التواضع في اللباس
البذاذة من الإيمان
التواضع في اللباس
(التشريعات الجمالية في المنهج الإسلامي)
ذهب بعضهم إلى الاتجاه السلبي في موضوع اللباس، وظنوا أن الأخذ بمبدأ التقشف في هذا الأمر هو ما يطلبه الإسلام، فأخذوا أنفسهم بلبس الخشن من الثياب.. واعتبروا ذلك هو السنة، وتقربوا إلى الله تعالى بذلك.
وهم في مذهبهم هذا يحتجون بقول الرسول صلى الله عليه وسلم وبفعله: ففي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: «
»[1].وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: "حج النبي صلى الله عليه وسلم على رحل رث وقطيفة تساوي أربعة دراهم أو لا تساوي، ثم قال: اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة"[2].
وقبل مناقشة هذا الاتجاه، نحب أن نسجل بعض الملاحظات:
- إن الخط العام الذي دعا إليه الإسلام هو ما سبق الحديث عنه، وهو العناية بنظافة الثياب وأناقتها ضمن حدود الإمكان بعيدًا عن عوامل الكبر والتعالي. وقد كان صلى الله عليه وسلم يلبس ما وجده دون تكلف، وهذا ما سجله لنا كتاب الشمائل..
قال صاحب الشفاء: ".. فكان صلى الله عليه وسلم يلبس ما وجده.."[3].
وقال ابن القيم: "إن هديه صلى الله عليه وسلم في اللباس، أن يلبس ما تيسر من اللباس من الصوف تارة والقطن تارة والكتان تارة.."[4].
وما كان صلى الله عليه وسلم يرغب بالأدنى إذا وجد الأحسن، إلا أن يكون هناك عامل آخر يدفع إلى اختيار الأدنى.
- هذا الفهم هو ما ذهب إليه جمهور المسلمين، لوضوحه من سيرته صلى الله عليه وسلم.
جاء في زاد المعاد: دخل الصلت بن راشد على محمد بن سيرين، وعلى الصلت جبة صوف وإزار صوف، وعمامة صوف، فاشمأز منه محمد، وقال: أظن أن أقوامًا يلبسون الصوف ويقولون: قد لبسه عيسى ابن مريم، وقد حدثني من لا أتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد لبس الكتان والصوف والقطن، وسنة نبينا أحق أن تتبع[5].
وللقرطبي في هذه المسألة كلام جميل ننقل بعضه قال: "روي عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب[6]، شيخ مالك، رضي الله عنهم أنه كان يلبس كساء خز بخمسين دينارًا، يلبسه في الشتاء، فإذا كان في الصيف تصدق به، أو باعه فتصدق بثمنه. وكان يلبس في الصيف ثوبين من متاع مصر ممشقين ويقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف من الآية:32].
وقد اشترى تميم الداري حلة بألف درهم كان يصلي فيها.
وكان مالك بن دينار يلبس الثياب العدنية الجياد.
وكان ثوب أحمد بن حنبل يشتري بنحو الدينار.
أين هذا ممن يرغب عنه ويؤثر لباس الخشن من الكتان والصوف من الثياب ويقول: "ولباس التقوى ذلك خير" هيهات!! أترى من ذكرنا تركوا لباس التقوى؟ لا والله! بل هم أهل التقوى وأولو المعرفة والنهى، وغيرهم أهل دعوى، وقلوبهم خالية من التقوى..
قال الطبري: ولقد أخطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان مع وجود السبيل إليه من حله.."[7].
بعد هذه الجولة نعود إلى الحديث الأول، نحاول فهمه في ضوء الخط العام الذي أوضحناه. ويحسن بنا أن نثبت النص الكامل للحديث: "عن أبي أمامة قال: ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا عنده الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « »، يعني التقحل".
وشرح ابن الأثير، مؤلف جامع الأصول: كلمة (البذاذة) فقال: "البذاذة: رثاثة الهيئة، وترك الزينة، والمراد به: التواضع في اللباس، وترك التبجح به"[8].
وقال ابن ماجه: "البذاذة: يعني القشافة، يعني التقشف"[9].
وقال في الإحياء: "هو الدون من اللباس"[10].
ومن شرح الكلمة يتبين لنا أن البذاذة لا تعني الثياب الوسخة، أو الثياب المرقعة أو الثياب الممزقة. وإنما تعني الثياب المتواضعة الثمن والتي ربما كانت خشنة الملمس.
ويبدو أن بعض الصحابة جذبهم الحديث عن الدنيا في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يردهم إلى جادة الصواب ويبين لهم أنه مما لا ينبغي للمسلم أن تستأثر الدنيا باهتمامه كله، وأن هذا الاهتمام ينبغي أن يكون ضمن حدود المنهج الإسلامي.
والحياة الدنيا لست كلها على وتيرة واحدة، فهناك الفقر والغنى.. والإنسان ينبغي أن يوطن نفسه أن يتعايش مع كل منهما..
وترك الزينة مع القدرة عليها ترجع قيمته المعنوية إلى الباعث عليه، فإن كان البخل والشح.. وهو الباعث فهذا مما ينكره الإسلام، وإن كان الدافع هو مواساة الآخرين الذين لا يقدرون على ثياب الزينة.. فذلك من الإيمان. وهو ما يذكرنا يفعل عمر رضي الله عنه عام الرمادة.. إذ منع نفسه من تنال الدهن مساواة لنفسه مع الفقراء من الناس.
ومن باب التربية العامة ينبغي للإنسان وإن كان قادرًا على الرفاهية أن يأخذ نفسه بالخشن من الحياة بعض الأحيان، ومن ذلك ما ورد في الحديث "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نحتفي أحيانًا"[11].
إن الحديث الشريف لا يخرج عن الخط العام، ولقد أخطأ الذين فهموا خطة اللباس كلها من خلال هذا الحديث، وأعرضوا عن جميع النصوص الأخرى وعن ما أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر ملبسه، ولقد زاد هذا الخطأ سوءًا إذ انحرف أصحابه عن المعنى الذي ذكرناه (للبذاذة) فذهبوا إلى لبس المرقعات..
وقد بين أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله خطأهم فقال: "وأنا أكره لبس الفوط والمرقعات لأربعة أوجه:
أحدها: أنه ليس من لبس السلف، وإنما كانوا يرقعون ضرورة.
والثاني: أنه يتضمن ادعاء الفقر وقد أمر الإنسان أن يظهر أثر نعم الله عليه.
والثالث: إظهار التزهد، وقد أمرنا بستره.
والرابع: أنه تشبه بهؤلاء المتزحزحين عن الشريعة. ومن تشبه بقوم فهو منهم".
ثم قال: "فإن قال قائل: تجويد اللباس هوى النفس، وقد أمرنا بمجاهدتها، وتزين للخلق، وقد أمرنا أن تكون أفعالنا لله لا للخلق، فالجواب: ليس كل ما تهواه النفس يذم، وليس كل ما يتزين به للناس يكره، وإنما ينهى عن ذلك إذا كان الشرع قد نهى عنه، أو على وجه الرياء في باب الدين، فإن الإنسان يحب أن يرى جميلًا، وذلك حظ للنفس لا يلام فيه"[12].
وأما حديث حجة الرسول صلى الله عليه وسلم، فذلك موضوع آخر، لا يمت إلى ما نحن فيه بصلة. إنه ضرب من جماليات هذا المنهج.
ونحب أن نبين منذ البدء أن (الرثاثة) التي أشار إليه الحديث بقوله: "على رحل رث" هي البذاذة نفسها التي سبق الحديث عنها وقد بينا معناها. قال صاحب القاموس: "الرثاثة: البذاذة".
إن الحديث يتناول هيئة الرسول صلى الله عليه وسلم في مناسبة معينة هي الحج: والحج عبادة تقوم على الخضوع والتذلل لله تعالى بحيث يبلغ هذا الخضوع غايته، وما لباس الإحرام إلا بعض التعبير عن ذلك، حيث يتساوى الناس في شكل موحد من اللباس، يغيب الإنسان فيه، مهما كان شأنه في خضم تلك الموجات البشرية، التي تنازلت عن كل شيء يميزها عن الآخرين، إنه تجرد من اللباس والألقاب.. هناك حيث يختفي كل شيء ليظهر شيء واحد هو العبودية لله تعالى.
إن هذا الموقف لا يصلح له إلا ذلك النوع من اللباس والرحل المتواضع، إنه التناسق الذي يقوم في طبيعة هذا المنهج..
وقد قلنا إن الخط العام أن المنهج يصعد الخط الجمالي في المناسبات التي يجتمع فيها الناس. وبينا ذلك في موضوع النظافة حيث يصل الخط ذروته في الحج، ولكنا في أمر اللباس لم نتكلم عن الحج، ذلك أن له ذلك الجو الذي يتطلبه من البعد عن الرفاهية، لا البعد عن النظافة إن التواضع سمة ضرورية لهذا الموقف.
وليس هذا الأمر قاصرًا على الحج وحده، بل يلتقي معه في الاتجاه نفسه، مواقف أخرى لها تلك الخصائص ذاتها، منها صلاة الاستسقاء.
ومن أجل هذه الصلاة يخرج الإمام مع الناس إلى المصلى خارج البلد... متنظفين في ثياب بذلة، متواضعين.. بخلاف العيد..، ذلك بعض ما ورد في السنة بشأن هذه الصلاة، مما له ارتباط بموضوعنا.
إنه موقف آخر يتحقق فيه التناسق.. وصلاة الاستسقاء: تعني تعبير الناس عن ضعفهم وذلتهم واستكانتهم. وحاجتهم إلى رحمة الله تعالى، إنها تحتاج إلى مظهر يتناسب مع هذا المعنى.. فهي بخلاف صلاة العيد التي هي تعبير عن فرح وسرور..
وإذن: فنحن في أمر الحج أو أمر صلاة الاستسقاء.. بل وصلاة العيد -في الجانب الآخر- أمام التناسق التام الذي هو واحد من سمات الجمال[13].
وبالتالي فلا حجة في الحديث المذكور على ما استشهد به عليه.
_____________
[1] رواه أبو داود برقم:[4161]، وابن ماجه برقم:[4118]، وهو عند الإمام أحمد.
[2] رواه ابن ماجه برقم:[2890]. وذكره الألباني في صحيح الجامع الصغير.
[3] الشفاء للقاضي عياض [1/204].
[4] زاد المعاد. بتحقيق الأرناؤوط [1/143].
[5] المصدر السابق ص:[1/143].
[6] هو زين العابدين رحمه الله.
[7] تفسير (الجامع لأحكام القرآن) في تفسير الآية:[32] من سورة الأعراف.
[8] جامع الأصول[4/680].
[9] سنن ابن ماجه:[2/1379].
[10] إحياء علوم الدين[3/355].
[11] رواه أبو داود برقم:[4160]، وانظر جامع الأصول[4/679].
[12] عن تفسير (الجامع لأحكام القرآن) للقرطبي في تفسير الآية [32] من سورة الأعراف.
[13] انظر (الظاهرة الجمالية) ص:[230] حيث الحديث مفصلًا عن سمة التناسق.
أ. صالح بن أحمد الشامي
- التصنيف:
- المصدر: