لماذا كل هذا الحزن؟!
الإسراف في الحزن ليس مطلوبًا شرعًا ولا مقصودًا أصلًا، بل هو منهي عنه
الحزن هو أحد صور المشاعر الإنسانية الفِطرية، وهو الذي يخطف منا كل ألوان الحياة الجميلة، وهو العاطفة الإنسانية الوحيدة التي تتساقط عنها كل الأقنعة، وهو الكتاب المغلق الذي لا نفتحه إلا أمام أصدقائنا المقرَّبين، وهو الذي يُشعرنا بضعفنا وقِلَّة حيلتِنا وحاجتنا إلى المساعدة.
وفي المقابل فالحزن على التفريط في حق الله يقطعنا عن المعاصي، ولهذا قال مالك بن دينار: "إذا لم يكن في القلب حزن خربَ"، والحزن يجعلنا نَستشعِر آلام الآخرين عندما يَحزنون، ويَدفعُنا لمساعدتهم، ورغم مرارة الحزن، فإنها تجعلنا نحسُّ بطعم السعادة والغِبطة والسرور، خاصَّةً عندما تكون بعد نوبة حزن شديدة.
إلا أن الإسراف في الحزن ليس مطلوبًا شرعًا ولا مقصودًا أصلًا، بل هو منهي عنه؛ فقال تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا} [آل عمران من الآية:١٣٩]، {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [الحجر من الآية:٨٨]، {لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة من الآية:٣٨]، فالحزن خمود لجذوة الطلب، وهمودٌ لرُوح الهمَّة، وبرودٌ في النفس، وهو حُمَّى تشلُّ جسم الحياة.
فلماذا المبالغة في الحزن إذًا؟! وماذا يعمل الحزن غير تكدير الحياة، ومنْع الإرادة من التحليق في رحاب سماء الطموح وإثبات الذات، هل الحزن يعود بشيء غير أنه يُزعجك من الماضي ويخوفك من المستقبل، ويهدم عليك وقتك؟ هل الحزن يفرج عن النفس ويشفي القلب؟ كلا، بل يُديم كربَكَ ويَجعلُك تتقوقَع داخل دائرة سماؤها رمادية، وأرضُها جدباء، وحياتها ذابلة، حرمت عليك فيها الضحكة، تتنفَّس فيها الآهات وتتجرَّع الآلام.
إن الحزن لا يرد مفقودًا، ولا يبعَث ميتًا، ولا يدفع قدرًا، ولا يَجلب نفْعًا، فلماذا لا تُوقف ساعة أحزانك وتفكِّر في كل المشاعر والمَعاني الجميلة؟ لماذا لا تُوقف نزيفَ آلامك التي تُكدِّر عليك أيامك؟ فالذكيُّ ليس هو الذي يستطيع أن يزيد أرباحه؛ إنما الذكيُّ هو الذي يُحوِّل خسائره إلى أرباح.
إن الإنسان يجزع وتستخفُّه الأحداث حين يَنفصِل بذاته عن الوجود، ويتعامل مع الأحداث كأنها شيء عارض يُصادم وجوده الصغير، أما حين يستقرُّ في تصوُّره وشُعوره أنه هو والأحداث التي تمرُّ به وبغيره، والأرض كلها ذرات في جسم كبير هو هذا الوجود، فإنه يحسُّ بالراحة والطمأنينة لمواقع القدر؛ قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ . لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:22-23].
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: كنتُ ردفَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فالتفتَ إليَّ فقال: «
».وعن الوليد بن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: دخلتُ على عبادة وهو مريض، فقلتُ: أوصني؟ فقال: "إنك لن تطعم طعم الإيمان ولن تبلغ حقيقة العلم بالله حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، وهو أن تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليُخطئك، وإن متَّ ولستَ على ذلك دخلت النار".
فالحمد لله على نعمتِه ألا نَختار رسم الأقدار، فلو اخترنا لاخترنا أخطاءً كثيرة، وقتلنا أنفسنا ندمًا.
عندما يعلم الإنسان يقينًا أن الأمور مفروغ منها ومكتوبة لا يُمكن أن يتملَّكه طوفان الحزن العارم، وكيف يحزن وهو يعلم بأن كل هؤلاء البشر الذين حَوله لا يَملِكون له نفعًا ولا ضرًّا، فلمَ القلق؟! ولم الحزن إذًا؟! فكلُّنا مُعرَّضون للمِحَن والمَصائب بما فعلت أيدينا؛ قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}[الشورى:30]، وجميعنا مبتلون، إما محبة من الله أو اختبارًا منه، أو لتخفيف ذنوبنا؛ قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155]، فلماذا لا نُغيِّر مفهومنا عن المصائب والأحزان، نؤمن بأنها قد تكون علامة على محبَّة الله للعبد، ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: « » [صحيح الجامع:1706]، وقال صلى الله عليه وسلم: « » [صحيح الجامع: 995].
فإلى كل حزين وكل مهموم وكل مُكتئب وكل متشائم، إلى كل من يلعن دنياه وأيامه، إلى كل من يتمنى الموت اليوم قبل غد، إلى كل هؤلاء نقول: هل فكرت يومًا في أن تطرق بابَ من لا يُخيِّبُ طارقًا؟ هل لجأت إلى من لا ملجأ منه إلا إليه؟ هل خطر لك أن تتعلَّق بباب أرحم الراحمين الذي لا يَردُّ عن بابِه المُستجيرين به؟!
قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل من الآية:62] فينبغي أن تلازم محراب الإنابة وتجلس جلسة المستجدي، والسعيد من ذلَّ لله وسأل العافية ليتغلَّب بها على أحواله، وإياك أن تَستبطئ الإجابة، أو يغيب عنك أنه الملك الحكيم في تدبيره، العالم بالمصالح، وأنه يريد اختبارك ليَبلوَ أسرارك، وأنه يريد أن يسمع تضرعك، وأنه يريد أن يأجرك بصبرك، وأنه يبتليك بالتأخير لتُحارب وسوسة إبليس... إلى غير ذلك من الحِكَم، والله الموفِّق.
خالد سعد النجار
كاتب وباحث مصري متميز
- التصنيف: