ثقافة الغنيمة السهلة!
إن معظمنا للأسف اتخذ دينه هُزوًا من غير قصد أو بقصد، فتجد من يتساهل في أمر دينه من تضييع لبعض أركان الإسلام بعدم فهمها حق الفهم أو عدم العمل بها، وتجد من تبقى -إلا من رحم ربي- ما بين مجتهدٍ في الكم مُغيُّر في الكيف! أو مؤخِّرٍ للأولى مُقدَّم للأقل أولوية من العبادات!
مقدمة
تُرَى هل كان إيمانُ سلف الأمة وإسلامهم مختلفان عن إيماننا وإسلامنا كمًّا فقط؟ أم إنهما يختلفان عنهما كمًّا وكيفًا وترتيبًا للأولويات؟!
ما أعتقده هو أن كيف إيماننا وإسلامنا مختلفٌ عمَّا كان يفهمه ويستشعره ويعمله أسلافنا رضي الله عنهم، فضلًا عن اختلاف ترتيب أولوياتنا في عبادة ربنا عنهم.
ثقافة الغنيمة السهلة:
إن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، اليوم -إلا من رحم ربي- لا تسير في الاتجاه الصحيح ولا بالمقدار الصحيح في أمر الدين، ولا تُرتِّب أولوياتها في تعاملها مع الله جل شأنه، وإلا لما كان حالنا مثل ما عليه اليوم وحالنا لا يخفى على ذي بصيرة.
إن معظمنا للأسف اتخذ دينه هُزوًا من غير قصد أو بقصد، فتجد من يتساهل في أمر دينه من تضييع لبعض أركان الإسلام بعدم فهمها حق الفهم أو عدم العمل بها، وتجد من تبقى -إلا من رحم ربي- ما بين مجتهدٍ في الكم مُغيُّر في الكيف! أو مؤخِّرٍ للأولى مُقدَّم للأقل أولوية من العبادات!
لكن تُرى، ما السبب؟!
إنها ما أُسمِّيه بــ "ثقافة الغنيمة السهلة" ذلك بأن الكثير من مسلمي اليوم يُتاجِرون مع الله تجارةً خاسرة، يُقدِّمون لله بضاعتهم المزجاة أو الفاسدة راجين منه أن ينصرهم في الدنيا ويسعدهم في الآخرة! إنهم يُركِّزون على الكمّ دون الكيف ويولون المُتأخر على المتقدِّم في عبادتهم لله ربّ العالمين!
أمثلة من تولية الكم على الكيف:
الصلاة:
فتجد كثيرًا من "الملتزمين"، وهم كُثر، يهتمون بكثرة الصلوات، ويتهاونون في أمر الخشوع والتدبر وهما عند الله عظيمان، فلو صلَّى أحدهم الفروض والسنن الثابتة بخشوعٍ وتدبُّر لأقواله وأفعاله حالَ الصلاة لكان أفضل له وأثقل في ميزانه من أن يُصلي أضعاف ذلك بدون خشوع ولا تدبر.
قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1-2].
والمتأمِّل في شأن هؤلاء القوم تجدهم لا يعلمون، أو يعمون ولا يفقهون، أنه ينبغي عليهم الخشوع والتدبُّر في كل حرفٍ ينطقونه أو كل حركة وسكنة تصدر منهم. ولكن الأمر ليس باليسير أبدًا، فتجدهم يولون الكم على الكيف لأن الكمّ وإن كان فيه مشقة بدنية إلا أن المشقة العقلية والنفسية في سبيل الله هي أعظم وأعوز إلى ترويضٍ طويل للذهن والنفس حتى يرى الله منهم خيرًا فيهديهم سبيله في الصلاة الحقة.
الدعاء والذكر:
إن الدعاء هو من أعظم العبادات التي يتجسَّد فيها توحيد العبد لله وحبه وخضوعه له ورجائه وثقته به وتوكُّله عليه.. إلا أنه يوجد الكثير من يُسمِّيهم الناس أو يُسمُّون أنفسهم بــ"الملتزمين" أدعيةً يحفظونها ولا يفقهونها أو يشعرون بها، فتستحيل مجرَّد طقوس صماء، وهذا لا ينبغي أبدًا مع عبادة عظيمة كعبادة الدعاء.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأذكار - الصفحة أو الرقم: [478] - خلاصة الدرجة: إسناده صحيح).
» (الراوي: النعمان بن بشير رضي الله عنه - المُحدِّث: النووي - المصدر:أما الذكر فحدث ولا حرج: فالذكرالذي يلي الصلوات مثلًا، والذي هو من أعظم السنن، فتجد من يظن نفسه "ملتزمًا" يحافظ عليه عقب كل صلاة، ولكن كل ما يشغل باله بشأنه أن يُحسِن العد! بينما لا يكاد يفيق لما يقوله بعقله أو يستشعره بقلبه، وكأن ما يزن عند الله هو العدد دون الكيف! يا لهم من أناس لا يرجون لله وقارًا!
قراءة القرآن:
إن قومنا ينقسمون إلى أقسام بشأن قراءة القرآن الكريم:
1- فمنهم من لا يقرأ القرآن البتة.
2- ومنهم من يقرأ القرآن ليحصل بكل حرف عشر حسنات "في ظنه" ولا يكاد القرآن يجاوز جنجرته، وهو يحتج أو يتكأ على حديث النبي صلى الله عليه وسلم: « {ألم} » (الراوي: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه - المُحدِّث: الألباني - المصدر: صحيح الترغيب - الصفحة أو الرقم: [1416] - خلاصة الدرجة: صحيح).
وهم ينسون أو يناسون أو يذكرون ولا يفقهون أن الله تعالى قال في كتابه الكريم: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].
ولا يستسيغ عاقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي لا ينطق عن الهوى، وعد في حديثه أعلاه بعشر حسنات للحرف لمن لا يتدبرون القرآن والذين هم في موضع ذم من كتاب الله. فوجب استباطًا أن يكون المقصودون في الحديث الشريف هم الذين يقرأون القرآن مُتدبِّرين ومستشعرين له.
3- ومنهم من يقرأ القرآن متدبِّرًا له بعقله مستشعِرًا لحلاوته وطلاوته بقلبه.. ومن المؤسف أن تكون هذه الفئة قلة.
4- ومنهم من يقرأ القرآن متدبِّرًا ومستشعرًا له وعاملًا بما فيه من نور وهداية.. ومن المؤذي للنفس أن تكون هذه الفئة ندرة نادرة.
أمثلة من تقديم الأقل أولوية وتأخير الأولى:
توجد أمثلة كثيرة من هذا اللهو بدين الله تعالى ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
1- تقديم المظهر وتأخير الأخلاق الحسنة.
ومما ذُكر في باب حسن الخلق أنه صلى الله عليه وسلم قال: « » (الراوي: عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه - المُحدِّث: أحمد شاكر - المصدر: مسند أحمد - الصفحة أو الرقم: [11/64] - خلاصة الدرجة: إسناده صحيح).
2- التقاعس عن تحصيل العلوم المادية التي من شأنها أن تقوي شوكة المسلمين، فتجد من يلتزم بما هو سنة، أو على الأكثر فرض مختلف في فرضيته، في مظهره مثلًا ويترك ما هو فرض لا مِراء فيه مثل الجهاد في طلب العلم النافع والعمل به.
ومما يُذكر في باب طلب العلم النافع قوله صلى الله عليه وسلم: « » (الراوي: أبو هريرة رضي الله عنه - المُحدِّث: ابن العربي - المصدر: عارضة الأحوذي - الصفحة أو الرقم: [5/320] - خلاصة الدرجة: صحيح).
الخلاصة:
إن من أهم أسباب ارتكاس شأن المسلمين اليوم بين الأمم في مجال القوة العلمية والمادية بل وفي مجال الدعوة إلى الله هو إيثارهم كل ما هو يسير ولا يتطلب جهدًا ولا عناءًا.. من تعاليم الإسلام، والتي في الأغلب تكون على هيئة تغليب الكمّ وإهمال الكيف، والعمل بالأقل أولوية وهجر الأولى أو تأخيره، وهذا ما أُسمِّيه في هذا البحث بـ "ثقافة الغنيمة السهلة" فيطمئن معظم المسلمون أنهم بذلك أرضوا ربهم، وفي هذا اعتبار، بلسان الحال أن سلعة الله (الجنة) زهيدة بينما هي والله غالية، يظنون أنهم سيدخلون الجنة وهم لم يخشعوا لله ولم يفقهوا دينه ولم يجاهدوا فيه حق جهاده ولم يُؤذوا في سبيله.
قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:42].
فلنقدِّر الله حق قدره.. ولنكن على مستوى المسئولية العظيمة المكلَّفين بها، وننصر الله تعالى حتى ينصرنا في الدنيا، ويسعدنا فيها ويرزقنا جنته في الآخرة.
والله أعلم.
أحمد كمال قاسم
كاتب إسلامي