الأحكام السلطانية للماوردي - (1) عَقدِ الْإِمَامَةِ

منذ 2014-06-11

هَلْ الخِلَافَةُ وَاجَبَةٌ بِالشَّرْعِ أَمْ بِالْعَقْلِ؟

البَابُ الأَوَّلُ: فِي عَقدِ الْإِمَامَةِ

الْإِمَامَةُ[1]: مَوْضُوعَةٌ لِخِلَافَةِ النُّبُوَّةِ فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا، وَعَقْدُهَا لِمَنْ يَقُومُ بِهَا فِي الْأُمَّةِ وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ شَذَّ عَنْهُمْ الْأَصَمُّ.

هَلْ الخِلَافَةُ وَاجَبَةٌ بِالشَّرْعِ أَمْ بِالْعَقْلِ؟

وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهَا[2] هَلْ وَجَبَتْ بِالْعَقْلِ أَوْ بِالشَّرْعِ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: وَجَبَتْ بِالْعَقْلِ لِمَا فِي طِبَاعِ الْعُقَلَاءِ مِنْ التَّسْلِيمِ لِزَعِيمٍ يَمْنَعُهُمْ مِنْ التَّظَالُمِ، وَيَفْصِلُ بَيْنَهُمْ فِي التَّنَازُعِ وَالتَّخَاصُمِ، وَلَوْلَا الْوُلَاةُ لَكَانُوا فَوْضَى مُهْمَلِينَ، وَهَمَجًا مُضَاعِينَ، وَقَدْ قَالَ الْأَفْوَهُ الْأَوْدِيُّ[3]، وَهُوَ شَاعِرٌ جَاهِلِيٌّ "مِنْ الْبَسِيطِ":

لَا يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لَا سَرَاةَ لَهُمْ *** وَلَا سَرَاةٌ إذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: بَلْ وَجَبَتْ بِالشَّرْعِ دُونَ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَقُومُ بِأُمُورٍ شَرْعِيَّةٍ قَدْ كَانَ مُجَوَّزًا فِي الْعَقْلِ أَنْ لَا يَرِدَ التَّعَبُّدُ بِهَا، فَلَمْ يَكُنِ الْعَقْلُ مُوجِبًا لَهَا، وَإِنَّمَا أَوْجَبَ الْعَقْلُ أَنْ يَمْنَعَ كُلُّ وَاحِدٍ نَفْسَهُ مِنَ الْعُقَلَاءِ عَنِ التَّظَالُمِ وَالتَّقَاطُعِ، وَيَأْخُذَ بِمُقْتَضَى الْعَدْلِ فِي التَّنَاصُفِ وَالتَّوَاصُلِ، فَيَتَدَبَّرُ بِعَقْلِهِ لَا بِعَقْلِ غَيْرِهِ، وَلَكِنْ جَاءَ الشَّرْعُ بِتَفْوِيضِ الْأُمُورِ إلَى وَلِيِّهِ فِي الدِّينِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء من الآية:59].
فَفَرَضَ عَلَيْنَا طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ فِينَا، وَهُمُ الْأَئِمَّةُ الْمُتَأَمِّرُونَ عَلَيْنَا[4].
وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَيَلِيكُمْ بَعْدِي وُلَاةٌ، فَيَلِيكُمْ الْبَرُّ بِبِرِّهِ، وَيَلِيكُمْ الْفَاجِرُ بِفُجُورِهِ، فَاسْمَعُوا لَهُمْ وَأَطِيعُوا فِي كُلِّ مَا وَافَقَ الْحَقَّ، فَإِنْ أَحْسَنُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ»[5].
__________
(1) قلت: والإمامة والخلافة مصطلحان مترادفان، وإن كان مصطلح الخلاقة أسبق، ومصطلح الإمامة أكثر ما يتردَّد عند الشيعة، والإمامية منهم خاصة، لكنَّ المعنى يكاد يكون واحدًا، وهو: رئاسة عامَّة في أمر الدين والدنيا، كما قال التفتازاني، أو: هي خلافة الرسول صلى الله عليه وسلم في إقامة الدِّين وحفظ حوزة الملَّة، يجب اتباعه على كافَّة الأمة، كما قال عضد الدين الإيجي في شرح المواقف، أو: هي خلافةٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم كما قال الشيخ رشيد رضا في كتابه الخلافة.
(2) يقول الدكتور عبد الرزاق السنهوري رحمه الله: إنَّ أهل السنَّة والمعتزلة يرون أنَّ الخلافة واجب شرعي، ولكنَّهم يختلفون في أساس هذا الوجوب؛ فأهل السُّنَّة يرون أنَّ سند وجوب الخلافة هو الإجماع، أمَّا الرأي الآخرِ وغالب أنصاره من المعتزلة، فيرى أنَّ سند الوجوب هو العقل، وهناك طائفة من المعتزلة ترى أنَّ سند وجوب الخلافة شرعيّ وعقليّ في واقت واحد، ويرى الشيعة كذلك وجوب إقامة الحكومة الإسلامية. (فقه الخلافة وتطورها: ص [59]).
(3) الأفوه الأودي، هو صلاءة بن عمرو بن مالك، أبو ربيعة، من بني أود، من مذحج؛ شاعر يماني جاهلي، لقِّبَ بالأفوه لأنَّه كان غليظ الشفتين ظاهر الأسنان، كان سيِّدَ قومه وقائدهم في حروبهم، وهو أحد الحكماء والشعراء في عصره.
(4) إذن لا بُدَّ -وفي كل الأحوال- للأمَّة أن تختار من تنيطه في تطبيق أحكام وحدود شرع الله في الأرض بين الناس، وإمضاء أحكامه، بل إنَّ إقامة الإمام أو الخليفة واجب وجوب الشريعة ذاته، تطبيقًا للمبدأ القائل: ما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب. (انظر: (الإسلام وأوضاعنا السياسية) عبد القادر عودة، ص [109-110]).
(5) ضعيف: رواه الدارقطني في سننه، باب: صفة من تجوز الصلاة معه والصلاة عليه [2/ 5]، والطبراني في (الأوسط [6/ 247])، وقال: لم يَرْوِ هذا الحديث عن هشام بن عروة إلّا عبد الله بن محمد بن عروة، تفرَّد به إبراهيم بن المنذر، ولم يسند هشام بن عروة عن أبي صالح هذا، وأورده الهيثمي في (مجمع الزوائد [5/ 218])، وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة وهو ضعيف جدًّا.
فائدة: يقول الدكتور السنهوري رحمه الله تعالى: والحقيقة أنَّ النصوص التي تذكر في هذا المجال ليست قاطعة في وجوب الخلافة باعتبارها ذلك النوع من نظم الحكم الذي يتميز بالخصائص التي أشرنا إليها، بل إنَّها تلزم المسلمين بإيجاد حكومة ما دون تحديد نوع هذه الحكومة، وتوجب عليهم طاعة هؤلاء الحكَّام، ولكنَّنَا نرى أنَّ هذه النصوص وإن لم تكف بذاتها سندًا لوجوب الخلافة، فهي على الأقلِّ كافية لتكون سندًا للإجماع الذي أوجبها. (فقه الخلافة وتطورها: ص[6]، هامش: [1]).

الكتاب: الأحكام السلطانية
المؤلف: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450هـ)
الناشر: دار الحديث - القاهرة
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]

المصدر: الموسوعة الشاملة
 
المقال التالي
(2) بيان حكم الخلافة