فضائل الجمعة

منذ 2015-01-11

إن من بركات هذا اليوم أن الله يغفر لعبده ما ارتكب ما بين الجمعتين من آثام وخطايا، إذا اجتَنب الكبائر، يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفارة ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر))؛ أخرجه مسلم.

الخطبة الأولى:

إن الله فضَّل بعض الشهور والأيام على بعض، وجعل من الأيام مواسم وأعيادًا، اصطفاءً منه واختيارًا، وتشريفًا منه وتكريمًا، (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) [القصص: 68]، وإن الله - تعالى - قد جعل للمسلمين من أيام الدنيا ثلاثةَ أعياد؛ عيدين يأتيان في كل عام مرة مرة: عيد الفطر وعيد الأضحى، وعيدًا يتكرر كل أسبوع، وهو يوم الجمعة الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن يوم الجمعة يومُ عيد، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده))؛ رواه أحمد.

إن يوم الجمعة - أيها المسلمون - من أعظم الأيام عند الله قدرًا، وأجلها شرفًا، وأكثرها فضلاً، فقد اصطفاه الله - تعالى - على غيره من الأيام، وفضَّله على ما سواه من الأزمان، واختص الله به أمة الإسلام، وضلت عنه اليهود والنصارى، فعن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أضل اللهُ عن الجمعة مَن كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة، المقضي لهم قبل الخلائق))؛ رواه مسلم.

((إن خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه أدخِل الجنة، وفيه أخرِج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم جمعة))؛ رواه الترمذي وصححه الألباني.

إن من بركات هذا اليوم أن الله يغفر لعبده ما ارتكب ما بين الجمعتين من آثام وخطايا، إذا اجتَنب الكبائر، يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفارة ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر))؛ أخرجه مسلم.

عباد الله: إن يومًا بهذه المزية، وتلك المكانة عند الله لهو حريٌّ بأن نعتني به، فقد شرع الله في هذا اليوم الغسل، وجعله أمرًا مؤكدًا، يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((غسل الجمعة واجب على كل محتلم))؛ صححه النووي، وهذا يدل على تأكيد الغسل وأهميته، وشُرِعَ الطِّيبُ، ولبس أحسن الثياب، فعن سلمان - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من اغتسل يوم الجمعة، وتطهر بما استطاع من طهر، ثم ادهن أو مس من طيب، ثم راح فلم يفرق بين اثنين، فصلى ما كُتب له، ثم إذا خرج الإمام أنصت، غُفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى))؛ رواه البخاري.

ولقد ندب النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلم أن يجتهد في التبكير إلى الجمعة، لما في ذلك من الفضل العظيم، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح، فكأنما قرَّب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر))؛ رواه البخاري.

قال ابن القيِّم: "لمَّا كان يوم الجمعة في الأسبوع كالعيد في العام، وكان العيد مشتملاً على صلاة وقربان، وكان يوم الجمعة يومَ صلاة، جعل الله - سبحانه - التعجيل فيه إلى المسجد بدلاً من القربان وقائمًا مقامه، فيجتمع للرائح فيه إلى المسجد الصلاة والقربان".

بمعنى أن الذي يبكر إلى الصلاة يوم الجمعة كان له من الأجر كمن اشترى شيئًا مما ذُكِر في الحديث، ووزعه على فقراء المسلمين، فمن ذهب في الساعة الأولى كان كمن اشترى من ماله الخاص بدنة، فذبحها ثم وزعها على فقراء المسلمين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

فانظروا رحمكم الله إلى هذا الفرق العظيم بين أجر من يبكر ويأتي في الساعة الأولى، ومن يتأخر ويأتي في الساعة الخامسة الأخيرة، إنه الفرق بين من يتصدق ويتبرع بالبدنة، وبين من يتصدق ويتبرع بالبيضة، فانظر لنفسك ماذا أنت تختار، ولو حصل لك ظرف معين في أحد المرات وتأخرت، فاحرص أن تكون على الأقل مع من يقرِّب بقرة، أو على الأقل دجاجة، لكن أن يكون طبعك وديدنك مع البيضة دائمًا فهذا أيضًا من الحرمان، أما إذا دخل الخطيب فإن البيضة أيضًا أنت لست من أهلها، لأن الملائكة تطوي صحفها وتجلس تستمع إلى الخطبة.

إن الملائكة يوم الجمعة يجلسون عند أبواب المسجد، يكتبون الأول فالأول، فإذا أتى الإمام طوَوا صحفَهم واستمعوا الذكر، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المساجد، فيكتبون من جاء من الناس على منازلهم، فرجل قدَّم جزورًا، ورجل قدم بقرة، ورجل قدم شاة، ورجل قدم دجاجة، ورجل قدم بيضة، فإذا أذَّن المؤذن وجلس الإمام على المنبر طويت الصحف، ودخلوا المسجد يستمعون الذكر))؛ رواه الهيثمي ورجاله ثقات.

وعن أوس بن أبي أوس - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من اغتسل يوم الجمعة وغسل، وبكر وابتكر، ودنا واستمع وأنصت، كان له بكل خطوة يخطوها أجر سنة صيامها وقيامها))؛ رواه الترمذي وحسنه.

فما أعظم هذا الأجر يا عباد الله، هنيئًا لمن بكر وأتى إلى المسجد قبل حضور الخطيب، وصلى ما قدِّر له، وتشرف بكتابة اسمه في السجلات التي تحملها الملائكة القاعدون على أبواب المساجد في هذا اليوم العظيم، وأجر المسير والتبكير إلى الجمعة كل خطوة تعادل في الثواب صيام سنة وقيامها، أضف إلى ذلك إن المبكر إذا دخل المسجد فاشتغل بالصلاة والذكر وقراءة القران حصل على خيرات كثيرة، والملائكة تستغفر له طيلة بقائه في المسجد، ويكتب له أجر المصلي ما دام ينتظر الصلاة، ولكن ومع كل أسف كثير من الناس زهد في هذا الأجر، ورغب عن هذا الخير، فصار لا يأتي لصلاة الجمعة إلا في آخر لحظة، ومنهم من يأتي وقت الخطبة فقط أو في آخرها، وهذا أمر ملحوظ ومشاهد، يدخل الخطيب المسجد فلا تكاد ترى إلا بعض الصفوف، وما إن يشرع الخطيب في الخطبة ويسمعه الناس حول المسجد فيبدؤون في المجيء، ومنهم من يتأخر حتى قبيل الإقامة، وهذا لاشك أنه حرمان عظيم، وتثبيط من الشيطان، وضعف من النفس، فاتقوا الله عباد الله، لا تحرموا أنفسكم هذا الأجر العظيم، بكروا إلى الجمعة، لتحوزوا على رضوان الله - جل وعلا -، ويُذكَر في الأثر عن علقمة قال: خرجت مع عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يوم الجمعة، فوجد ثلاثة قد سبقوه، فقال: "رابع أربعة، وما رابع أربعة من الله ببعيد، إنَّ الناس يجلسون يوم القيامة من الله - عز وجل - على قدر رواحهم إلى الجمعات، الأوَّل ثمَّ الثاني ثمَّ الثالث ثمَّ الرابع، وما رابع أربعة من الله ببعيد"؛ رواه المنذري وحسنه.

وليتجنب المسلم ما يعوقه عن التبكير، من السهر في ليلة الجمعة، وربما يسهر البعض إلى طلوع الفجر، ثم يستغرق معظم النهار نومًا، فعساه أن يستيقظ للفريضة ولو متأخرًا، وبعضهم ربما مضت عليه الساعات في نوم عميق، فتفوته الجمعة، إنها خسارة عظيمة لمسلم منحه الله الصحة والعافية، ولكنه لا يبالي بهذا اليوم ولا بفضائله.

وإذا دخل المسلم المسجد شُرع له أن يصلي ركعتين تحيةَ المسجد ولو كان الإمام يخطب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بينما هو يخطب إذ دخل سُلَيْك الغطفاني - رضي الله عنه - فجلس، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أصليتَ ركعتين؟))، قال: لا، قال: ((قم فاركع ركعتين، وتجوَّز فيهما))؛ رواه البخاري ومسلم.

وإذا تأخر المسلم عن الإتيان مبكرًا إلى المسجد وقد امتلأ المسجد، فإنه يمنع من تخطَّي رقابَ الناس؛ لأن في ذلك أذىً للمسلمين، وإشغالٌ لهم عن الاستماع، وإلهاء لقلوبهم عن الإقبال على سماع الخطبة، فبينما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب إذا رجلٌ يتخطى رقاب الناس، فقال له: ((اجلس فقد آذيت وآنيت))؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي.

إذا أتى المصلي إلى صلاة الجمعة فيشرع له الإنصات لخطبة الإمام، والإصغاء إليها، ويَحرُم عليه التحدث مع الغير، والاشتغال بما يلهي عن سماع الخطبة، يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت، والإمام يخطب، فقد لغوت))؛ رواه البخاري.

ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة فذكَّر أصحابه بأيام الله، ثم قرأ سورةً فغمز أبو الدرداء أُبيَّ بن كعب - رضي الله عنه - فقال: متى أنزلت هذه السورة فإني لم أسمعها إلاَّ الآن؟ فأشار إليه أنِ اسكت، فلما انصرفوا، قال أُبي: ليس لك من صلاتك إلا ما لغوت، فأخبر أبو الدرداء النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بما قال أُبي، فقال: ((صدق أبي))؛ رواه الهيثمي وقال رجاله رجال الصحيح.

من مس حصى المسجد، أو عبث بشيء من متاعه والإمام يخطب، فقد لغا في جمعته، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من مس الحصى فقد لغا))؛ رواه ابن ماجه وصححه الألباني، وما من دين على وجه الأرض يلزم مؤمنيه في يوم من أيام الأسبوع أن يأتوا يوم الجمعة بالاستماع والإنصات، كأشد ما يكون الاستماع والإنصات إلى خطبة الجمعة، لا يلتفتون عنها بشيء، ولا يردون السلام، ولا يشمتون العاطس، كلهم آذان مصغية، كأن على رؤوسهم الطير.

فانتبه يا عبد الله، لا تفسد جمعتك بعبث أو غيره، توجه بسمعك وقلبك إلى الخطبة، ولا تتكلم حال الخطبة، ولا تكن من الذين غلب عليهم الكسل أو عدم المبالاة، يملون من الجلوس ربع ساعة لاستماع ذكر أو موعظة، ولهذا تجدهم يأتون في آخر الخطبة حتى لا يطيل الجلوس، وبعضهم إذا جاء متأخرًا فإنه لا يجلس، يظل واقفًا حتى تقام الصلاة، ولو طُلِبَ من أحدهم أن يجلس في غير هذا المكان لجلس الساعات الطوال، في لهو أو لعب أو غيره، فأي حرمان للعبد أكثر من هذا؟!

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الجمعة: 9، 10].

الخطبة الثانية:

قال - سبحانه -: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56] الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - من العبادات المشروعة في هذا اليوم، فإنَّ أوسَ بن أوس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فيه خلق الله آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثِروا من الصلاة عليَّ فيه، فإن صلاتكم يوم الجمعة معروضة عليَّ))، قالوا: "وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أَرِمْتَ؟! "؛ أي: بليت وصرت رميمًا، فقال: ((إن الله - عز وجل - حرَّم على الأرض أن تأكل أجسامنا))؛ رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه واللفظ له.

قال ابن القيِّم: "ورسول الله سيِّد الأنام، ويوم الجمعة سيِّد الأيَّام، فللصلاة عليه في هذا اليوم مزية ليست لغيره مع حكمة أخرى، وهي أنَّ كلَّ خير نالته أمَّته في الدنيا والآخرة فإنَّما نالته على يده، فجمع الله لأمَّته بين خيري الدنيا والآخرة، فأعظم كرامة تحصل لهم فإنَّما تحصل يوم الجمعة، فإنَّ فيه بعثهم إلى منازلهم وقصورهم في الجنَّة، وهو يوم المزيد لهم إذا دخلوا الجنَّة، وهو يوم عيد لهم في الدنيا، ويوم يُسعفهم الله - تعالى -بطلباتهم وحوائجهم، ولا يردُّ سائلهم، وهذا كلُّه إنَّما عرفوه وحصل لهم بسببه وعلى يده، فمن شكره وحمده وأداء القليل من حقِّه - صلى الله عليه وسلم - أن نكثر من الصلاة عليه في هذا اليوم وليلته".


مراد عياش اللحياني