بطل الزلاقة: يوسف بن تاشفين
سيرة البطل المجاهد أمير المسلمين يوسف بن تاشفين قائد دولة المرابطين
يوسف بن تاشفين، بطل معركة الزلاقة، وقائد المرابطين، وموحد المغرب، ومنقذ الأندلس من الصليبيين.
نعرف (يوسف المشرق)؛ يوسف بن أيوب.. صلاح الدين الأيوبي قاهر الصليبيين في حطين، لكننا نجهل (يوسف المغرب) يوسف بن تاشفين، قاهرهم في الزلاقة!
عاش يوسف بن تاشفين ما بين عامي (400-500هـ/ 1009-1106م)، فأنقذ الأندلس، وأخّر سقوطها 4 قرون! وأقام شرع الله فيها وفي بلاد المغرب العربي قاطبة! فقد كانت حياة التمزق عامة في العالم الإسلامي، لكنها في المغرب والأندلس أظهر، وكانت الخلافة العباسية في ضعف، والدولة العبيدية الرافضية تتمدد وتنشر إلحادها، أما الصليبيون فقد بدؤوا النزول على شواطئ الشام! وكان حكام الطوائف بالأندلس في نزاع مستمر وكانوا يتساقطون في أحضان العدو الصليبي، يوالونه ويغرونه ببلادهم ويكشفون له أسرارهم، مع أنهم يرون القلاع الإسلامية تتساقط في يده!
وفي هذه الأثناء سطع نجم بطلنا يوسف بن تاشفين فأصبح ملاذا للعلماء والضعفاء، ورمزا للأمة بأسرها، وأصبحت معركته (الزلاقة) من أشهر المعارك التاريخية! ارتبط اسم ابن تاشفين بدولة المرابطين العظيمة، تلك الدولة التي نشرت التوحيد وطمست معالم الشرك ووحدت بلاد المغرب ثم الأندلس وقهرت الأعداء. وقد عاصر تأسيسها.
من هو ابن تاشفين؟ وكيف برز؟ وكيف وحد المغرب؟ وكيف أنقذ الأندلس؟ وبأي وسيلة أعاد للإسلام روحه؟ قبل ذلك تعالوا ننظر كيف نشأت دولة المرابطين:
(المرابطون) ويسمون (الملثمون): سلالة بربرية أمازيغية حكمت بين عامي 453 و540 هـ وكانوا قبائل متفرقة. وإحدى هذه القبائل كان أميرها يحيى بن إبراهيم الجدالي، وكان ديّنًا صالحًا، فلم يعجبه هذا التفرق، وأسف لما عليه قومه من ضياع ديني وهبوط أخلاقي. فعزم الأمير "يحيى" على تصحيح الوضع، وفي عام 429 ارتحل لأداء الحج وللبحث عمن يعينه على تحقيق أهدافه. وفي طريق عودته من الحج توقف في القيروان بتونس. وفي القيروان حضر دروس أبي عمران الفاسي شيخ المالكية فتأثر بوعظه مما لفت انتباه الشيخ إليه، فلما تداولا الحديث أعجب الشيخ بالأمير!
وجد الشيخ أبو عمران أن الأمير يحيى صحيح العقيدة قوي الإيمان فسأله عن مذهب قبيلته؟ فقال الأمير: ما لنا علم ولامذهب، نحن منقطعون في الصحراء! وقال الأمير أيضا: وفينا أقوام يرغبون تعلم القرآن والفقه فعسى يا سيدنا أن تنظر لنا من طلبتك من يتوجه معنا إلى بلادنا ليعلمنا شرائع الدين. فاستشار الشيخ تلاميذه فاستقر الأمر على أن يرسله إلى أحد طلابه الكبار من أهل المغرب الأقصى، وهو الشيخ الفقيه واجاج بن زلو وأرسل معه رسالة.
انطلق الأمير في سفر جديد ووصل إلى الشيخ واجاج وسلمه الرسالة، فجمع طلابه وقرأ عليهم الخطاب وندبهم للأمر، فانتدب لذلك أحد الموفقين! وهو الفقيه المتقشف عبد الله بن ياسين وكان من حذاق الطلبة ومن أهل الفضل والورع والسياسة، وقد أمضى في الأندلس 7 أعوام حصل فيها علومًا كثيرة.
خرج ابن ياسين مع يحيى للصحراء، ففرحت القبائل بالشيخ واستقبلوه استقبالا حافلا، وشرع الشيخ يعلمهم القرآن ويقيم لهم الدين، واختار 70 من النابهين ليعلمهم، فانقادوا له ولازموه. وصار الشيخ ابن ياسين يأمر الناس بالمعروف وينهى عن المنكر ويلزمهم الجماعة والزكاة، ويحاول كبحهم عن مألوفاتهم الفاسدة كالزواج بأكثر من أربع! فأظهر بعض المتنفذين وأنصاف الفقهاء منابذة الشيخ، وصاروا يرصدون أخطاءه ويضخمونها ويشيعونها ويثيرون العامة، وحدثت أحداث انتهت بطرد الشيخ وهدم بيته ونهبه!
بعد ذلك قيل: أن الشيخ واجاج راسل مشايخ القبائل يعاتبهم على عدم نصرتهم للشيخ ابن ياسين فندموا واعتذروا، ورجع ابن ياسين. وقيل: بل إن الشيخ ابن ياسين لما رأى إعراضهم واتباعهم لأهوائهم عزم على الرحيل إلى السودان الذين دخلوا الإسلام حديثا، إلا أن الأمير يحيى قال له: "إنما أتيت بك لأنتفع بعلمك، وما علي فيمن ضل من قومي، وإن هنا جزيرة فيها الحلال المحض من شجر وصيد، ندخل فيها فنعبد الله حتى نموت"! فدخلا وسبعة من الرجال إلى الجزيرة، التي يرجح أنها على مصب نهر السنغال في المحيط الأطلسي، وابتنوا رباطًا انبثق منه نورٌ عمّ المغرب والأندلس.
أقام الشيخ وصحبة 3 أشهر يعبدون الله، فتسامع الناس بهم وأخذوا يتوافدون إليهم حتى كثر التائبون، فنشط بينهم في الدعوة وفي غرس الإيمان في نفوسهم. واستطاع ابن ياسين أن يحكم بناء الرجال وأن يجعل من هؤلاء الجفاة الصحراويين نموذجًا في الانضباط والطاعة والانقياد للمبادئ التي آمنوا بها عن روية وعلم. وأسر ابن ياسين أتباعه بصفاته الرفيعة؛ فقد كان رفيقًا زاهدًا ورعًا، يصوم النهار ويقوم الليل يبتهل إلى ربه، وكان متورعًا عن أكلهم يأكل من صيد البرية!
وكان لا زال بعض شيوخ القبائل يرفض مبادئ الإسلام ويزهد في الوحدة ويصر على الاستمرار في حالة التشرذم والانحطاط الأخلاقي! فكان لا بد من صدامٍ دامٍ! وبلغ أتباع ابن ياسين 3000 وبدأ قتال القبائل واحدة تلو الأخرى، فنصره الله، وقتل الكثير، واستسلم الباقون وأسلموا إسلامًا جديدًا، وحسنت حالهم! وكان نهاية جهاده الداخلي أن بايعت كافة قبائل صنهاجة على الكتاب والسنة، فنظمهم، واتخذ بيتًا للمال، واجتهد في نشر العلم بينهم، وعرف الناس صدقه وصلاحه. وذاع صيت ابن ياسين في البلاد المجاورة وانتشر خبره، وأنه قام رجل يدعو إلى الله ويحكم بشرعه ويريد إقامة دولة للإسلام على منهاج النبوة.
وبدأ الجهاد الخارجي، وتغلب المرابطون على القبائل البربرية الكبرى وأخضعوها لسلطانهم، فأمنت الطرق، وأقيمت الصلاة وأديت الزكاة، واستتب الأمن. وكان ابن ياسين هو الرمز، وطار ذكره في الآفاق، واجتمعت على حبه القبائل، وحفظ الناس فتاويه ونشروها، وأخذت دعوة المرابطين تنتشر، واستبشر الناس! وفي أثناء ذلك توفي الأمير يحيى بن إبراهيم رحمه الله فأرادوا أميرا من نفس قبيلته، فرفض ابن ياسين هذه النزعة القبلية وجعلها شورى على منهاج النبوة لاختيار الأكفأ!
جمع الشيخ عبد الله بن ياسين رؤساء القبائل وقادتها فتدارسوا الأمر وتشاوروا، فتم الاتفاق على تقديم يحيى بن عمر اللمتوني لما يتمتع به من كفاءة. وباشر الأمير الجديد مهامه فبسط سلطان المرابطين على بلاد الصحراء، وغزا بلاد السودان الغربي ففتحها، وغيّر المنكرات وقطع المزامير وحرق الخمارات. واجتمع فقهاء بلاد مجاورة وكتبوا للأمير يحيى يستنجدونه لتخليصهم من عسف حكامهم، ولتطهير بلادهم من المنكرات، فتم له ذلك. ثم استشهد عام 448 رحمه الله، وتولى بعده أخوه أبو بكر بن عمر وكان رجلا صالحًا ورعًا. وجعل على مقدمته ابن عمه (يوسف بن تاشفين).
واصل أبو بكر الجهاد وفتح بلادًا كثيرة، وكان الرافضة قد نشروا باطلهم في بعض المناطق منذ زمن! فحاربهم وهزمهم وأعاد أهلها للإسلام والسنة. ثم بدأت جولة حروب جديدة مع قبائل (برغواطة) الكافرة الكثيرة العدد، وفيها استشهد إمام المرابطين عبد الله بن ياسين رحمه الله عام451 بعد أن أثخنته الجراح! وأسلم ابن ياسين روحه لخالقها بعد حياة حافلة بالعلم والجهاد، وبعد أن خرج جيلا من العلماء المجاهدين، وأسس لدولة إسلامية أعز الله بها الحق.
عبأ أبو بكر جنده واصطدم مع قبائل برغواطة، وثبت المرابطون ثباتًا عظيمًا حتى هبت رياح النصر وقذف الله في قلوب البرغواطيين الرعب ففروا وتمزقوا. وبعد هذا الإنجاز وانضمام أنصار جدد للمرابطين صارت قوتهم هائلة، وأصبحوا يتطلعون لنشر التوحيد في القبائل والدول المجاورة التائهة عن الحق. وفي عام 453 أتت الأخبار لأبي بكر باشتعال فتنة بين قومه في الصحراء فصار لا بد من العودة إليهم! لكن إلى من سيترك المغرب وأموره لا زالت مضطربة؟
أقبل هذا الزعيم الصالح على الدعاء والصلاة والتوسل إلى الله أن يوفقه لاختيار الأصلح لاستنابته، واستشار أهل الرأي، فأجمعوا على واحد لا غيره! إنه القائد (يوسف بن تاشفين) الذي اشتهر بعد ما تحقق على يديه من نجاحات عسكرية وإدارية، إضافة إلى صلاحه وحزمه ونجدته وعدله وسداد رأيه! وعندها رجع الأمير أبو بكر بنصف الجيش وتوغل في الصحراء جنوبًا، وبقي القائد يوسف بن تاشفين في المغرب بالنصف الآخر ليبدأ عهدًا جديدًا من الجهاد.
التاريخ والأسماء تتكرر: عام 13هـ أمر أبو بكر الصديق خالد بن الوليد بالتوجه للشام واقتسام الجيش مع المثنى بن حارثة الذي واصل جهاده في العراق!
وقبل أن يتوجه أبو بكر بن عمر للصحراء طلق زوجته زينب الفائقة الجمال؛ رفقًا بها من عناء الصحراء! ولا عجب: إنه ابن الإسلام وابن دعوة المرابطين. ووصل أبو بكر إلى الصحراء حيث بني قومه المتقاتلين، فأخمد الفتنة وأصلح أحولهم، ثم انطلق مرة أخرى للجهاد ضد الشرك والوثنية التي كانت تسود بلاد السودان الغربي، وفي مملكة غانة المجاورة لأرض المرابطين، والتي كانت تشكل خطرًا على مؤخرة الجيش المرابطي الذي كان يقوده ابن تاشفين في الشمال.
استمر أبوبكر يفتح من أرض السودان الغربي مسيرة ثلاثة أشهر، وأمن حدود بلاده مع غانة، يلقي بنفسه في ساحات الوغى عسى أن ينال الشهادة التي فاز بها من سبقه!
وفي عام 465 وبعد 12سنة من الفراق؛ التقى الأمير بالقائد حيث عاد أبو بكر لتفقد حال المغرب والاطمئنان على رعيته. لكنه كان يحمل مفاجأة مذهلة!! المفاجأة باختصار: أن الأمير أبو بكر لما رأى حسن تدبير ابن تاشفين وحب الناس له خلع نفسه وسلمه الحكم، وأحضر العلماء والأعيان وأشهد على ذلك! ويكفي هذا دليلا على صدق وإخلاص المرابطين وحرصهم على مصالح الأمة، وأنهم استطاعوا بعد 4 قرون أن يذكرونا بجيل الصحابة الفريد رضي الله عنهم. لقد قام المرابطون بصدق لنشر التوحيد! لقد آمنوا باليوم الآخر إيمانًا عميقًا فألقوا الدنيا وراءهم ظهريًا! لقد أحيوا ولا زالوا في أجيال الأمة الأمل!
وكانت وصية أبي بكر: "يا يوسف، إني قد وليتك هذا الأمر وإني مسؤول عنه فاتق الله في المسلمين وأعتقني وأعتق نفسك، والله خليفتي عليك وعليهم". ثم انصرف الأمير السابق إلى الصحراء فأقام بها يجاهد المشركين المتاخمين لحدود الصحراء إلى أن نال أمنيته في الشهادة بعد أن أصابه سهم مسموم! فيتابع من بعده أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، ويمضي على نفس الطريق.
وقبل أن نخوض غمار الأحداث الجديدة دعونا نتعرف على صفات هذا البطل:
كان يوسف أسمر اللون نقيه معتدل القامة نحيف الجسم خفيف العارضين رقيق الصوت أكحل العينين أقنى الأنف، له وفرة تبلغ شحمة أذنيه، أجعد الشعر. وكان يجمع بين جمال الطلعة وأبدع المواهب، شجاعًا حاذقًا كريمًا حليمًا، زاهدًا في زينة الدنيا، عزيز النفس، يأكل من عمل يده، عظيم الخوف من الله! وكان كثير الدعاء والاستغفار، مقبلا على الصلاة، وكانت تسكن جسده نفس معتدلة وعاطفة وقادة وفكر نافذ، وقد خاض حروبا وشهد أحداثا شحذت مواهبه، علاوة على أنه كان من بيت سيادة وزعامة وفروسية. وبقي ابن تاشفين وفيا لأميره السابق؛ فكان لا يقضي أمرًا دون مشورته، ولا تضرب النقود إلا واسم أبي بكر يجاور اسمه! إنها روح إسلامية أخوية.
واستعرض ابن تاشفين جند الدعوة المرابطية فوجدهم 40000، فاختار منهم 4 قواد وعقد لكل واحد منهم على 5000 مجاهد من قبيلته، وجعلهم طلائع للجيش. وقاد بنفسه بقية الجيش، وسار في أثر الطلائع ينشر الإسلام ويتفقد الرعية ويرفع المكوس والضرائب ويلغي الأحكام الوضعية ويدعو للجماعة والصلاة. وقرر ابن تاشفين أن يبني عاصمة لدولته فاختط مدينة مراكش، حيث قام فريق من شيوخ القبائل باختيار مكان واسع في الصحراء، وكان مع العمال يحمل الطين ويحفر القواعد! معنى مراكش (امش سريعا)، فقد كان ذلك المكان مأوى للصوص وكان المارون يقولون لرفاقهم هذه الكلمة. ثم غدت معقلا للحضارة، وقبلة لطلاب العلم والأدب. وأخذ الأعداء يتجمعون وينضمون صفوفهم طمعا أن يكون هذا التغيير في دولة المرابطين لصالحهم، لكنهم فوجئوا بعبقرية القيادة الجديدة وشجاعتها!
لقد كانت الرؤية واضحة لدى ابن تاشفين، وكان قد جهز مشاريع مضادة لإفشال مخططات الأعداء، وكان يأخذ بمبدأ حشد كافة الطاقات من أجل النصر. وكان الأعداء في عدة جهات، وكان المتوقع أن يبدأ بهم واحدا تلو الآخر، لكنه اختار المواجهة الشاملة، وسير قواده لمقاتلة الأعداء في كل المناطق! فانطلقت جموع المجاهدين آخذة بمبدأ (الهجوم خير وسيلة للدفاع) فتساقطت العديد من القلاع، وخضعت أغلب مناطق شمال المغرب الأقصى لسلطة المرابطين. وانتشرت الدعوة وأحيت في الشباب روح الجهاد، فزاد المجاهدون زيادة مذهلة حتى بلغوا 100000 مجاهد! فأعاد ابن تاشفين تنظيمهم، وأنشاء فرقا جديدة.
لا يزال هناك أعداء أقوياء يخشى أن يشكلوا تحالفات خطيرة، لذا قام ابن تاشفين بتقسيم جنده بين: منقذين لمن يستغيث بهم، ومهاجمين لمعاقل الأعداء.
كانت مدينة فاس قلب المقاومة التي تقودها قبائل (زناتة)، لذا نهض إليها ابن تاشفين فاصطدم بقبائلها (زواغة ولماية وصيدنة وسدراته ومغيلة وبهلولة ومديونة)! وغيرهم من الجموع التي لا يحصيها إلا الله، فقضوا على هذه القبائل، واقتربوا من فاس، ثم ضربوا عليها الحصار حتى فتحها الله.
ثم قام بالعناية بهذه المدينة الكبيرة وطورها فأصلح الأسواق وبنى الحمامات والفنادق، وألزم كل أهل حي ببناء مسجد يتعلمون فيه العلم وينطلقون منه للجهاد. وبعد سقوط فاس أصبح يوسف بن تاشفين هو سيد المغرب الأقصى بلا منازع، لكن قبائل (زناتة) تجمعت من جديد في (تلمسان) شرقًا فصارت تشكل خطرًا! خاطب يوسف أمير تلمسان وبين أن الوحدة وعز الإسلام هو هدفه، فعرف الأمير صدقه، فسلمها له! وصارت مدينة مرابطية ينطلق منها الجهاد وذلك عام 468.
بعدها تفرغ يوسف لمدينتي سبتة وطنجة حيث الخبيث (سقوت) صاحب القلاع الحصينة والأسطول البحري القوي الذي أوسع البلاد شرا وملأ قلوب الناس رعبا. فكانت مهمة القضاء على (سقوت) في غاية الصعوبة إلا أن المرابطين كانوا مؤمنين إيمانًا راسخًا بوجوب مجاهدة كل قوى الشر مهما كانت شراستها. وانطلق القائد المرابطي صالح بن عمران على رأس 32000 مجاهد، فلما اقترب من طنجة خرج إليه (سقوت) بجموعه، فالتقى الجمعان والتحم الفريقان! وبعد قتال تشيب له النواصي جاء نصر الله وقتل (سقوت) وانفضت جموعه، فدخل المجاهدون طنجة عام 471 لتصبح فيما بعد قاعدة قوية للانطلاق للأندلس!
بعد مصرع سقوت أفضت الدولة إلى ابنه المعز الذي كان قد منع أباه من الاستستلام للمرابطين وحرضه على قتالهم، وتحصن المعز في سبتة. وفي أثناء هذا المواجهات جاءت إلى ابن تاشفين وفود الأندلس تستغيث من ظلم النصارى وتطلب النجدة العاجلة، لكنه اعتذر إليهم بانشغاله بقتال (سقوت). واعتذر إليهم بوجود قلاع وأساطيل في سبتة تحجزه عن العبور إليهم، لكنه وعدهم بالنصرة بعد الاستيلاء على هذه المدينة ذات الموقع الإستراتيجي. إلا أن الأندلسيين ونتيجة لشراسة الهجمة الصليبية ولشدة الأهوال التي عانوها ولوحشية "ألفونسو السادس" ملك قشتالة الذي عاث بهم نهبا وأسرا، ونتيجة لمعرفتهم بشهامة هذا البطل ونجدته؛ لم تنقطع رسلهم ووفودهم الشعبية والرسمية إلى ابن تاشفين الذي صار بنظرهم هو المنقذ بعد الله!
لذا لم يكن أمام ابن تاشفين سوى مضاعفة الجهد ومواصلة العمل ليلا ونهارا للتخلص من كل العوائق التي تقف في طريق نجدته لصرخات نساء الأندلس! وطلب من المعتمد بن عباد كبير أمراء الأندلس إمداده بقطع بحرية لحصار سبتة بحرًا فاستجاب له، وقام ابنه المعز بن يوسف بن تاشفين بمحاصرتها برًا. وفي البداية مالت الكفة لأهل سبتة! وفقد المرابطون قطعة بحرية مهمة! واستمر النزال المرير حول أسوار سبتة وشواطئها، وصبر المجاهدون واستعانوا بالله. ثم جاء النصر، واقتحم المجاهدون أسوار سبتة، وفر أميرها للبحر، ثم كر راجعا واختفى بأحد الدور، فقبضوا عليه وقتلوه كقتل أحفادهم للقذافي!! وعم الفرح ديار المغرب بسقوط سبتة، وعمت أفراح أكبر ديار الأندلس المثخنة بالجراح، واستبشروا بالنصر، وانتشرت بينهم روح الصمود والثبات! وأخذ يوسف يعد العدة لنجدة الأندلس التي كانت الفوضى قد سادت فيها منذ أن خلعوا آخر خليفة أموي عام 422 وتساهلوا في الدماء ووالوا الأعداء، وتركوا الجهاد!!
لقد عاشت الأندلس من قبل 3 قرون في عزة وكرامة تحت حكم الإسلام الصحيح، ثم ظهر أمراء ابتعدوا عن تعاليم الإسلام وتنافسوا على اللهو وانشغلوا عن الجهاد! ثم ارتموا بأحضان النصارى، ويكفي أن تعلم أن هؤلاء النصارى دخلوا قرطبة الآمنة بمعاونة الأمراء الخونة فقتلوا أكثر من 30 ألف مسلم ومسلمة!! وليس اللوم على الحكام فقط فإن الناس كانوا قد انشغلوا باللهو وأصابتهم 3 أمراض حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم: (حب الدنيا كراهية الموت ترك الجهاد) فسُلط عليهم ذلا لا ينزعه حتى يعودوا إلى دينهم. وكان المسلمون يشاهدون الحملة الصليبية تستولي على البلدة تلو الأخرى وتفتك بأهلها دون أن يمدوا لهم يد المساعدة أو يغاروا على أعراضهم!!
وها هي مدينة (بربشتر) يحاصرها النصارى 40 يوما ويقطعون الماء فيموت الأطفال والنساء عطشا! ثم يستبيحونها فيقتلون ويأسرون زهاء 70 ألف نسمة!! وكان العلج النصراني يفتض البكر بحضرة أبيها، والثيب أمام زوجها وأهلها! ثم اختاروا أجمل بنات المسلمين وفتيانهم فأرسلوهم هدايا لزعمائهم هناك! وفي عام 478 سقطت طليطلة قلب الأندلس والأشد تحصينًا، على يد الخائن ألفونسو الذي عاش فيها 9 سنوات مكرما بعد أن أسره أخوه فهرب ولجأ إليها. فصار يجمع المعلومات العسكرية ويتعرف مسالكها، ثم عاد وقتل أخاه وأسر الآخر 18 سنة، ثم نسي فضل طليطلة عليه فاغتصبها وحول جامعها إلى كنيسة! وكان ألفونسو شرسا جشعا خال من كل فضيلة، يتلذذ بمشاهد التخريب والتشريد، وكان الشياطين من رجال الدين النصراني يؤزونه ويحرضونه على المسلمين! ومن العجيب أن الأمير الأندلسي المعتمد بن عباد أرسل يستغيث بابن تاشفين من ألفونسو، مع أنه كان حليفا له أثناء هجومه على طليطلة، فانقلب عليه! بل إن ألفونسو المتغطرس قد أرسل لابن عباد يأمره أن يسلم بلاده له ولعماله بدعوى أنهم أصلح وأقدر على إدارة شؤون البلاد! والتاريخ يتكرر!!
انتشرت أخبار فجائع الأندلس بين المسلمين، وطارت بأخبارهم الركبان، وأصبحوا حديث المجالس، وفر كثير من الأندلسيين إلى المغرب وغيرها من البلاد! ومزقت هذه المآسي قلوب العلماء والصالحين الغيورين من أهل الأندلس وأصبحوا يبحثون لأمتهم عن مخرج، فاتفقوا على فكرة الاستعانة بيوسف بن تاشفين. وقام بعض المتحمسين للفكرة ممن عانى من عدوانية الصليبيين ففقد ماله وأهله، قاموا باجتياز البحر ويمموا وجوههم صوب مراكش حيث البطل يوسف! وكان الأفراد والوفود لا ينقطعون عن ابن تاشفين، وكانوا يروون له مارأوا ويجهشون بالبكاء! فيتأثر لحالهم ويستشيط غضبا وتقوى عزيمته على نصرتهم. وكانت الخطابات الرسمية تتوالى على ابن تاشفين من بعض أمراء الأندلس لطلب النجدة، خاصة (ابن الأفطس) الذي كان يقاوم الصليبيين مقاومة شرسة.
وسمع ألفونسو عن ابن تاشفين فأراد أن يفت في عضده وأن يستخدم معه ما كان يستخدمه مع ملوك الطوائف فأرسل إليه رسالة استهزاء وتهكم قال فيها: (من أمير النصرانية إلى يوسف بن تاشفين، أما بعد: فإنك اليوم أمير المسلمين ببلاد المغرب، وأهل الأندلس قد ضعفوا عن مقاومتي ومقابلتي، وقد أذللتهم بأخذ الجزية منهم وبالقتل والأسر والذل والقهر، وأنا لا أقتنع إلا بأخذ البلاد، وقد وجب عليك نصرتهم لأنهم أهل ملتك، فإما أن تجوز إلي، وإما أن ترسل إلي المراكب أجوز إليك)!! واستمر ألفونسو في كتابه الطويل يرغي ويزبد عسى أن يرهب يوسف كما أرهب من قبله! وما إن وصل هذا الكتاب الوقح إلى ابن تاشفين حتى قلبه وكتب على ظهره ردا يتكون من ثلاث كلمات! ثلاث كلمات.. لكنها زلزلت ألفونسو وأربكته! كان الرد: (الذي سيكون ستراه)!!!
فلما قرأه ألفونسو ارتاع وعلم أنه بلي بداهية من دهاة الرجال، وسارع برفع الحصار عن بعض المدن استعدادا للقادم المجهول! وفي هذه الأثناء بدأ بعض أمراء الطوائف يصحو من سكرته، ويلوم نفسه على دماء إخوانه التي سفكها، ويتحسر على موالاته للنصارى ودفعه الضرائب لهم! ومن أبرز هؤلاء الأمراء (المعتمد بن عباد) الذي تمادى معه ألفونسو وأرسل إليه رسالة تهديد يطلب منه فيها أن يسلم الحكم! فانتفض ابن عباد! وتمعن ابن عباد في كتاب هذا المجرم الذي يطلب تسليم إشبيلية وقرطبة وغيرها ففار الدم في رأسه وتجلت عنه كل الغشاوات، وعلم أن الرجوع للحق أحق! فرد على كتاب ألفونسو ردا غير متوقع، وكتب بيده كتابا يعلن فيه الحرب، بل وقتل رسل ألفونسو الذين جاؤوا لاستلام الضرائب وصلب رئيسهم اليهودي! وعندها تميزت البطانة الصالحة من الفاسدة:
أما الفقهاء والعلماء فأيدوه وقووا عزمه، وأما مستشاري ووزاء السوء فلاموه على ذلك وخوفوه العاقبة! وكان ابن عباد هو أقوى وأبرز حكام الطوائف آنذاك، فانتشر خبر منابذته للنصارى بين الناس فأدركوا خطورة الوضع لعلمهم بعجز ملوك الطوائف وضعفهم. وعقد مؤتمر شعبي في قرطبة يتزعمه القاضي (ابن أدهم) وأجمعوا رأيهم بضرورة الاستعانة بابن تاشفين، لكن هذا الرأي لا يزال مطلبا شعبيا لا رسميا!
وقدم ابن عباد إلى قرطبة فعقد مع ابن أدهم مؤتمرا رسميا، وازداد الضغط الشعبي المطالب بدعوة المرابطين فاستجاب ابن عباد وأخذ يراسل بعض الحكام يستحثهم. لكن حكام جنوب الأندلس أصدروا الأوامر بمنع رسول ابن تاشفين! مع أنه قد عاهدهم أنه لا يريد ملكهم! فقد أقلقهم هذا التأييد الواسع لابن تاشفين الذي يعرفون طيب سيرته التي ستحرجهم أمام رعاياهم وتلزمهم التقيد بالشرع والتخلي عن شهواتهم المحرمة!
أما ألفونسو فإنه أقسم بعد قتل سفيره أن يحشد من الروم عدد شعر رأسه ويصل بهم مضيق جبل طارق، أي أنه سيجتاح الأندلس، لذا أخذ يعد العدة ويحشد! وقسم جنده إلى جيشين ضخمين أخذا يزحفان في جهتين والملتقى أمام قصر ابن عباد، فعاثا في الأرض فسادا، وخربا الزروع والقناطر، وقتلا وأسرا! وكان يريد بهذا إشغال الأمراء في كل الجهات وإجبارهم على التحصن داخل قلاعهم، وبالتالي الحيلولة دون تجمع أي قوة مسلمة تتحد لمقاومة ألفونسو! وأعلن المعتمد بن عباد أنه سيستدعي المرابطين، وما إن علم الناس بهذا إلا وعمت الفرحة ربوع البلاد واستبشروا بالنصر وفتحت لهم أبواب الأمل! أما الحكام الجبناء فما إن تأكدوا من عزيمة ابن عباد حتى هرع بعضهم للقائه وكاتبه آخرون محذرين من خطورة هذا الإجراء على مستقبلهم ومناصبهم!! وألح هؤلاء الأمراء على ابن عباد حتى أطلق صرخته الشهيرة: "رعي الجمال خير لي من رعي الخنازير"!! أي: جمال ابن تاشفين، وخنازير ألفونسو.
وقام ابن عباد بمراسلة حاكم بطليوس وحاكم غرناطة وطلب منهما إرسال القضاة إلى إشبيلية، وبعد مداولات قرروا إرسال وفد إلى ابن تاشفين ليدركهم. ولشدة اهتمام ابن عباد بالأمر فقد كتب بعض الخطابات بيده وأرسلها مع وفد رفيع يتكون من وزيره (ابن زيدون) والقاضي (ابن أدهم) وقضاة آخرين. وحط الوفد رحاله في مراكش فاستقبلهم ابن تاشفين بحفاوة، وتبين له أن الأمر جد خطير، وأن مصير الأندلس مهدد بالزوال، والأمر لا يحتمل التأخير!
ومع ذلك لم يكن لابن تاشفين أن يخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يشاور أصحابه، فقام باستشارة مشايخ المرابطين وقادتهم فأجمعوا على وجوب النصرة. بعدها أخذ مع مستشاريه بالتفكير والتخطيط لأفضل الطرق وأصلحها لتنفيذ هذا المشروع الجهادي الإيماني الكبير بعيدا عن العاطفة والتهور.
أشار أحد المستشارين وهو (ابن أسباط) الأندلسي الخبير بخبث أمراء الأندلس وانحطاط أعرافهم السياسية، أشار عليه برأي غريب فرح به ابن تاشفين ونفذه. لقد أشار عليه أن يشترط على ابن عباد أن يخلي له (الجزيرة الخضراء) ينزل بها جيوشه وعتاده وتكون منطلقه للجهاد. خشية أن يمكروا به بعد تحقق النصر! وكان ذلك هو الرأي فإنه لا يؤمن جانب من خان أمته وفرط في حقوقها طويلا. واستعانة هؤلاء الأمراء به ليس بالضرورة دليلا على غيرتهم ودينهم، بل ربما الخوف من ألفونسو هو الدافع الوحيد! فأرسل ابن تاشفين رسالة لابن عباد يشترط عليه تسليم الجزيرة الخضراء، ليكون من أول الأمر صريحًا واضحًا مع هؤلاء الأمراء الذين لا يحتكمون للشرع. فوافق ابن عباد ووعد ابن تاشفين أن لا يصل إلى سبتة إلا وستكون الجزيرة جاهزة لانتقاله إليها. فنادى منادي الجهاد! وأقبل المجاهدون من الصحراء ومن كل حدب! وهب شباب الأمة لإغاثة أخواتهم الأندلسيات! وتجمع المجاهدون في سبتة استعدادا للعبور إلى الجزيرة الخضراء. لكن هناك أمر مريب يحدث!!
لقد أخذ المعتمد يماطل في تسليم الجزيرة، وانتظر المجاهدون في سبتة طويلا دون جدوى.. عندها أتى أحدهم وأخبر ابن تاشفين بما لم يتوقع!! أخبره أن ابن عباد إنما يؤخر دخولهم لأنه يريد أن يهدد ألفونسو بهم، فإن خضع له ألفونسو منعكم من الدخول، وإن تكن الأخرى فسيستعين بكم!! عجبا له كيف يفعل ذلك والصليبيون يعيثون في الأرض فسادًا، والنساء تستغيث، بل إن الحصار لا يزال على مدن سرقسطة وطرطوشة وبلنسية!
تدارس المرابطون عاجلا هذا الأمر الجديد، ولأن الأمر لا يحتمل التأخير فقد اتخذوا القرار التاريخي.. إنه قرار العبور رغما عن أنف ابن عباد! وأعطيت الأوامر لـ 500 فارس أن يعبروا ليكونوا مقدمة للجيش، وتفاجأت قوات ابن عباد في الجزيرة بوصولهم، ثم تتابعت القوات تتوافد على الجزيرة! وكان أمير الجزيرة هو الراضي بن المعتمد، فأرسل له قائد المرابطين قائلا: (وعدتمونا بالجزيرة، ونحن لم نأت لأخذ بلدة ولا ضرر بسلطان إنما أتينا للجهاد، فإما أن تخليها من هنا إلى وقت الظهر، وإلا فالذي تقدر عليه فاصنع!).. هكذا هم المجاهدون.. لا مفاوضات، ولا أنصاف حلول! فقام الراضي بمراسلة والده بالحمام الزاجل يعلمه بذلك، فرأى المعتمد أن لا سبيل له إلا مواصلة التعاون مع ابن تاشفين، فأمر ولده بإخلاء الجزيرة. وفي عام 479 عبرت قوات المرابطين إلى الأندلس، وهذا ما يسمى بـ(العبور الأول).. وانطلقت كتائب المجاهدين عبر البحر وهي تكبر وتهلل للفتح القادم! وامتلأ مضيق جبل طارق بسفن المجاهدين الذي بلغ عددهم 12000
انطلقوا في سبيل الله عسى أن يشملهم قوله: وَفَضَّلَ اللَّـهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:95]. وركب ابن تاشفين سفينته وكان البحر هائجا، فرفع يديه ودعا: (اللهم إن كنت تعلم أن في جوازي هذا خيرا وصلاحا للمسلمين فسهل علي جواز هذا البحر وإن كان غير ذلك فصعبه علي حتى لا أجوزه)! فسهل الله عليه الجواز في أسرع ما يكون! وتكامل المجاهدون في الجزيرة الخضراء وأصبحوا قريبين من العدو. والجزيرة الخضراء لا تزال تعرف بهذا الاسم حتى اليوم. وكان ابن تاشفين قد أمر بعبور الجمال لأغراض عسكرية فهي لا تعرف في الأندلس والخيول ترهبها، فامتلأت الجزيرة منها وارتفع رغاؤها وذعر الناس. وزيادة في التحسب العسكري الذي اشتهر به ابن تاشفين أمر بتقوية حصون الجزيرة، وشحنها بالسلاح والذخيرة والطعام، وشدد الحراسة، لتكون قاعدة له. واستقبل الأندلسيون إخوانهم بفرح عارم، على رأسهم ابن عباد الذي أمر بجلب الأقوات والضيافات وتموين المرابطين، ورأى يوسف من ذلك ما سره ونشطه. ثم أمر المعتمد جنده بالاستعداد للانضمام للمجاهدين، وانطلق في 100 فارس نحو ابن تاشفين الذي برز له، فالتقيا وتعانقا وبشرا بعضهما بالنصر. وأهل الأندلس أيضا تهيأوا للجهاد، خاصة أنهم بدؤوا بالرجوع لدينهم بعد تلك الجولات الدعوية التي قام بها علماؤهم داعين للتوبة وترك المعاصي.
لقد تهيأت أسباب النصر:
الناس شاع فيهم الخير، وشعيرة الجهاد أحييت، والصف قد توحد. لقد آن لهذ الكابوس الصليبي أن ينقشع، وآن للنصر أن ينزل. زلكي يعبر أهل الحزيرة عن فرحتهم بالضيوف خرجوا إليهم بالأطعمة والضيافات. وبدأ المتطوعون يتوافدون على ابن تاشفين حتى امتلأت المساجد. وأرسل ملوك الطوائف قواتهم، فأمرها ابن تاشفين أن تنضم إلى معسكر ابن عباد، فأصبح المسلمون معسكرين: معسكر أهل الأندلس، ومسكر المرابطين.
وتمت الاستعدادات، وجهز ابن تاشفين الخطط. ثم أمر الجحافل أن تزحف! واقترب موعد الاصطدام المروع! وحان موعد المعركة الفاصلة: (معركة الزلاقة). فدعونا ندخل إلى الأندلس (الفردوس المفقود)، ننصب كراسينا في مكان يشرف على معركة الزلاقة،
نتابع تفاصيلها، نستمتع ببطولاتها، ونشارك المجاهدين فرحتهم!!
وقبيل بدء معركة الزلاقة عرض ابن عباد على يوسف بن تاشفين أن يرتاح قليلا في قصوره الباذخة، فرد الشيخ الذي ناهز 80 عامًا: (إنما جئت للجهاد)!! ووزع ابن تاشفين جيوشه إلى 3 أقسام:
الأول: أهل الأندلس بقيادة ابن عباد.
الثاني: أهل المغرب بقيادة القائد المرابطي الفذ داود ابن عائشة.
الثالث: قوات احتياطية خاصة بقيادته اختفت خلف التلال القريبة، من ضمنها كتيبة (الحرس الخاص) المكونة من 4000 من المجاهدين السودان المهرة (كوماندوز)! وكانت خطته أن تشتبك قوات ابن عباد وابن عائشة مع العدو، حتى إذا أنهك تدخلت القوة الاحتياطية المتهيأة وفاجأت العدو من حيث لا يحتسب! وهذه الخطة ليست جديدة؛ فقد استخدمها من قبل خالد بن الوليد في معركة (الولجة) والنعمان بن مقرن في (نهاوند) وقطز في (عين جالوت)! فابن تاشفين رجل يقرأ التاريخ!
وانطلق الجيش الإسلامي تجاه العدو، واستمر في سيره حتى مدينة بطليوس حيث استقبلهم ابن الأفطس على مقربة منها وقدم لهم الضيافة والمؤن اللازمة. وانتهى إلى سهل واسع يقع شمال بطليوس على مقربة من حدود البرتغال الحالية، تسميه الرواية الإسلامية (الزلاقة)، ويسميه الأسبان (sagrajas). وفي سهل (الزلاقة) تحققت معجزة وحدة ملوك الطوائف التي طالما انتظرها المسلمون، واجتمع شمل أهل الأندلس، وتألفت القلوب على الإيمان والجهاد. وأراد ابن تاشفين رائد هذه الوحدة أن يؤلفهم ولا يفرقهم، فعاقدهم أن يكونوا يدًا واحدة، وطمأنهم بأنه لن يعرض لأحدهم في بلدة.. فحصل على ثقتهم. وأجمع الشعب والأمراء على حب ابن تاشفين وزاد في حبهم له ما شاهدوه من زهد وصدق جهاد وإقبال على طلب الآخرة! وتأثروا كذلك برفاقه المجاهدين. كان عدد الجيش الإسلامي 30000 مجاهد يقاتلون في سبيل الله تعالى.. وعدد جيش العدو 80000!! صليبي وقيل أكثر يقاتلون في سبيل يسوع!!
هنا نتساءل: إذا كان من اجتازوا البحر 12000 فمن أين خرجت الألوف الأخرى؟ لقد صدق عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنتم يومئذ كثير لكنكم غثاء كغثاء السيل)! استصرخ ألفونسو ملوك النصارى فارتجت أوروبا، وقام رجال الدين معه، وخف الفرسان من إيطاليا ومن وراء جبال البرانس وتوافدت النجدات إلى قشتالة! واغتر ألفونسو بجيوشه الأكثر عددا وعدة، وصعد ربوة هو وقواده يشرفون على جيشه وقال في غطرسة: (بهؤلاء أقاتل الإنس والجن وملائكة السماء)!!! ولم يرد ابن تاشفين أن يتوغل في أرض يجهلها، فاختار الزلاقة التي يعرفها المسلمون لعل ألفونسو يتهور ويأتيه فيها فيكون بعيدا عن حصونه وبلاده. واستشارألفونسو شياطينه فكان من تقدير الله أن يكون الرأي: أن يدخلوا أرض المسلمين فيرهبوهم فإذا انتصروا أفسدوا البلاد فلم تقم للإسلام قائمة! واتبع ابن تاشفين الهدي النبوي؛ فأرسل إلى ألفونسو السادس يخيره بين: أن يسلم، أو يدفع الجزية، أو الحرب. وكتب له بلغة التهديد التي يفهمها: (بلغنا أنك تمنيت أن تكون لك سفن تعبر بها إلينا فعبرنا إليك، وقد جمع الله بيننا وبينك، وسترى عاقبة دعائك {وما دعاء الكافرين إلا في ضلال}). ولم يستجب ألفونسو، ورد بكبره المعهود: (إن صاحبكم يوسف بن تاشفين قد تعنى من بلاده وخاض البحور، وأنا أكفيه العناء فيما بقي ولا أكلفكم تعبًا، أمضي إليكم وألقاكم في بلادكم رفقًا بكم وتوفيرًا عليكم)! ونزل ابن الكافرة بحشوده في مكان ليس بينه وبين معسكر المسلمين إلا نهر جريرو. واقترب موعد اللقاء!
وكان المتعارف عليه أن يحدد يوم المعركة بموافقة الطرفين، فأرسل الفونسو: (غدا الجمعة عيدكم، وبعده السبت عيد اليهود.. بعده الأحد عيدنا، فلنحترم الأعياد! ويكون اللقاء يوم الإثنين).. وافق ابن تاشفين، لكن ابن عباد أعلمه بسوابقه وأنه ممن استمرأ الكذب والخيانة! فأخفى يوسف الموعد عن جنده. وأتته الاستخبارات بتحركات للعدو مريبة! ورأى أحد العلماء في المنام أن رسول الله يبشره بالنصر والشهادة! فتناقل الجند الخبر، واستيقظوا وتركوا النوم، وأمضى ابن تاشفين ليلته يعبء الجند وينظم المجموعات ويوزع الأدوار. ثم تحقق الظن وظهر الغدر!!! وقبيل فجر يوم الجمعة 12 رجب 479هـ هجمت قوات الكفر والنكث! لكن جند الله كانوا متيقظين، فتلقوهم قبل أن يصلوا إليهم! وبدأت (الزلاقة)!!!
واشتبك الفريقان في صراع دموي عنيف، وهجمت مقدمة النصارى بقيادة البارهانس على مقدمة المسلمين بقيادة المعتمد وأحاطت به إحاطة السوار بالمعصم! لكن الخلل سرعان ما ظهر في المسلمين! واستحر القتل فيهم! وكثف النصارى هجماتهم مستغلين كثرتهم، وكانت الصدمة قوية مزلزلة، فتراجع الأندلسيون عن مواقعهم! وطعن المعتمد في جنبه وجرحت يده وشج رأسه شجة عظيمة، وعقرت تحته 3 أفراس!! وفر حكام الأندلس إلى مدينة بطليوس!! وكادت الهزيمة أن تحل!! وثبت المعتمد ثباتًا مدهشًا، وسانده جيش ابن عائشة فخفف عنه شيئا، لكن ألفونسو كان قد قسم جيشه أيضا قسمين، فمال بالقسم الآخر إلى ابن عائشة. واصطدم تفوق النصارى بثبات المجاهدين، وداسهم اللعين بكثرة جنده، وازداد ضغط النصارى على ابن عائشة وأصبح موقفه حرجا! ووصل الخبر لابن تاشفين. فأمدهم بأقوى قادته وهو الأمير (سير بن أبي بكر) على رأس قوة من المرابطين، فاستطاع أن ينفذ بها إلى قلب جيش النصارى وأن يتصل بقوات ابن عباد!
خف الضغط على الأندلسيين فاستعادوا مواقعهم، لكن ألفونسو واصل ضغطه على ابن عائشة وتقدم فأصبح أمام خيام المرابطين واقتحم الخندق الذي يحميه! وظن النصارى أن النصر لهم، وحسبوا أن هؤلاء الذين أمامهم هم الجيش كله! لكن ابن تاشفين لما رأى انشغالهم بالمقدمة؛ فاجأهم.. وضرب ضربته!! وحرك ابن تاشفين قوات الاحتياط، والتف من بعيد التفافا تاما خلف العدو، حتى وصل لمعسكرهم، فقتل الحراس، وأضرم النار في الخيام! ففر من فيه! وبينما ألفونسو يمني نفسه بالنصر إذ به يتفاجأ بفرسانه يقبلون من المعسكر فارين! ثم يتفاجأ بأن قوات التوحيد تطاردهم وتعمل سيوفها في رقابهم! وكانت الطبول تضرب ولها دوي يصم الآذان فارتبك جيش الكفر! وكر ألفونسو راجعًا لينقذ معسكره، فاصطدم بابن تاشفين.. وبدأت هناك معركة جديدة!!
وبدأ النزال الحقيقي، وظهر صواب رأي ابن تاشفين الذي جلب الجمال معه فبدأت خيول العدو تفر من أمامها، واختلطت الأمور على ألفونسو وطار صوابه! وكان المعتمد ومن معه قد يئسوا من الحياة، لكنهم تفاجأوا بالعدو يولي دبره فظنوا أنهم هم الذين هزموهم، فصاح المعتمد: "شدوا على أعداء الله"! كما أن الهاربين إلى بطليوس رجعوا للقتال بعدما وصلتهم البشائر الجديدة.. وأطبق المسلمون على ألفونسو ومن معه.. ودارت على الخبيث الدوائر! وحوصر النصارى من كل جهة، ورأوا النار تلتهم معسكراتهم، وانتشر الخبر أن ابن تاشفين دخل المعركة بجيش جديد! فارتاعت قلوبهم وأيقنوا بالهلاك! وكان ابن تاشفين على فرسه يصول ويجول بين الصفوف يصيح فيهم ويحرضهم على الجهاد، وينادي: (يا معشر المسلمين اصبروا لجهاد أعداء الله الكافرين.. من رزق منكم الشهادة فله الجنة، ومن سلم فقد فاز بالأجر العظيم والغنيمة). وهنا لك أن تتساءل: كيف يستطيع أحد الوقوف أمام من يبحث عن الموت؟!
واشتعلت حرب عظيمة!! وتكسرت الرماح، وتفللت السيوف، وامتلأت الأرض من جثث النصارى ودمائهم، وصارت الرجال والخيول تزلق بها فسميت الزلاقة! وتداعى المرابطون للنزال والترجل عن ظهور الخيل، ودخلوا المعترك صفوفا متراصة كما أحب الله، وهذا ترتيب لم يعهده النصارى، فعجزوا عن مناهضتهم. واستمرت المعركة حتى قرب الغروب، وأبيد النصارى، ووجد أقوام منهم عليهم دروع قوية قطعت أوساطها مع الجثث! وهنا أراد ابن تاشفين إنهاء المعركة! فزج بالكتيبة الخاصة (الحرس الأسود) إلى قلب المعمعة، فترجلوا عن خيولهم واخترقوا الصفوف، واستطاع أحدهم أن يطعن ألفونسو في فخذه طعنة نافذة! فلما أصيب ألفونسو ورأى أمراء النصارى وفرسانها يتساقطون أمامه علم أنها النهاية، وصار همه أن ينجو بنفسه، وأحاط به حرسه لا يريدون إلا نجاته! فبادر بقليل من أصحابه 300 أو 500 واعتصموا بتل قريب، ومن ثم انسل تحت جنح الظلام هاربا ذليلا يلعق جراحه، وصار يعرج من تلك الضربة بقية حياته.
وبعد نهاية المعركة وفرار النصارى أمضى المسلمون ليلتهم في ساحة المعركة حتى الصباح، وصلوا الفجر وسط المقتلة التي كانت من أعظم وقائع التاريخ! أما الجريح المقهور ألفونسو فإنه لم يتوقف إلا في (قورية) على مسافة 20 مرحلة من مكان المعركة! وقد تساقط أصحابه في الطريق فلم يصل إلا في 100 فارس! وقتل من المسلمين 3000 رحمهم الله. وكان يومًا لم يسمع بمثله منذ اليرموك والقادسية! لكن يوسف الشرق سيكرره بعد 104 أعوام في معركة حطين سنة 583 هـ. وبهذا تحطمت آمال النصارى، وانتهت الحملة الصليبية الأولى التي شنت على الوجود الإسلامي في الأندلس، بفضل الله ثم بإخلاص المجاهدين وصبرهم.
واتضح في الزلاقة قدرات ابن تاشفين المتعددة رغم كبر سنه، لقد ابتكر الخطط ونظم الهجمات وحقق المباغتة. وقبل ذلك أصلح علاقته بربه، فنصره سبحانه! وقد تكرر في كتب التاريخ أن الجيش الصليبي أبيد عن بكرة أبيه وأن المسلمين طاردوا فلولهم وحصدوهم حصدًا فلم ينج إلا المائة الذين مع ألفونسو! وبعد المعركة جمعت الغنائم الكثيرة. وفي صورة مشرقة ودرس بليغ لأمراء الطوائف يقسم ابن تاشفين الغنائم بينهم ولا يأخذ هو وجنده منها شيئًا!!
ولسان حاله يقول: (لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) ويريد أن يذكرهم بالغاية الحقيقية من الجهاد وهي رضا الله (وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون)! وسُر أهل الأندلس بالمرابطين، وتيمنوا بابن تاشفين وبنصر الله له، وكثر الدعاء له على المنابر في كل أنحاء الأندلس، وصار له ولجنده مكانة عظيمة!
وأرسل ابن تاشفين بكتب النصر للمغرب فقرئت على المنابر، ووصلت التهاني من عدة بلدان، حتى قيل أنه وصلت تهنئة من أبي حامد الغزالي من المشرق! وبعد الزلاقة عقد ابن تاشفين مجلسًا جمع فيه أمراء الأندلس فخوفهم الله، وأمرهم بالوحدة والائتلاف، وحذرهم من موالاة النصارى. فهل سيستجيبون؟
انتهت الزلاقة، لكن قصة ابن تاشفين لم تنته. وعاد بعد الزلاقة للمغرب، لكنه سيعبر مرة أخرى للأندلس، فإن له 4 عبورات للأندلس، هذا أحدها. ومعركة الزلاقة ليست الوحيدة مع العدو فستتلوها أخريات، وألفونسو لم ينته بعد، كما أن العلاقة مع أمراء الأندلس لن تستمر على هذا الود المزيف.
دعونا أولا نتعرف على الأسباب التي جعلت ابن تاشفين يعود سريعا إلى المغرب بعد 3 أيام فقط من الزلاقة؟ ولم يترك إلا 3000 فارس دعمًا للمعتمد.
يذكر المؤرخون 4 أسباب لعودته:
أولا: وفاة الأمير أبي بكر بن يوسف بن تاشفين ولي العهد.
ثانيًا: استياؤه من أمراء الطوائف وسوء نواياهم وتفرق كلمتهم.
ثالثًا: تحرشات إمارة بني مراد المجاورة للمرابطين.
رابعًا: وفاة أبي بكر بن عمر الأمير السابق للمرابطين الذي سلم الحكم لابن تاشفين قبل 15سنة.
ولما رجع ابن تاشفين قام عام 480 هـ بجولة طاف بها أرجاء المغرب وتفقد شوؤنه وأصلح أموره، وصار يتابع ويسأل عن سير الأمراء والقضاة الذين ولاهم. واجتمع زعماء القبائل لتنصيبه خليفة وتلقيبه بأمير المؤمنين، فأبى وقال: (حاشا لله أن أتسمى بهذا الاسم الذي يتسمى به خلفاء بني العباس)! واختار أن يلقبوه بـ(أمير المسلمين). ومن ورعه وحسن نظره وحرصه على اجتماع المسلمين أنه ربط نفسه بالخلافة العباسية، وأرسل للخليفة المقتدي مع أنه ضعيف، يشعره أنه تابع له ويطلب توليته على ما بيده من بلاد، فاستجاب وأرسل إليه بملابس الولاية والأعلام والتقليد، ففرح فقهاء المغرب بهذه الألفة.
وفي عام 481 هـ عبر ابن تاشفين إلى الأندلس العبور الثاني. ذلك أن أمراء الطوائف ما إن شعروا بحالة الأمن حتى نزعوا رداء التوبة وقيم الإسلام ومعاني الجهاد! وعادوا إلى ما كانوا عليه من تعسف في المعاملة، وهضم لحقوق الرعية، وانصراف إلى مجالس اللهو، واللعب بأموال الشعب، والانشعال بالجواري والمتع! فسلط الله عليهم ألفونسو مرة أخرى، الذي تنفس الصعداء منذ علم أن ابن تاشفين عاد لمراكش، فأخذ يحرض على المسلمين ويطلب من ملوك النصارى العون. فوصلته من إمارتي بيشة وجنوة الإيطاليتين امدادات في 400 سفينة! فحاصر بلنسية وهاجم سواحل الأندلس، وجعل قاعدته ومنطلق هجماته من (حصن لييط)، وما أدراك ما حصن لييط؟!
حصن لييط يقع على جبل شاهق، فاتخذه النصارى قاعدة متقدمة لهم في بلاد المسلمين، فحصنوه وزادوا في بنيانه، وصاروا يغيرون فيسلبون ويسبون ثم يتحصنون به. وملؤوه بالذخائر وبـ 13000 مقاتل، تدعمها قوات ألفونسو وتقوم بالتنسيق مع القوى الصليبية الأخرى لتشتيت القوة الإسلامية، وليثأروا لقتلى الزلاقة! فعانت الأندلس الأمرين من هذا الحصن، وأثار رعب الناس، وعجز أمراء الطوائف عن صدهم! عندها انطلقت الوفود من جديد تستنجد بالأسد الرابض بمراكش! ولما كانت بلاد المعتمد أكثرهم معاناة فقد انطلق بنفسه من أشبيلية وجاز البحر إلى ابن تاشفين فاستنجد به، فاستجاب له متحملا التكاليف والمشاق.. فاجتاز البحر عام 481 وأرسل لملوك الأندلس يستدعيهم للجهاد، والموعد حصن لييط! وخاف ألفونسو، لأنه يعلم أن الجهاد إذا أعلن فلن يقف بوجهه أحد! وشرع المسلمون بمهاجمة الحصن، وضيقوا الحصار، وهوجم الحصن ليلا ونهارا، واستخدمت العرادات والمجانيق (المدافع) لكنه لم يتأثر، فاجتمع الأمراء وقرروا أن لا حل إلا إطالة الحصار. لكن أمراء الطوائف لا صبر لهم ولا جلد! فملوا، وظهرت معادنهم الحقيقية وما جبلوا عليه من فتن ومشاحنات! ودبت الخلافات بينهم، واتصل بعضهم بالنصارى، وصار ابن تاشفين يحاكم بعضهم، وغضب أمير مرسية وقطع الإمدادات عن الجيوش المحاصرة!! وأطل الشتاء. وبعد 4 أشهر اضطر ابن تاشفين لرفع الحصار، وغادر إلى لمغرب! فتسلل ألفونسو وأخرج المحاصرين وأحرق الحصن، وعاد إلى طليطلة مسرعًا خشية مواجهة الأسد الذي حطم كبرياءه في الزلاقة! وقبل أن يعود ابن تاشفين للمغرب أرسل جيشًا للدفاع عن بلنسية التي صار الصليبيون يتحرشون بها، فيكون بهذا قد دخل معركة جديدة مع هؤلاء النصارى. وارتاح المسلمون من هذا الحصن. لكن ابن تاشفين ساءه وضع ملوك الطوائف، وصار لديه يقين بأنهم غير مخلصين في جهادهم ولا مهتمين بأمور المسلمين! وكان يقول عنهم: "إنما هم أحدهم كأس يشربها وقينة (مغنية) تسمعه ولهو يقطع به أيامه"!! لقد ركنوا إلى الدنيا، وسرى بهم مرض الدعة والسكون! واستاء الأندلسيون من حكامهم، وصاروا يطالبون بقيادة كقيادة المرابطين، بل صاروا يتمنون الوحدة مع المرابطين وأن يضم ابن تاشفين الأندلس لدولته! وأصبح الأندلسيون يتحينون الفرصة للخلاص من الوهن الذي أصابهم بسبب هذه القيادات العاجزة، وقاد العلماء هذا التوجه وأخذوا يبينون لابن تاشفين خداع هؤلاء الملوك، وانغماسهم في المعاصي وتعاطي الخمور، وأن حياة القصور الباذخة التي يعيشونها إنما هي من ضرائب ومكوس أخذوها من الشعب!!
وما كان للمرابطين أن يتركوا الأندلس على هذه الحال من التمزق وتسلط الأعداء وقد ضحوا من قبل لأجلها! فصاروا يفكرون في حل حاسم قبل أن تضيع! ووجب على ابن تاشفين أن يحمل أعباء الجهاد الأندلسي كاملة على عاتقه، وأن يواجه معا نصارى أسبانيا وملوك الطوائف. وبدأ بالاستعداد للعبور الثالث. في مدينة سبتة أكمل أمير المسلمين الاستعدادات، وعبر البحر للمرة الثالثة عام 483 يرافقه هذه المرة أشهر قواد المرابطين، فأمامه مهمة مختلفة! ورغب أن يفتح باب الجهاد على مصراعيه، وأن يعطي أمراء الأندلس فرصة أخيرة، فسار حتى نزل طليطلة فحاصرها وفيها ألفونسو، وهاجم مدن النصارى وبث الرعب في قلوبهم، فلجأوا إلى حصونهم! لكن حكام الطوائف لم يشاركوا في الجهاد! بل لم يستقبلوا المرابطين بما يجب من عون ومساعدة!! ولم يخرج للمرابطين إلا المعتمد بن عباد، لكنه سرعان ما عاد إلى بلاده! وكانت المعلومات عن موالاة الأمراء للنصارى تتوالى على ابن تاشفين!! لقد غاظهم تعلق الناس بالمرابطين وخافوا على عروشهم! وصاروا ينسقون مع ألفونسو ليضطروا المرابطين للرحيل! وخياناتهم هذه ليست جديدة فقد بدأت منذ حصار حصن لييط! ورغم هذا كله فلا زال ابن تاشفين يتردد في خلعهم ويتورع عنه، حتى صدرت فتاوى العلماء بعدم شرعية استمرار رؤساء الطوائف بالحكم وعدم صلاحيتهم لقيادة المسلمين! قال له العلماء: (إن هؤلاء الأمراء لا تجوز إمارتهم، فاخلعهم عنا، فإن تركتهم أعادوا بقية البلاد إلى الروم وكنت أنت المحاسب بين يدي الله)! فقال لهم: (كيف يجوز ذلك وقد عاهدتهم وارتبطت معهم على إبقائهم؟). قالوا: (إن كانوا عاهدوك فها هم قد ناقضوك وأرسلوا لألفونسو أنهم معه عليك!)
وكان لا بد من التخلص من هؤلاء الخونة الذي أذلوا المسلمين، بعد أن كان من أكبر أماني ملوك أوروبا أن يحظى ابنه أو ابنته ببعثة لمعاهد قرطبة!! لقد أطلت في بيان سبب قضاء ابن تاشفين على أمراء الطوائف لكي يعرف أبناؤنا الحقيقة، ولكي لا يرددون ما يقوله المغرضون من أنه غاصب ومعتدي!! فهل يعتبر نور الدين زنكي غاصبًا بضمه دمشق لتكون سدًا في وجوه الصليبيين؟ وهل أخطأ صلاح الدين عندما ضم مصر للشام لتكون عونا على فتح القدس؟!
وكان ابن تاشفين يهتم بالإعلام! فأرسل لحجاج بيت الله للتعريف بالمرابطين، فالتقوا بالغزالي والطرطوشي فأفتيا أيضا بجواز تدخله في الأندلس. فبدأ عزل الأمراء تباعًا. فعزل أمير غرناطة الذي حالف ألفونسو ودفع له الأموال وأنكر عليه القاضي فسجنه، فتنكر له الناس وأرسلوا لابن تاشفين فحاصرها شهرين، فتحصن أميرها، لكن الناس انتفضوا عليه حتى خدمه وأتباعه! فاستسلم، فأرسله ابن تاشفين للمغرب وأكرمه، فتاب وأقبل على الآخرة. ودخل المرابطون غرناطة دون إراقة دم، وأقام ابن تاشفين بها مدة فأصلح حالها وألغى الضرائب. وفتحت مدن أخرى أبوابها للمرابطين ورحبت بهم وبعدلهم! ثم عزل أمير مالقة لنفس الأسباب، وعفا عنه كما عفا عن سابقه. ثم عاد ابن تاشفين للمغرب. ثم نقل مقر قيادته إلى سبتة ليكون قريبًا من الأندلس.
ثم واصل قادة ابن تاشفين في الأندلس تصحيح الوضع، وكان الخطر عليهم من ابن عباد حاكم أشبيلية أكبر دول الطوائف، وكانت حدوده تمتد حتى البرتغال حاليا! والمعتمد يختلف عن غيره بشجاعته وأدبه لكنه كان ظالمًا، ومن شنيع أفعاله أن حاكم قرطبة استنجد به فأرسل له الجيش وطرد عدوه ثم غدر به واحتلها! وانشغل ابن عباد بشهواته، وقال أشعارًا يتغنى فيها بلياليه الحمراء، وبذر أموال الدولة، وأسرف في ترفهه، وأهمل الثغور، وأخذ الضرائب والمكوس!! فأرسل إليه ابن تاشفين يأمره باتباع الشرع، فأبى وراسل ألفونسو ملك أسبانيا لينصره ويطرد المرابطين! فأرسل ابن تاشفين للمدن التابعة للمعتمد يدعوهم للالتحاق بالمرابطين والتبرؤ من المعتمد، فاستجاب أغلبهم، وقامت عليه الرعايا.
وكانت قرطبة يحكمها ابن المعتمد فقام عليه الناس وقتلوه! وأرسل ألفونسو 60000 لنجدة المعتمد! فتصدى لهم القائد المرابطي (سير بن أبي بكر) عند (حصن المدور) بـ 10000 وأعد خطة جريئة استطاع بها سحق النصارى!
واشتد الحصار على المعتمد في أشبيلية، وتخلى عنه الناس، وبعد 4 أشهر تمكن المرابطون من فتح ثغرة في سور المدينة، فهم أن ينتحر لكن الله لطف به! وقبض على المعتمد عام 484 وأرسل للمغرب، وفرضت عليه الإقامة الجبرية ببلدة (أغمات) وعنده زوجته وأهله، ويزوره الناس والشعراء حتى مات عام 488 هـ رحمه الله وعفا عنه. ومن أشعاره المؤثرة قوله:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا *** فساءك العيد في أغمات مأسورا
من بات بعدك في ملك يسر به *** فإنما بات بالأحلام مغرورا
ثم ضم المرابطون إمارة المرية عام 484 هـ ثم حاصروا إمارة بطليوس عام 488 هـ ففتح الناس الأبواب، فأعدموا أميرها ابن الأفطس، وفر ابنه لألفونسو وتنصر! وبعد توحد الأندلس تحت راية المرابطين وجهوا جيوشهم غربا لغزو الصليبيين وتحرير ما احتلوه، فاستعادوا لشبونة وشلب ويابرة وغيرها من مدن الإسلام.
وفي الشرق انطلق محمد بن يوسف بن تاشفين يقود الجيوش، فاستعاد مدن مرسية ودانية وشاطبة ونبرة، ثم استعاد بلنسية بعد أحداث دامية يطول ذكرها! ثم خاض المرابطون معركة كنشرة، ومعركة قونقة شرقي مدريد، ومعركة شقر، وغيرها كثير.. فأثخنوا في العدو، وكان من القادة يحيى حفيد ابن تاشفين. ودخل بعض حكام الطوائف في حكم المرابطين كحاكم مملكة سرقسطة، وصار عونا لهم. ثم اتجه المسلمون إلى مدن النصارى شمالا فهاجموا برشلونة وغنموا! وبهذا أحكم المرابطون سيطرتهم على الأندلس وأرهبوا نصارى أوروبا، وامتدت رقعة دولتهم شمالا حتى أقاصي الأندلس وجنوبا حتى (مالي) في أفريقيا!
ثم عام 496 هـ كان العبور الرابع والأخير لابن تاشفين تجاه الأندلس وكان عمره 96 سنة! فزارها لتفقد أحوالها والنظر في مصالحها وترتيب أمورها الإدارية. وحاصر المجاهدون طليطلة، وخاض محمد بن يوسف بن تاشفين معركة فحص اللج عام 497 وحقق انتصارًا رائعًا!! ثم عام 498 خاضوا معركة مقاطع وانتصروا!
وفي عام 497 عاد ابن تاشفين لمراكش بعد أن زود قواده بالخطط والتوجيهات اللازمة، وبعد أن اطمأن على أوضاع الأندلس وعلى قوة المجاهدين هناك. وفي مراكش حط الأسد عصى الترحال بعد كل هذه الصولات والجولات! ومنذ عام 498 هـ تمكن منه المرض وأنهك جسده الذي طالما تحمل أعتى الأحداث وخاض أعنف المعارك!! وفي عام 500 هـ كانت النهاية!
لقد فجع الناس، وفجعت الأمة! لقد مات المجاهد الكبير يوسف بن تاشفين بن إبراهيم الصنهاجي الحميري اللمتوني المولود بصحراء موريتانيا سنة 400، مات على فراشه بعد كل هذه المعارك! مات بعد أن سطر سيرة من أعطر السير! رحمه الله ورزق الأمة أمثاله.
وبعده استمر الجهاد الأندلسي بقيادة ابنه (علي)، وتنعم المسلمون والمسلمات في ظل هذه الدولة المباركة التي أحيت الجهاد بعد أن توقف 80 عاما!!
وللدكتور محمد بن موسى الشريف بحث لطيف ذكر فيه (الصفات والخصائص التي أبرزت ابن تاشفين) وحصرها في ثمان:
أولا: حسن الصلة بالله.
ثانيا: حب الجهاد.
ثالثًا: التقشف والاخشيشان والبعد عن الترف.
رابعًا: الشجاعة والقوة.
خامسًا: الهمة العالية.
سادسًا: التعاطف مع مشكلات المسلمين.
سابعًا: تقريب العلماء.
ثامنًا: طول العمر.
وسيرة ابن تاشفين ودور دولة المرابطين لم يأخذا حقهما من الذيوع والبروز! وهذا عائد إلى تقصيرنا مع سير عظمائنا!
كما أن هناك سببين رئيسين:
الأول: إغفال بل وتشويه متعمد من قبل كتاب ومؤرخين مخالفين للفكر الإسلامي، بل وآخذين على المرابطين تمسكهم التام بالكتاب والسنة! وهذا عجيب!
الثاني: طمس لبعض التفصيلات والبطولات وتشويه لبعض الجوانب من قبل (الموحدين) الذين جاؤوا بعد المرابطين وكانوا على النقيض في بعض الأمور!!
وإن من الجهاد اليوم إبراز تلك القدوات لشبابنا، يقول د. محمد بن موسى الشريف: "الأمر العجيب الذي يكاد يمزقني أني أرى عناية الغرب والشرق بتراجم عظمائهم تبلغ الغاية، ويبالغ فيها مبالغة معروفة، فأين الثرى من الثريا؟ وأين اللآلي المكنونة في صدفاتها من الخرز المعروض المبهرج؟!".
ويقول: "الجيل اليوم بحاجة ماسة إلى معرفة عظمائه وكبرائه حتى يقتدي بهم ويأتسى، وإلا فإنه سينصب لنفسه قدوات قد لا يكونون صالحين للاقتداء أو لا يكونون مسلمين؛ كما نشاهد اليوم ملايين المسلمين وهم يقتدون بلاعبي الكرة والمغنين والممثلين وغيرهم من تلك الطبقات!".
وصدق.
وقد انتشر ذكر ابن تاشفين وسيرته وفرح به علماء عصره حتى أن الإمام أبا حامد الغزالي انطلق يريد لقاءه فلما وصل الأسكندرية بلغه وفاته فرجع! وابن تاشفين كان مثالا رائعًا للتمسك بجميع الشرع، وكان ينكر حتى ما يظنه البعض صغيرا، فإذا دخل عليه المسبل أعرض عنه، فإن كان ذا ولاية عزله!
انتهت سيرة هذا المجاهد الذي ربما لو وجد تعاونا من أمراء الطوائف لتثبتت جبهة الإسلام في الأندلس بصورة نهائية ولكانت اليوم بلادًا إسلامية!
وفي النهاية فإن من مصادري:
1- يوسف بن تاشفين، للدكتور حامد بن محمد الخليفة. (وهو عمدتي).
2- الصفات والخصائص التي أبرزت يوسف بن تاشفين، للدكتور محمد بن موسى الشريف.
3- موقع (قصة الإسلام) للدكتور راغب السرجاني.
وبقي هناك أعلام منسيون ومعارك عظيمة ينبغي الكتابة عنها وتعريف أجيال الأمة بهم:
محمود بن سبكتكين.
ألب أرسلان.
اللواء محمود شيت خطاب.
معركة جالديران.
معركة ملاذكرد.
أسأل الله عز وجل أن يعيد للأمة أمجادها، وأن يجعلنا من الأوفياء لأسلافهم العظماء. والحمد لله رب العالمين.
فهد بن حمد البيضاني
- التصنيف: