أسس القيادة من قصة ذي القرنين (1)

منذ 2014-04-01

في هذا المقال نستعرض المهارات المختلفة الواجب توافرها في القائد الناجح، والمدير الفعال، من خلال الغوص في أحداث قصة ذي القرنين.

إن القرآن الكريم مليء بالكنوز لمن تأمله وتمرس الغوص في معانيه، وهو كالبحر الزاخر بالياقوت كلما غصت في معانيه كلما ظفرت بالمعاني السامقة، والمعارف العالية الرفيعة التي تنظم حياة العباد، وتهديهم إلى الرشاد.
وحينما نتوقف عند قصة ذي القرنين نجد أسس القيادة والإدارة ماثلة أمام ناظرينا، تدلنا على أهم القواعد التي ينبغي أن تنطلق منها عملية القيادة والإدارة، ونحن في هذا المقال نستعرض المهارات المختلفة الواجب توافرها في القائد الناجح، والمدير الفعال، من خلال الغوص في أحداث قصة ذي القرنين.

 

القائد والإيمان:

إن القائد القوي الناجح في قيادته هو الذي تنبع قوته من إيمانه بالله عز وجل، فمنه يستمد القوة، ومنه يستمد العون، وعليه يتوكل، فهو يجعل من الله عز وجل مركزًا لحياته، فإيمانه بالله سبحانه هو الذي يرسم له منهجه في العمل، وتعامله مع الآخرين، ولكن لماذا؟

لأن القائد المسلم صاحب رسالة في هذه الحياة نابعة من منهج الله عز وجل، ومن خلال قيادته يعمل على تحقيقها على أسس وضعها الله عز وجل لصالح البشرية وعمارة الأرض "فذو القرنين عبد من عباد الله الصالحين، مكنه الله في الأرض، وآتاه من كل شيء سببًا فأتبع سببًا.

رسالته وتنقلاته في أنحاء المعمورة كانت للدعوة في سبيل الله عز وجل والعمل الصالح، وقيادة الأمم لما فيه صالحها، وهذا ما وضح من رحلته إلى (مغرب الشمس)، كذا، إلى (مطلع الشمس)، وإلى بقعة من الأرض يسميها القرآن الكريم (بين السدين).

ولقد اتسم حديثه دائمًا بذكر الله عز وجل، والثناء عليه سبحانه، فلقد بدأ حديثه إلى شعب (دون السدين) بقوله: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} [الكهف من الآية:95].

وقال عندما انتهى من إقامة الردم بضخامته وإعجازه: {هَـٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي} [الكهف من الآية:98]، وفي هذا ما يشير إلى قوة إيمانه بالله سبحانه، وإرجاع كل أمره إلى الله العليم الحكيم"(مجلة حراء، [32]).

 

القائد الأمين:

إن كان القائد المسلم يستمد قوته من إيمانه بالله سبحانه وتعالى، فمن صفاته أنه قوي بالله عز وجل، فإن الأمانة صفة أساسية يجب أن تتوفر في القائد الناجح أو المدير الفعال.

فلقد وُكِل إلى ذي القرنين أمانة التعامل والتصرف مع القوم عند مغرب الشمس من قِبَل الله عز وجل، ولا يكون ذلك إلا لقدرته على تحمل المسئولية، وأمانة ما وكل إليه قال الله تعالى: {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} [الكهف من الآية:86].

كذلك عندما شرع في بناء الردم كان أمينًا على ما في أيدي القوم من ثروات، فعندما عرضوا عليه جَعْلَ خَرْجٍ له نظير إقامته سدًّا لهم؛ لم يطمع فيما بأيديهم، ولكن قال معقبًا: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} [الكهف من الآية:95].

وكان أمينًا على ما في أراضيهم من ثروات ومعادن، فرغم أن معه الجند الكثير؛ إلا أنه أرادهم أن يكتشفوا بأنفسهم ما في أرضهم من ثروات معدنية وخامات فقال لهم: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} [الكهف من الآية:96]، وقال: {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف من الآية:96]، وكأني أراه يحثهم بقوله: اذهبوا إلى أرضكم... ثيروا الأرض.؟.. اكتشفوا ما في باطن أرضكم من ثروات ومعادن، ولا يطَّلع عليها أحدٌ غيركم.

وكان أمينًا على أرواحهم فشرع على الفور يقيم لهم ردمًا يحميهم من قوم يأجوج ومأجوج، وذلك بمعاونتهم له بقوة، تلك هي الأمانة التي هي روح القيادة والإدارة وأساسها، والتي يرضاها الله عز وجل فيمن يلي أمر الجماعة.

 

القيادة والجزاء والعقاب:

{قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا . وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَىٰ ۖ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف:87-88]، يقول سيد قطب في تفسيره: "أعلن أن للمعتدين الظالمين عذابه الدنيوي وعقابه، وأنهم بعد ذلك يردون إلى ربهم فيعذبهم عذابًا فظيعًا (نكرًا) لا نظير له فيما يعرفه البشر، أما المؤمنون الصالحون فلهم الجزاء الحسن، والمعاملة الطيبة، والتكريم والمعونة والتيسير، وهذا هو دستور الحكم الصالح، فالمؤمن الصالح ينبغي أن يجد الكرامة والتيسير والجزاء الحسن عند الحاكم.

والمعتدي الظالم يجب أن يلقى العذاب والإيذاء، وحين يجد المحسن في الجماعة جزاء إحسانه جزاء حسنًا، ومكانًا كريمًا، وعونًا وتيسيرًا، ويجد المعتدي جزاء إفساده عقوبة وإهانة وجفوة؛ عندئذ يجد الناس ما يحفزهم إلى الصلاح والإنتاج، أما حين يضطرب ميزان الحكم فإذا المعتدون المفسدون مقربون إلى الحاكم مقدمون في الدولة، وإذا العاملون الصالحون منبوذون أو محاربون؛ فعندئذ تتحول السلطة في يد الحاكم سوط عذاب، وأداة إفساد، ويصير نظام الجماعة إلى الفوضى والفساد" (سيد قطب، (في ظلال القرآن)، [4/ 2291]).

إن دستور عمل ذي القرنين، والذي أوضحه في هاتين الآيتين الكريمتين؛ يتلخص في وضع نظام للعقوبات والحوافز:
- "ويتمثل في معاقبة الظالم بأن يوقع عليه عقابًا دنيويًّا يظهر للجميع حتى يكون رادعًا لكل من تسوِّل له نفسه فعل المحرمات، أو التقصير والإفساد في الأرض والظلم.
 - مكافأة الأفراد المتميزين في أخلاقياتهم وأعمالهم، والحوافز عند ذي القرنين تنقسم إلى حوافز مادية وتمثلت في قوله: {فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَىٰ} [الكهف من الآية:88]، وحوافز معنوية وجاءت في قوله: {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف من الآية:88] أي: سنثني عليه بالقول، ونكرمه ونعلي من شأنه، وهذه الحوافز لازمة للأفراد، فهي تقوي وتزيد الدعامات النفسية لديهم، وتحفزهم لمزيد من الجهد والعطاء" (مجلة حراء، [32]).

 

القائد الخبرة صاحب القدرات:

إن المتأمل في سياق الآيات الكريمة لهذه القصة من كتاب ربنا سبحانه سيلحظ أن القرآن قد أشار إلى أن القائد لابد وأن يكون محلًا للثقة، وأهلًا للخبرة، ففي قول الله سبحانه: {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} [الكهف من الآية:86] إشارة إلى كونه أهلًا للثقة، وفي قوله سبحانه: {كَذَٰلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} [الكهف:91] إشارة لكونه أهلًا للخبرة.

وحينما نتأمل في كتاب الله نجد أنه أشار إلى خبرة ذي القرنين بصيغة النكرة: (خبرًا) لماذا؟ لأن في ذلك إشارة إلى تنوع وتعدد خبرته بين خبرة إدارة، وخبرة معرفية، وخبرة علمية... إلخ، فهي خبرة في مجالات مختلفة، والقدرة على التعامل مع جنسيات ولغات مختلفة، فتنوع خبراته ومهاراته أهلته ليكون قيادة عالمية.

وما أحوج كل قيادة إلى تنوع الخبرة والمعرفة حتى يتمكن من قيادة تابعيه، وحتى يتمكن من اتخاذ القرارات السليمة في التوقيت الصحيح.

 

القيادة والثقة:

إن العمل الذي يفتقد إلى الثقة المتبادلة بين القائد والمقودين لا يمكن أن يتم على الوجه الأكمل، فإنجاز أي عمل لا يتم بصورة كاملة إلا بالثقة المتبادلة بين القادة ومرؤوسيهم، فلا بد للقادة أن يمنحوا الثقة لتابعيهم ويشعروهم بها، ويُذكُوا فيهم قدراتهم الذاتية وثقتهم في أنفسهم، فالإنسان يحتاج إلى أن يشعر بثقة الآخرين فيه، وتقديرهم له؛ حتى يتمكن من العطاء الكبير حينما تتوفر له هذه الأريحية في التعامل.

تلك الحقيقة أعلنها ذو القرنين وهو يتحدث إلى هذا الشعب المتكاسل الذي لا يجيد إلا دفع الخراج بقوله: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} [الكهف من الآية:95] وكأنى به يقول: ليس بالخراج يُشْترى أمنكم، ولكن بقوة أبدانكم، وبفكركم تصنعون أمنكم، "فها هو الممكّن في الأرض، والتي دانت له مشارقها ومغاربها، وحكم شعوبها؛ يطلب العون منهم، لقد نفخ فيهم من روحه، وذكّى قدرتهم الذاتية فأكسبهم ثقة في أنفسهم، فتحولوا إلى طاقات بشرية هائلة نفّذت أكبر ردم" (مجلة حراء، [33]).

 

القائد والتخطيط:

القادة أن يكوه له رؤية، ويقيم أعماله على قواعد التخطيط السليم لذا قال لهم: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} [الكهف من الآية:95]، يقول الشيخ الشعراوي: "لقد طلبوا سدًا وهو يقول: رَدْمًا، لقد رقَّى لهم الفكرة، وأراد أن يصنع لهم سدًا على هيئة خاصة تمتصّ الصدمات، ولا تؤثر في بنائه؛ لأنه جعل بين الجانبين رَدْمًا كأنه (سوسته) تُعطِي السدّ نوعًا من المرونة، وهكذا يجب أن يكون المؤمن عند تحمُّل مسئولية الخَلْق" (تفسير الشعراوي، [16/ 9650])، مخططًا ناجحًا له رؤية.

إن يأجوج ومأجوج بكثرتهم سيعيثون في القوم فسادًا طيلة حياتهم، وحياة ذرياتهم من بعدهم؛ تلك هي الرؤية المستقبلية التي رآها ذو القرنين، وبدراستها جيدًا وضح الهدف، ومتطلبات تنفيذه، فالأمر يستلزم إقامة ردم ضخم على أعلى تقنية، يمنع هجمات قوم يأجوج ومأجوج على هؤلاء القوم والبشر في كل زمان، ويبقى أبد الدهر، لذا هتف فيهم قائلًا: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} [الكهف من الآية:95].

 

كانت هذه وقفة مع الأسس والمهارات الواجب توفرها في القائد المسلم الناجح والمدير الفعال، ولنا وقفة أخرى نكمل فيها بقية الأسس والمهارات من خلال تكرار الغوص في أحداث هذه القصة الرائعة (ذي القرنين) من كتاب الله عز وجل.

 

فريد مناع


ــــــــــــــــــــ
أهم المصادر:
تفسير الشعراوي: الشيخ الشعراوي.
في ظلال القرآن: سيد قطب.
مجلة حراء .ش.

المصدر: مفكرة الإسلام