ومن ذلك ما يقوله المعزُّون لأهل الميت (يسلم رأسك) ولن يسلم رأس من الموت، والأصل أن يلتزم الألفاظ الشرعية عند العزاء، وخير هديٍ هديُ محمد صلى الله عليه وسلم.

 


ومن ذلك أيضًا ما يقوم به الكثير من العوام من توسُّلٍ بالأموات، وهم بذلك قد هجروا سنة النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يتوسل بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا.


ومن ذلك أيضًا ما يفعله بعضهم عند وقوع شدة أو حادث عظيمٍ من اللِّياذِ بأصحاب القبور والاستغاثة بهم، والسنة أن يلجؤوا إلى ربهم، لا أن يشركوا به أحدًا في الدعاء والاستغاثة.

 


هذه بعضٌ من البدع التي حلَّت مكان السنن، والكثير منها منتشر بين المسلمين، ولا يتسع المقام لذكرها، وهذه الكثرة مع سَعةِ الانتشار يدلُّ على خطورة الابتداع، ويخطِّئ القول القائل بوجود بدعة حسنة في الدين، ولقد بيَّن الصَّحابة خطأ هذا القول الخطير، يقول ابن عمر رضي الله عنه: "كلُّ بِدعَةٍ ضَلالةٌ، وإنْ رَآها النَّاسُ حسَنةً" (اللالكائي، والعكبري في (الإبانة الكبرى)، والأثر صحيح)، وكلُّ خيرٍ في اتباع من سلف، وكل شرٍّ في ابتداع من خلف.

 


ولكي نتجنب الوقوع في البدع؛ فإنه لابدَّ لنا من التعرف إلى الأصول التي تعرف بها، ومن أهمِّها(انظر: قواعد معرفة البدع [10-11]):

 

1- أن يُتَقرَّب إلى الله بما لم يَشرع، كأن يُعبد الله بعبادة تستند إلى حديث مكذوب، أو بعبادة تستند إلى هوىً وذَوقٍ ورأيٍ مجرَّد، أو بعبادة تخالف عمل السلف أو تخالف قواعد الشريعة، أو بعبادة مطلقة يقيدها بوقت أو مكان معيَّن، أو بعبادة مقيَّدة يجعلها مطلقةً في كل وقتٍ ومكان.

 

2- الخروج على نظام الدين، كأن تبتدع اعتقادات تخالف نصوص الوحي، أو لا يكون لها ذكرٌ في نصٍ من النصوص الشرعية، ولم تؤثر عن الصحابة والتابعين، أو أن يحصل بفعل عادةٍ أو معاملةٍ تغييرٌ للأوضاع الشرعية الثابتة، أو أن يُتَشبّه بالكفار في خصائصهم ومحدثاتهم، أو أن يؤتى بشيءٍ من أعمال الجاهلية.


3- الذرائع المُفضية إلى البدعة، كأن يلتزم أحدهم عملًا زائدًا على المشروع بحيث يُتَوهَّم انضمامه إليه، أو أن تُفعل عبادةٌ على صورةٍ تُوهِم أنها واجبة وهي مندوبة، أو مندوبة وهي واجبة.

 


إن الانتشار الواسع للبدع مع خطورتها، يدلُّ دلالةً واضحةً على مدى التقصير في محاربتها والتحذير منها، فكثير من أهل العلم يسكت عن مثل هذه الأمور مبررًا ذلك بأنه يثير العامَّة، أو أنه يعمل على تفريق الكلمة، ومنهم من يعمل بهذه البدع ويؤيدها لموافقتها لهواه أو لأنها تخدم أهدافه الحزبية، والأصل أن يقوم أهل العلم بما استأمنهم الله عليه من العلم حق القيام ولا يكتموه، وقد حذرنا الله سبحانه من كتم العلم فقال حكاية عن بني إسرائيل: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّـهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187].


وفق الله علماءنا ودعاتنا وأهل الخير فينا لنشر دينه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وسدّدهم ونفع بهم العباد والبلاد، والحمد لله رب العالمين.

 

سامح عبد الإله عبد الهادي