العفو والتسامح وضوابطه

منذ 2014-11-21

قال الشيخُ ابن عثيمين رحمه الله: "قال شيخُ الإسلامِ: الإصلاحُ واجب، والعفوُ مندوبٌ، فإذا كان في العفو فواتُ الإصلاحِ، فمعنى ذلك أننا قدَّمْنَا مندوبًا على واجبٍ، وهذا لا تأتي به الشريعةُ. وصدق رحمه الله".

إن الحمدَ لله نحمدُه، ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا.

من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله.

أما بعدُ:

فقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «اتقِ اللهَ حيثما كنت، وأتْبعِ السيئةَ الحسنةَ تمحُها، وخالِقِ الناسَ بخُلقٍ حَسنٍ» (رواه الترمذي: [2115]، حسن)

يقول الشيخُ ابن عثيمين رحمه الله -تعليقًا على الحديث-: "ومعنى ذلك أنك إذا ظُلِمتَ، أو أُسِيءَ إليك، فإنك تعفو وتَصفَحُ، وقد امتدَحَ الله العافِين عن الناس فقال في صفات أهل الجنةِ: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134].

وقال الله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة من الآية:237].

وقال تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور من الآية:22].

وكلُّ إنسان يتصل بالناس فلا بد أن يَجِدَ من الناس شيئًا من الإساءة، فموقفُه من هذه الإساءة أن يعفوَ ويصفَحَ، وليعلَمْ علمَ اليقين أنه بعفوه وصفحه ومجازاته بالحسنَى، سوف تنقلب العداوةُ بينَه وبين أخيه إلى ولايةٍ وصداقةٍ.

قال الله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]"اهـ كلامه رحمه الله (كتاب العلم؛ لابن عثيمين، ص: [181]).

ويُحكَى أن إحدى الأخوات كانت تُصلِّي ركعتين كلما آذاها أيُّ شخص، وحينما سُئلتْ عن ذلك قالت: "إني أُصلِّي، وأدعو اللهَ عز وجل أن يَغْفرَ لمن آذتْني حتى يعفوَ اللهُ عنها، ويصفوَ قلبُها تجاهي، وكذلك أدعو اللهَ أن يغفرَ لي حتى يُطهِّرَ قلبي تجاه من آذتني، فلا أحمِل ضدَّها شيئًا في قلبي، فلعل اللهَ سلَّطها عليَّ لذنبٍ فعلتُه في حق غيري".

والعفْوُ من صفات العِزَّة يومَ القيامة؛ لأن العفوَ هو أن تترُكَ معاقبةَ كلِّ من يستحق العقوبة وأنت قادر على عقوبته، فعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثٌ والذي نفسي بيدِه إن كنتُ لَحالِفًا عليهِن: لا يَنقُصُ مالٌ من صدقةٍ؛ فتصدَّقوا، ولا يَعفو عبدٌ عن مَظلمةٍ، إلا زادَه اللهُ بِها عِزًّا يومَ القيامةِ، ولا يفتَحُ عبدٌ بابَ مسألةٍ، إلا فتحَ اللهُ عليهِ بابَ فقرٍ» (صحيح الترغيب: [2462]، صحيحٌ لغيره).

ومن هنا نُدرِك أهميةَ العَفْوِ، وعِظمَ مكانة من يَتَّصفُ به.

والسؤالُ الذي يطرح نفسَه: هل العفْوُ دائمًا محمودٌ حتى إذا استَمرَّ شخصٌ في الإساءةِ إليك، وتمادى في إساءتِه؟

والجوابُ: لا.

فالهدفُ من العفوِ: هو الإصلاحُ، فإن لم يتحقَّقِ الإصلاحُ مع تَكْرارِ العفوِ، وتمادى المُسيءُ في إساءتِه، إلى درجةٍ تتسبَّبُ في الأذَى البالغِ للمُساء إليه؛ فهنا وجبَ الأخذُ بالحقِّ، والمطالبة بعقوبة المسيء..

لذلك قال الشيخُ ابن عثيمين رحمه الله: "قال شيخُ الإسلامِ: الإصلاحُ واجب، والعفوُ مندوبٌ، فإذا كان في العفو فواتُ الإصلاحِ، فمعنى ذلك أننا قدَّمْنَا مندوبًا على واجبٍ، وهذا لا تأتي به الشريعةُ. وصدق رحمه الله" (كتاب العلم؛ للشيخ ابن عثيمين، ص: [183]).

وقد قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا ينبغِي للمؤمنِ أن يُذِلَّ نفسَه»، قالوا: وكيف يُذلُّ نفسَه؟ قال: «يتعرَّضُ من البلاءِ لمَا لا يطيقُ» (رواه الترمذي: [2254]، حسنٌ لغيره).

أَيْ: إن الإنسانَ لا ينبغي له أن يترُكَ نفسَه تتعرّضُ للإساءة والإهانة باستمرار، مُتَّسمًا بالعفو في موضعٍ لا يؤدِّي العفوُ لإصلاح، زاعِمًا أن الشرعَ حثَّ على العفْوِ، بل ينبغي أن يكون المسلمُ عزيزًا بدينِه وتسامحِه، وإذا تحوَّلتِ العِزَّةُ بالعفوِ إلى ذِلَّةٍ وإهانةٍ، فهنا وجَبَ عليه أن يقف وقفةً حازمة، فالله عز وجل عادِلٌ لا يقبل الإهانةَ والذلَّ، وكما حث سبحانه على العفو، فقد حث أيضًا على القِصاص والأخذِ حينما يَستدْعي الأمر ذلك.

وقد حذَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الذين يؤذون المسلمين قائلًا: «يا معشرَ مَن أسلمَ بلسانِه، ولم يُفضِ الإيمانُ إلى قلبِه، لا تؤذوا المسلمين، ولا تُعيِّروهم، ولا تتَّبعوا عَوراتِهم؛ فإنه مَن تتبَّع عورةَ أخيهِ المسلم، تتبَّع الله عورتَه، ومَن تتبَّع اللهُ عورتَه، يفضَحه ولو في جَوفِ رَحْلِه» (رواه الترمذي: [2032]، حسن).

ولما سُئِلَ صلى الله عليه وسلم عن امرأةٍ تصوم النهار، وتقوم الليل، وتؤذي جيرانَها؟ قال: «هي في النار»، قالوا: يا رسول الله، فلانة تُصلِّي المكتوباتِ، وتَتصدقُ بالأثوارِ من الأقِطِ، ولا تؤذي جيرانَها؟ قال: «هي في الجنةِ» (الترغيب والترهيب: [3/321]، صحيح).

وهنا وجَبَ التوضيحُ: أن الأخذَ والقِصاصَ لا يعني: عدمَ المسامحةِ في القلب، بل تتم المسامحة في القلب مع أخذِ الحقِّ بالجوارحِ؛ ردعًا وزجرًا للمسيء؛ ليتوقفَ عن إساءتِه، وليس انتقامًا منه.

وماذا بعد الأخذ؟ ما هو الواجبُ على المسلم بعد أخذِ الحقوق وردعِ المسيء؟

يعتمد الأمر هنا على مدى الإساءةِ، وهل كان الأخذ سببًا لردع المسيء أم لا؟

فإن تحقق الإصلاحُ، وتم ردع المسيء، فينبغي على المُسَاءِ إليه أن يعفوَ، ويصفحَ ويسامحَ.

أما إن لم يتحقَّقِ الإصلاح، واستمر المسيء في قناعاتِه بأنه غيرُ مُخطئٍ، واستمر في إساءتِه، فهنا وجَبَ تجنبُه؛ اتِّقاءً لشَرِّه وأذاه، وقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم من يتجنَّبه الناس اتِّقاءَ شرِّه وفُحْشِه من شِرارِ الناس منزلةً عندَ اللهِ يومَ القيامة، فقال: «إن شرَّ الناسِ عند اللهِ منزلةً يومَ القيامةِ: مَن تركَه الناسُ اتِّقاءَ شرِّه» (رواه البخاري: [6032]).

تقول إحدى الأخوات:

تعرّضت لظلمٍ مستمر من الأهل، وكنت دائمًا أعفو وأسامحُ، وقد اعتبروا هذا ضعفًا بالشخصية؛ فزادوا في الإساءةِ، حتى اعتبروا أن العفوَ حقٌّ مكتسَبٌ لهم، وأنه ليس من حقِّي حتى الحزنُ على إساءتِهم، وزادَتِ الإساءةُ، والإهانةُ، والتجريحُ، لدرجةِ أنهم اغتصبوا بعضَ حقوقي، وتعدتِ الإساءةُ إلى زوجي وأولادي، وكان هذا الموقِف بالنسبة لي كالقَشَّة التي قسمَت ظهر البعير..

وهنا قرّرتُ أنه لا بد من وقفةٍ حازمة لوضعِ الأمورِ في نِصابِها، وطالبت باعتذار عما تعرّضتُ له من إهانةٍ وتجريحٍ، ورفضت أن أردَّ على الهاتف، وأخبرتهم أني لن أتواصل صوتيًّا حتى يتم الاعتذارُ؛ لعلمي أن المكالمةَ الهاتفيَّة قد تُفسِد أكثرَ مما تُصلِحُ؛ بسبب تسلُّط شخصيتِهم ورفضِهم الاعتذارَ، ومرَّ عامان تعرّضْتُ فيهما للكثير من الاتهامات والإساءات، واتُّهِمتُ بأني قاطعةٌ للرَّحمِ، وأن قلبي مليءٌ بالحقدِ؛ لرفضي للعفوِ، وبعدَ عامين من استمرارِ التجريحِ والإساءةِ لي -في غيابي- حتى امتلأَت قلوبُ بعضِ المعارف بالشحناءِ تجاهي، جاءَ الاعتذارُ جبرًا للموقفِ، مع الإصرارِ على أنهم لم يُخْطِئوا في حقي، وهنا لم يكن هناك بُدٌّ من الاقتصارِ على الواجبِ في الصلة والبرِّ، وهو السلامُ عن طريقِ الهاتفِ، كما أشار عليَّ كلُّ من استشرتُ من أهل العلم، ولم أعُدْ أُبالي بما يُقال عني في غيابي، ولا ما يُرسَل لي من رسائلَ تتهمُني بالحقدِ والعقوقِ وقطيعةِ الرَّحمِ، ولا أملِكُ غيرَ الدعاءِ بأن يكفِيَني اللهُ إياهم بما شاء، وكيفما شاء، وأينما شاء" اهـ.

وكم هو مُحزنٌ أن يصلَ حالُ المسلمين إلى هذا الحالِ، ويطغَوْا على المظلومِ تحت شعار العفو والسماح، ويتمادَوْا في الإساءةِ، ناسين أن الإسلامَ دينُ وسطيَّة، راعى حقوق الجميعِ، وأن الله عز وجل عادلٌ، ووضَعَ موازينَ وضوابطَ لكلِّ شيء.

وأختِم مَقالي بقولِ إحدى الفاضلات: "أتذكَّر جدي رحمه الله كان من أكثرِ الناسِ تواضعًا، لكنه لم يكن يحبُّ إذلالَ النفسِ، وكثيرًا ما يقول: ميِّزوا بينَ الذُلِّ والتواضع، فما من فضيلة إلا وهي بين رذيلتَيْنِ، والتواضعُ منزلةٌ بينَ الكِبْرِ والذُلّ، لِنْ في الجانب للمسلمين ولا تترفَّع على أحد، وفي المقابل لا تسْتَكِن لأحد وترفعه فوق المنزلة التي يستحق" اهـ.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام