هكذا ربى القرآن أمهات المؤمنين

منذ 2015-02-13

ما أحوجنا في هذه الأيام إلى التربية القرآنية، ما أحوجنا أن نرجع إلى القرآن في وقت أصبحت تتقاذفنا كثير من الدعوات المضللة لا سيما فيما يتعلق بالمرأة المسلمة

ما أحوجنا في هذه الأيام إلى التربية القرآنية، ما أحوجنا أن نرجع إلى القرآن في وقت أصبحت تتقاذفنا كثير من الدعوات المضللة لا سيما فيما يتعلق بالمرأة المسلمة، ذلك أننا في زمان أصبحت المرأة فيه سلعةً رخيصة توضع على أغلفة المجلات بأوضاع فاتنة، وألبسة غير محتشمة.

لقد صارت المرأة يروج بها السلع المختلفة، وصارت توضع طعمًا لربما في مواضع الاستقبال هنا وهناك؛ من أجل أن تنجذب النفوس الضعيفة، فيحصل الاتجار بالفضيلة والشرف والعفاف.

إننا في زمان تعالت فيه الأصوات التي تنادي وتطالب بخروج المرأة التي هي نصف المجتمع كما يزعمون، وأن المجتمع كالطير لا يحلق إلا بجناحين، وأننا لا يمكن أن نتقدم أو نتطور أو نزاحم الأمم المتحضرة بحال من الأحوال، إلا إذا أخرجنا المرأة من قرارها وبيتها، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف من الآية:5].

لقد وجد من يقول بأن ما نقرره في دروسنا ومحاضراتنا وفي فتاوانا لا يبنى إلا على أوهام لا على أدلة واضحة صحيحة صريحة يوقَف عندها، بل إن بعض المنتسبين للدين أو العلم أو الدعوة صار يردد كلامًا ما كنا نسمعه قبل ذلك؛ ذلك أنه صار يطرح طرحًا نشازًا، طرحًا غير مألوف في وقت الهزيمة.

يقولون: إن قاعدة سد الذرائع وإن وصورة الحجاب التي عليها المرأة المسلمة في بلادنا كل ذلك ليس ثمة دليل صريح عليه، وأن عمل المرأة مع الرجل جنبًا إلى جنب ليس ثمة ما يمنع منه شرعًا، وأن علينا أن نطرح ما دلت عليه الأدلة الصريحة الواضحة من الكتاب والسنة فحسب! وهؤلاء لا شك أنهم مغالطون؛ ذلك أنهم يتكلمون بغير علم، أو أنهم يعلمون ويضللون الناس.

إننا في زمن أصيبت فيه كثير من النفوس بما أصيبت من الضعف والتراجع، وصرنا نرى من يطالب بمراجعة المواقف، فماذا نراجع؟ نراجع ديننا؟ نراجع كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أم نراجع ماذا؟ فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ما أحوجنا في مثل هذه الأيام إلى أن نرفع رؤوسنا، ونقول بملء أفواهنا: إن المنهج الذي رسمه القرآن هو المنهج، وإن الفهم الذي ينبغي أن يفهم به هذا القرآن إنما هو فهم السلف الصالح رضي الله عنهم.

ما أحوجنا إلى تكثيف الخطب والمقالات والكتابات والمحاضرات وألوان المدارسات في مثل هذه الأيام؛ فنحن -والحمد لله- كثير، وقد خرَّجت الجامعات الشرعية التي تحمل المنهج الأصيل منذ عشرات السنين أجيالًا متتابعة ممن يحملون العلوم الشرعية، فهذا أوانهم، فينبغي أن يظهر صوتهم دون تلك الأصوات النشاز التي ليست من العلم في قليل ولا كثير غالبًا، حتى صار يتكلم أهل الصحافة وغيرهم، يتكلمون ويفتون بالمسائل الكبار من غير تورع، ومن غير تقىً لله عز وجل.

لقد أنزل الله عز وجل هذه الآيات التي يربى بها بيوت الأشراف، حيث قال الله عز وجل: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ۚ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الأحزاب من الآية:32].

{لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ}: إن نفي المماثلة هنا يدل على رفيع المنزلة وعلو الشرف.

{لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ۚ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ}: أي أنكن أشرف من غيركن من النساء، وأعلى مقامًا، وأرفع درجة، فهذا الذي دل عليه نفي المماثلة.

{لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ۚ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ}: دل ذلك على أن بيوت الأشراف، والبيوت الرفيعة، والبيوت الكريمة يصلح لها من التربية ما لا يصلح لغيرها، وأنهم ينبغي أن يكونوا في مقامات وأفعال وأقوال وأحوال تليق بمنازلهم الشريفة.

ثم انظر هذا التعليق، حيث قال الله عز وجل: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ۚ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ}: وهذا هو الأرجح من أقوال المفسرين -والله تعالى أعلم- في موضع الوقف في هذه الآية؛ لأن الوقف فيها يحتمل موضعين {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ}: أي: أنتن أشرف من غيركن من النساء، ثم يكون الكلام: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب من الآية:32]، والأحسن أن يكون هكذا -والله تعالى أعلم- {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ۚ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ}: لإن نفي المماثلة لأحد من النساء إذا كان ذلك مع تقوى الله عز وجل.

ثم قال بعده: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}: إن كنتن أشرف من غيركن مع تحصيل التقوى، أو في حال تحصيل التقوى، فينبغي ألا تخضعن بالقول فيؤدي ذلك إلى أمور لا تليق.

{فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}: لستن كغيركن إن كنتن متقيات، وهذه التقوى تتطلب أخلاقًا من الأفعال والأقوال والأحوال، ينبغي أن تكون الواحدة منكن متحلية بها.

{فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ}، ولاحظ هذا التعبير {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ}: المتبادر أن يقال: (فلا تُخْضِعْنَ القول) لأن الإخضاع إنما يكون للقول -للكلام- يكون الكلام خاضعًا، تَخضَع في قولها، تُخضِع قولها، هذا هو المراد، والله تعالى أعلم.

لكن لماذا نسب الله عز وجل الخضوع إليهن، وأضافه إلى ذواتهن فقال: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب من الآية:32] لماذا لم يقل: (فلا تخضعن القول) كما هو المتبادر؟

يقال: لما للظاهر من الملازمة مع الباطن، فالظاهر ملازم للباطن؛ وذلك أن المرأة إذا تغنجت وتكسرت في كلامها ورققته، وأظهرت التأنث للرجال في قولها ومنطقها، فإن ذلك يورثها خنوعًا في ذاتها وتكسرًا، وانكسارًا أمام الرجال، وخضوعًا ببدنها؛ وذلك للملازمة بين الأمرين.

{فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ}؛ لأن إخضاع القول يورث خضوع البدن، يورث التكسر في البدن، يورث إخضاعه للرجال، فلا تخضعن بالقول.

وخضوع المرأة بقولها يكون بصور شتى: يكون حينما تختار المرأة الألفاظ والعبارات التي لا تصلح إلا لزوجها، فتتكلم بها، سواء في الهاتف، أو عبر الإنترنت، أو تتكلم بها مباشرة مع البائعين مع الطبيب، ومع غيرهم، فتتكلم وتتخير من الألفاظ ما لا يصلح إلا مع الزوج، فهذا من الخضوع بالقول.

ويكون الخضوع بالقول أيضًا حينما تتكلم بألفاظ لا عيب فيها، ولكنها تنطق وتؤدي هذه الألفاظ وتعبر بها بشيء من الغنج، وبشيء من الرخاوة، وبشيء من تمييع القول وتليينه للرجال الأجانب، ثم تحصل بعد ذلك النتيجة المتوقعة التي ذكرها الله عز وجل في هذه الآية.

قال: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}: الفاء هنا تدل على التعليل، وهي مشعرة به، وهي تدل أيضًا على التعقيب.

{فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}: الطمع هو انجذاب النفس، وميلها إلى الشيء الذي تشعر أنه قريب المأخذ والمنال؛ فالمرأة إذا تغنجت وزينت الكلام مع الرجال ولينته ورققته امتدت إليها النفوس الضعيفة، وطمع بها الذئاب، وصاروا يرون أنها قريبة المأخذ، وأنها في متناولهم، وأنها ممكنة لمن طلبها.

{فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} من هو الذي في قلبه مرض؟

غالبًا يعبر في كتاب الله عز وجل بهذا التعبير، ويراد به النفاق، وقد يراد به ضعف الإيمان، إلا في هذا الموضع، فالمراد بهذا الوصف هنا هو من كان فيه ميل محرم إلى النساء، قلبه ينجذب انجذابًا محرمًا إلى النساء، يلتفت قلبه إلى النساء؛ ليقارف معهن ما لا يليق مما حرمه الله -عز وجل- كالزنا ونحوه، هذا الذي في قلبه مرض.

وبهذا نعلم أن أولئك الرجال الذين يضعون الشباك ليصطادوا النساء تارة عند المدارس -مدارس البنات- وتارة في أسواق النساء، وتارة عبر شبكة الإنترنت، أو غير ذلك، هؤلاء بنص كتاب الله عز وجل من الذين في قلوبهم مرض، {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}.

وإذا كان ذلك مقولًا لأمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن فغيرهن من باب أولى؛ ولكن قد يفهم من هذا النهي عن الخضوع بالقول أنها ترد على الرجال، وتكلم الرجال برد غليظ، وبكلام جاف مع غلظة وشدة، فبين الله عز وجل أن ذلك غير مراد، فقال: {وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} [الأحزاب من الآية:32]، فالقول المعروف لا يكون فيه فضاضة وغلظة ترد على الرجل كأنها مغضبة، والقول المعروف لا تخضع فيه المرأة وتتغنج وتنعم كلامها وترققه مع الرجال الأجانب، والقول المعروف لا تتخير فيه المرأة الألفاظ التي لا تصلح إلا مع زوجها، أو لربما محارمها، هذا هو القول المعروف، يشمل هذه الأوصاف الثلاثة.

ثم لما أدبهن الله جل وعلا بالقول والكلام كيف تتكلم الواحدة منهن مع الرجال الأجانب، علمهن أدبًا آخر فقال: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ} [الأحزاب من الآية:33].

{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}: فيه قراءتان متواترتان، الأولى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} وهي قراءة عاصم ونافع، والقراءة الثانية: (وقِرْن في بيوتكن) بكسر القاف، وبعض أهل العلم يقولون: إن معنى القراءتين واحد، فهو من القرار، وبعض أهل العلم يفرق بينهما وهذا التفريق ليس بين القولين فيه منافاة؛ {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} من القرار، من قرَّ الماء في الحوض، أي استقر، فتكون مستقرة، باقية غير خراجة ولا ولاجة، لأن المرأة التي تكثر الخروج في أول نهارها وفي آخره، لا يقال إنها قارة في البيت.

والقراءة الأخرى، (وقِرن في بيوتكن) فسرها جمع من الأئمة -أئمة التفسير- بمعنى الوقار، وقرن من الوقار، والمعنيان متلازمان؛ إذ أن وقار المرأة المسلمة يكمن في قرارها في بيتها، وذلك أن المرأة إذا كانت خراجة ولاجة فإن ذلك يكون على حساب وقارها ولا بد، وهذا أمر مشاهد، فإن المرأة الخراجة الولاجة يكون فيها من الجرأة ما لا يكون في غيرها عند النساء القارَّات في البيوت.

والمرأة إنما تمدح -حتى في كلام العرب وأشعارهم، ولربما وصفت بالقاصرة: أي التي تعكف في بيتها فلا تخرج منه ولا تراها الشمس- يمدحونها في أشعارهم، ومن أراد أن يقف على شيء جيد من ذلك فليراجع كتاب (الرحلة إلى حج بيت الله الحرام) للشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله فله كلام جيد وأشعار جميلة في مثل هذا المعنى.

فالمقصود أن الوقار مقترن بالقرار، المرأة يكون وقارها على قدر قرارها، أما إذا كان خروجها لعمل تختلط فيه بالرجال الأجانب، فإن ذلك يمسح ماء وجهها، سواء كانت تعمل بائعة، أو كانت تعمل مسوِّقة، أو كانت تعمل في مكان تطبب فيه الرجال، أو تخالط الرجال بأي صورة من الصور، فإنها مهما كانت محافظة، أو تحاول أن تحافظ على حشمتها فإن وقارها يتناقص ولا بد.

وقَرْن، وقِرْن في بيوتكن، ثم قال بعده {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ} [الأحزاب من الآية:33] فالمرأة المتبرجة كيف تكون كذلك؟

يقال: بكثرة الخروج أن تكون خراجة ولاجة، ويكون ذلك أيضًا بالتكشف والتهتك باللباس والتعري أمام الرجال، ويكون ذلك بمزاحمة الرجال بالأسواق ومخالطتهم في أماكن العمل، يكون إذا كانت بائعة في الأسواق، إذا كانت هذه المرأة تعمل في كل مجال يتاح لها من غير حياء ولا حشمة ولا مراعاة للآداب الإسلامية؛ كل ذلك يكون من تبرجها.

ومن تبرج المرأة أن تسير في وسط الطريق، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم النساء عن السير في وسط الطريق، فقال عليه الصلاة والسلام: «ليسَ للنِّساءِ وسطُ الطَّريقِ»[1]، ولقد أدركنا النساء في بعض النواحي يتشقق جانب عباءتها؛ لأنها إذا رأت رجلًا في الطرق التصقت بالحائط، وكانت الحوائط يومئذ مبنية من الطين ويخالطه -أعزكم الله- التبن من أجل أن يتماسك الطين، فلكثرة ما تلتصق المرأة بالجدار يتمزق جوانب عباءتها، وقد رأيت ذلك بعيني.

يقول الله عز وجل: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ} [الأحزاب من الآية:33]: الجاهلية هي حالة نفسية وواقعية وشعورية بعيدة عن الله عز وجل لا تهتدي بالوحي، هي حياة منسوبة إلى الجهل، هي فكر منحرف شاذ بعيد عن هدى الله عز وجل الذي بعث به أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام هذه هي الجاهلية، وانظر وتأمل كيف أضاف الله عز وجل التبرج إلى الجاهلية.

حدثني عدد من القريبات بقولهن: المرأة التي تضع عباءتها فوق رأسها، وتلبس القفاز، وتضع الخمار الكامل على وجهها من غير تلاعب بنقاب ونحوه يصفونها بأنها قديمة، وأنها متخلفة، وأنها رجعية، وأنها مقبورة، وأنها لا تعيش عصرها وزمانها، وأنها قد دفنت شبابها وجمالها، وأنها صارت في عالم غير العصر الذي تعيش فيه!

أقول: الله عز وجل أضاف التبرج إلى الجاهلية، فهو من أعمال الجاهلية، فمن هي المرأة الجاهلية، أو التي فيها خصلة من خصال الجاهلية؟ من هي المرأة المتخلفة؟ من هي المرأة الرجعية؟

هي المرأة التي تكون متبذلة، متبرجة متهتكة أمام الرجال الأجانب، وأما اللباس والحشمة والنقاء والطهر والعفاف فليس ذلك من أمر الجاهلية في شيء، فالتهتك والعري ليس شيئًا إلا من عمل الشيطان؛ هو الذي يدعو إليه، ويحض عليه، ويأمر به، فكل امرأة متهتكة -في عصرنا هذا وفي غيره من الأعصار- هي مستجيبة لأمر الشيطان؛ قد جعلت أمر الله عز وجل وراءها ظهريًا.

{وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ}: وكفى بذلك قبحًا أن ينسب إلى الجهل وإلى الجاهلية.

{وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ}: كيف كانت المرأة تتبرج في ذلك الزمان؟

غاية ما ذكره المفسرون أنها لربما وضعت خمارها على رأسها، ثم جعلته من خلفها فيبدو موضع القلادة، ولربما بدا موضع المقدم من شعرها، هذا هو تبرج الجاهلية الأولى، فأين التبرج الذي يفعله اليوم عارضات الأزياء؟! أين التبرج الذي يفعل في مشارق الأرض ومغاربها على شواطئ البحار، وفي البرك وفي غيرها من أماكن القذر والتبذل والاستخفاف بكل ألوان الشرف والعفة والطهارة؟! أين هذا مما يفعله كثير من بنات المسلمين -هدى الله الجميع وردهن إلى دينه ردًا جميلًا- في صالات الأفراح، وفي المناسبات من إبداء الأجساد والتعري بصور مغرية تغري النساء الحاضرات؟! هذا كله من عمل الشيطان.

{وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ}: وكعادة القرآن إذا نهى عن شيء أمر بما يعمر القلوب، وبما تشغل به الأوقات بما ينفع، {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ ۖ وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ} [الأحزاب من الآية:33].

ليست القضية أن ننهى الناس، لا تفعلوا كذا، هذا لا يجوز، هذا يحرم، هذا بدعة، هذا منكر.. الخ، هذا أمر مقصود لغيره كما قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله ليس مقصودًا لذاته، وإنما المقصود لذاته هو أن تعمر القلوب بطاعة الملك المعبود جل جلاله أن نعمر قلوب الناس بالإيمان، وبمحبة الله عز وجل والقرب منه، ونعمر القلوب بألوان الأعمال القلبية التي يكون المؤمن بها على الحال اللائقة التي تصلح للعبودية، أو لتحقيق العبودية مع الله جل جلاله.

قال الله عز وجل: {وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب من الآية:33]: نحن نقول للنساء: وقرن في بيوتكن؛ لكن المشكلة في عصرنا هذا إذا بقيت المرأة في بيتها ماذا تصنع؟

تبقى أمام شاشة، أو أمام كاميرا تتعرى فيها تعريًا كاملًا أمام ذئاب قد اصطفوا واجتمعوا ينظرون إليها بخبث وغدر، وهي تتبذل أمامهم بكل مهانة عبر الإنترنت؟! تبقى في بيتها تقلب طرفها بين تلك القنوات التي تسلبها دينها وعقيدتها وإيمانها وعفافها! تبقى في بيتها تقلب المجلات الهابطة! تبقى في بيتها تعبث بسماعة الهاتف فيصطادها ذئاب البشر!

ولهذا يقال في هذا الزمان: ينبغي على المرأة التي لا يوجد في بيتها ما يشغلها، وليس لها رصيد من تقوى الله عز وجل يردعها ويمنعها، ينبغي لها أن تذهب فتخرج لتلتقي بأخوات عبر المراكز الصيفية النسائية، وعبر حلق التحفيظ، وجمعيات تحفيظ القرآن، والأنشطة الطيبة الموثوقة التي يقوم عليها الخيرات من الداعيات إلى الله عز وجل.

تخرج المرأة التي لا تجد الكفاية في هذا الجانب في بيتها، وتخرج المرأة التي لا يوجد لدى الداعيات من يعوض مكانها إذا غابت، فتجتهد وتتقِّ الله في خروجها وتقلل منه ما استطاعت، فتخرج لتنفع الأخوات، وتعلم ما تحتاج إليه المسلمات، أما من وجدت كفايتها وما احتاج أخواتها إليها فإنها تبقى في بيتها.

هذا هو أمر الله عز وجل فأين أولئك الذين يدعون إلى فتح المجال أمام المرأة لتعمل في المصنع والمتجر وأماكن التجميل النسائية والصيدليات وغيرها من ألوان الأعمال التي تكون فيها أجيرة عند الآخرين؟
يقولون: إن نصف المجتمع معطل!
الله يقول: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}، وأنتم تقولون: نصف المجتمع معطل؟!

ما هي حقيقة العمل في نظر هؤلاء المخادعين الذين يكذبون على الناس؟

حقيقة العمل عندهم أن تكون أجيرة عند غيرها، وأما التي تعمل في عملها الأصيل فترضع الصغير وتمرض المريض وتقوم على شؤون الدار، وتقوم على شؤون الزوج، وتقرأ كتاب الله –جل وعلا- وتشتغل بطاعته، فهذه عاطلة عندهم، وعندئذ يخدعونها ويستغفلونها ويستجرون قدمها حتى تخرج، فإذا خرجت حصلوا بغيتهم ومقصودهم بإفسادها، وإذا فسدت المرأة فسد المجتمع، نعم، ثقوا أنه إذا فسد النساء فسد الرجال، إلا من رحم الله وعصم، وهذا أمر مشاهد في العالم.

وأمر آخر مشاهد يرد به على هؤلاء الأفاكين الكذابين، وهو أن بلاد المسلمين قد مرت بمثل ما تمر به بلادنا هذه قبل أكثر من مائة سنة، مروا بنفس الخطوات، وقام دعاة إلى أبواب جهنم، يرددون نفس الكلام، الذي يردده بعض الكُتَّاب في أيامنا هذه، فخرجت المرأة من قرارها وعفتها وحشمتها، وصارت تعمل في كل مكان صارت تعمل في كل مكان بلا استثناء، فهل تحضرت تلك الشعوب الإسلامية؟ هل صارت تلك الدول العربية في مصاف الدول المتقدمة؟

لقد أظهرت الإحصائيات ما يندى له الجبين حيث إن مستوى الاقتصاد لهذه الدول مجتمعة لا يعادل دولة أوربية واحدة ليست من الدول الكبرى وهي إسبانيا، الإنتاج المحلي لا يعادل دولة واحدة من دول أوربا، دول مجتمعة، يجمعها لغة واحدة ودين واحد، وعقيدة واحدة، لا تعادل دولة من دول أوربا، وليست الدول الكبرى.

النساء خرجن في الدول العربية منذ أكثر من مائة سنة، وأصبحن جدات -أعني أولئك المتبرجات- وصارت الواحدة تعمل في كل عمل مهين مشين، فهل صاروا في مصاف الدول المتقدمة؟ أبدًا، هل انتهت مشكلة البطالة عندهم؟ أبدًا، إنما يجمعهم وصف واحد في نظر عدوهم، بل هم يرددون هذه العبارة: العالم الثالث، العالم المتخلف.

الله عز وجل يقول: {وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب من الآية:33]: أمرهن بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، لماذا خص الصلاة والزكاة؟

يمكن أن يقال والله تعالى أعلم: إن الصلاة هي رأس العبادات البدنية، والزكاة هي رأس العبادات المالية، ويمكن أن يقال: إن سعادة العبد دائرة بين أمرين: الأول: حسن الصلة بالله عز وجل والثاني: الإحسان إلى الخلق، ورأس الصلة بالله، وحسن الصلة بالله هو الصلاة، ورأس الصلة بالخلق والإحسان إلى الخلق هو الزكاة، أن يحسن الإنسان إليهم بماله.

{وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ}: انظر كيف عبر الله عز وجل -كما هي العادة في القرآن-: {وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ}، ما قال: (وأدين الصلاة)، وهذا فيه جواب كبير لسؤال يطرح دائمًا، ولربما نسمع إجابات بعيدة، لربما نسمع من يقول: بأن الصلوات كالدواء إذا أخذت في أوقاتها أدت الثمرة ولو بعد حين.

نقول: لا حاجة لهذا الكلام؛ الله قال: {وَأَقِمْنَ}، والحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، الحكم في قول لله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت من الآية:45]، أي: لأن الصلاة تنهى؛ لأن (إنَّ) تدل على التعليل، أقم الصلاة؛ لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، الحكم أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، والوصف إقام الصلاة، والحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، معنى هذا الكلام أنه على قدر أداء الصلاة -على قدر إقامة الصلاة- يكون تأثيرها في نفس المصلي، هذا هو الجواب، والله تعالى أعلم.

هنا الله عز وجل قال: {وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ} [الأحزاب من الآية:33]: فإذا أقامت المرأة الصلاة ما الذي يحصل؟ صار بقاؤها في بيتها خيرًا لها؛ لأن إقامة الصلاة تنهاها عن الفحشاء والمنكر، فلا تدخل في حال أو تلابس أمرًا لا يليق، لا تمتد يدها إلى الهاتف فتحادث محادثة محرمة، لا تخضع بالقول في الرد على الهاتف، لا تستخدم هذه الشبكة استخدامًا غير لائق، لا تغتاب أحدًا في بيتها، لا تكذب، لا تخون زوجها، لا تفعل شيئًا يشينها مما حرمه الله عز وجل عليها، كل ذلك يحصل إن تحقق إقامة الصلاة.

{وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ} [الأحزاب من الآية:33]: {وَآتِينَ الزَّكَاةَ}: هذا فيه وعد، وفيه بشرى لهن في ذلك الوقت؛ لأنهن فقيرات آنذاك يطالبن بزيادة النفقة، فأي زكاة تؤدى؟! فهذا يدل على أن الله سيوسع عليهن حتى يخرجن الزكاة.

ثم بعدما خص إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وهي من طاعة الله ورسوله، عمم بالأمر بطاعة الله ورسوله فقال: {وَأَطِعْنَ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب من الآية:33]: بالقرار في البيت، بالحشمة، بحفظ حدود الله عز وجل بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وحفظ شرائع الإسلام، كل هذا داخل في طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ثم علل تلك التوجيهات فقال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب من الآية:33]: كل ذلك، كل هذه التوجيهات، حصرها بهذه العلة، والحصر بـ(إنما) يعد من أقوى صيغ الحصر، {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ}: والرجس: هو كل قذر ودنس وأذى من القذر المعنوي والقذر الحسي، كل دنس أراد الله عز وجل أن ينزه بيت نبيه صلى الله عليه وسلم عنه، كل ما يدنس الفضيلة، كل ما يدنس الشرف، كل ما يدنس الدين، كل ما يدنس الأخلاق أراد الله أن يذهبه عن أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أرفع البيوت.

فمن أراد أن يعرف الحصانة التي يمكن أن تحصن بها المجتمعات الإسلامية، من أراد أن يعرف السياج الحقيقي المتين الذي يمكن أن تحفظ به المرأة المسلمة والأسرة المسلمة، فهو فيما ذكر الله عز وجل وهو اللطيف الخبير يكون بذلك، بقرار النساء في البيوت، واشتغالهن بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا احتاجت إلى خروج أو إلى محادثة للرجال، فإن ذلك يكون على قدر الحاجة، بأقصر عبارة، وبأحسن أداء مما لا يعيبها ولا يقدح في حيائها وحشمتها وعرضها وشرفها.

هذه زوج إبراهيم صلى الله عليه وسلم ماذا قالت حينما بشرها الملائكة بالولد؟ عبرت بلفظتين اثنتين قالت: {عَجُوزٌ عَقِيمٌ} [الذاريات من الآية:29]: ذكرت علتين الواحدة منهن تكفي لمنع الإنجاب، الأولى الكبر حيث ينقطع رجاء المرأة من الإنجاب، والثانية العقم، {قَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ}، فما تكلمت بكلام طويل كثير، وهكذا أدب المرأة المسلمة، تختصر في الكلام، لا تطيل إذا استفتت في الهاتف، لا تطيل إذا تكلمت مع البائع، لا تطيل إذا احتاجت إلى أن ترد على الهاتف، وإنما تتكلم بالكلام الوجيز المختصر الذي تختار فيه العبارة اللائقة من غير خضوع بالقول.

{لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ}: فإذا حققت المرأة المسلمة هذا المعنى ذهب عنها الرجس والدنس مما يقذر الفضيلة وما يقذر الشرف والطهر، كل ذلك يذهب عنها إذا تخلقت بأخلاق القرآن، وتحلت بهذه الآداب التي أدبها الله تبارك وتعالى بها.

هذا أمر مقرر في كتاب الله عز وجل لا مرية فيه، فليس من بنات أفكار البشر، وليس من اجتهاداتهم، ولا قول لأحد مع الله عز وجل {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّـهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور من الآية:51]، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّـهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب من الآية:36]. فلا تثبت قدم الإسلام إلا على قاعدة التسليم لأحكام الله عز وجل.

من تأمل النصوص في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يخرج بنتيجة لا شك فيها أن من مقاصد الشارع في تربية المرأة المسلمة أن تبتعد عن مواطن الرجال أعظم ابتعاد؛ لأنه كلما كانت المرأة أبعد عن مواطن الرجال فهو خير لها.

صلاة المرأة في بيتها خير لها من المسجد:

ما هي أشرف البقاع وما هي أحب البقاع إلى الله عز وجل وما هي أبغض البقاع إلى الله التي يغرز الشيطان فيها رايته؟

أحب البقاع إلى الله المساجد، وأبغض البقاع إلى الله الأسواق[2]، وهي التي يغرز الشيطان فيها رايته، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم[3]، ولذلك فإن الشارع قصد إبعاد المرأة المسلمة عن مواطن الرجال حتى ولو كانت تلك الأماكن مساجد الله، فضلًا عن أن تكون أسواقًا يجتمع فيها الناس لأمورهم الدنيوية، ومن النصوص الدالة على ذلك ما أخرج الإمام أحمد وابن خزيمة وابن حبان بإسناد حسن من حديث أم حميد امرأة أبي حميد الساعدي -رضي الله عنها- أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: "يا رسول الله، إني أحب الصلاة معك"، امرأة أبي حميد في زمن الصحابة كيف تتخيل -يا عبد الله- أن تخرج هذه المرأة وغيرها من نساء الصحابة للصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد النبوي؟ ما ذلك اللباس الذي تلبسه؟ ما مقدار الحشمة التي تتحلى بها مثل تلك الصحابية رضي الله تعالى عنها؟

قالت: "إني أحب الصلاة معك"، تريد أن تخرج لأحب البقاع إلى الله عز وجل فماذا كان الجواب؟ قال: «قَدْ علِمْتُ أنَّكِ تُحِبِّينَ الصلاةَ معي»، إنها ما خرجت لتتلذذ بصوت الإمام الجميل، وما خرجت لتتعرض للرجال، وما خرجت للفرجة لترى الزحام، وما خرجت لتخرج مما تسميه كثير من النساء اليوم كبتًا في البيت.

قال: «قَدْ علِمْتُ أنَّكِ تُحِبِّينَ الصلاةَ معي»، لكن قال لها صلى الله عليه وسلم: «وصلاتُك في دارِك خيرٌ مِن صلاتِك في مسجدِ قومِك وصلاتُك في مسجدِ قومِك خيرٌ مِن صلاتِك في مسجدي»[4].

صلاتها في البيت أفضل من الصلاة في مسجد الحي، وصلاتها في مسجد الحي أفضل من صلاتها في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في المسجد الحرام خلف النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الزمان، فأمَرَت فبُني لها مسجدٌ في أقصى شيءٍ مِن بيتِها وأظلَمِه وكانت تُصلِّي فيه حتى لقيَتِ الله عز وجل[5].

وأخرج أحمد والطبراني في الكبير وابن خزيمة في صحيحه والحاكم من حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خيرُ مساجدِ النِّساءِ قَعرُ بيوتِهِنَّ»[6].

وأخرج عنها الطبراني في الأوسط بإسناد حسن أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صَلاةُ المرأةِ في بيتِها خيرٌ مِن صلاتِها في حُجرتِها، وصلاتُها في حُجرتِها خيرٌ من صلاتِها في دارِها، وصلاتُها في دارِها خيرٌ من صلاتِها خارجٌ»[7].

وعند أبي داود بإسناد صحيح من حديث ابن عمر مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تَمنَعوا نساءَكُمُ المساجِدَ وبيوتُهنَّ خيرٌ لَهُنَّ»[8].

وعند الطبراني في الأوسط بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المرأةُ عَورةٌ»[9]: المرأة عورة ولو خرجت متحجبة، فأين الذين يقولون: ما المانع أن تخرج الداعيات عبر القنوات الفضائية لتقدم بعض البرامج الدعوية؟ أين الذين يقولون: ما المانع أن نوجد قناة للمرأة تخرج فيها المرأة الداعية وتوصل صوتها ليسمعها العالم، بدلًا من أن يتكلم أولئك المضلات الفاتنات المفتونات؟!

نقول: المرأة عورة، وينبغي أن نفقه هنا معنى كلمة عورة، العورة كل شيء يحتاط له، ويحترز له، ويتخوف من ناحيته.

فالعورة تطلق بإطلاقات متعددة يجمعها هذا المعنى، فالمرأة يتخوف عليها ويحتاط لها، والشارع قصد الاحتراز للمرأة وحفظها وصيانتها، فكيف يقال: تخرج في القنوات الفضائية بحجة أن صوت المرأة ليس بعورة؟

نقول: ماذا تقصد بقولك أن صوت المرأة ليس بعورة؟ هل تقصد أنه يحرم أن يسمعها الرجل، لا يحرم أن يسمعها الرجل بدليل هذه الآيات: {وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} [الأحزاب من الآية:32]، لكن إذا قيل: صوت المرأة عورة بمعنى أنه يحتاط له، فهذا صحيح، فكيف يطالب أن تلقي محاضرات يسمعها الرجال؟ والرجل إذا سمع صوت المرأة تحركت نفسه؛ لأنها -ولا بد- محلٌ ركبها الله عز وجل تركيبًا يميل الرجل إليه ميلًا طبيعيًا، والعكس صحيح.

فأقول: النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «المرأةُ عورةٌ، فإذا خرَجَتْ اسْتَشْرَفَها الشيطانُ»[10]: ما معنى استشرفها الشيطان؟: هل المعنى أنه هم بها، وأغرى بها؟ أم أنه حرك النفوس المريضة لأولئك الذين تمتد أنظارهم إلى النساء الذين إذا رأوا امرأة أو سوادًا من بعيد التفتوا يغريهم الشيطان، فينظرون إليها ولو كانت محجبة، لذلك ليس للمرأة أفضل من دارها حيث لا ينظر إليها الرجال ولا تمتد إليها نفوسهم.

يقول عليه الصلاة والسلام: «وإنَّها إذا خرَجتْ استشرَفها الشَّيطانُ وإنها لا تكونُ أقربُ إلى اللهِ منها في قعرِ بيتِها»[11].

وفي حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما صلَّتِ امرأَةٌ صلاةً أحبَّ إلى اللهِ مِن أشدِّ مكانٍ في بَيتِها ظُلمةً»[12]، فكيف بخروجها تبيع في الأسواق؟

الصلاة في أكثر مكان في بيتها ظلمة، كيف تكون بائعة؟ كيف تشتغل في الشركة؟ كيف تشتغل في المستشفى؟ كيف تكون مقدمة برامج؟

وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أيضًا: "النساء عورة، وإن المرأة لتخرج من بيتها وما بها بأس فيستشرفها الشيطان، فيقول: إنك لا تمرين بأحد إلا أعجبته، وإن المرأة لتلبس ثيابها، فيقال: أين تريدين؟ فتقول: أعود مريضًا، أو أشهد جنازة، أو أصلي في مسجد، وما عبدت امرأة ربها مثل أن تعبده في بيتها"[13] وإسناده حسن عند الطبراني.

وثبت عنه مرفوعًا كما عند أبي داود وابن خزيمة: «صلاةُ المرأةِ في بيتِها أفضلُ مِن صلاتِها في حُجرتِها، وصلاتُها في مَخدَعِها أفضلُ مِن صلاتِها في بيتِها»[14].

صلاتها في مَخدعها ويقال: مُخدَعها، ما المراد به؟

البيوت قديمًا كانت غرفة المرأة فيها غرفة صغيرة يوضع فيها نفيس المتاع، فهذا هو مخدعها، بمعنى أنها تصلي في غرفة بداخل غرفتها، فهذا أفضل من صلاتها في بيتها، والمراد بـ(بيتها) في هذا الحديث -والله أعلم- أي في غرفتها -ما نسميه اليوم غرفة المرأة- فصلاتها في ذلك المكان في داخل الغرفة أفضل من صلاتها في الغرفة التي في بيتها.

«صلاةُ المرأةِ في بيتِها أفضلُ مِن صلاتِها في حُجرتِها»: والمراد بالحجرة في الحديث -والله تعالى أعلم- ما نسميه اليوم بالصالة، وهو المكان الذي تطل عليه الأبواب أي أبواب الغرف.

فالمقصود أن المراتب بهذا الشكل، صلاتها في تلك الغرفة التي داخل غرفتها، أفضل من صلاتها في غرفتها -التي هي بيتها هنا- وصلاتها في غرفتها -أي في بيتها- أفضل من صلاتها في حجرتها –أي في الصالة- «وصلاتُها في حُجرتِها خيرٌ من صلاتِها في دارِها»: والمقصود بدارها يعني في البيت والذي نسميه الآن المنزل فنائه وبنائه، كل ذلك يقال له: دار، فانظر هذا التقسيم داخل المنزل، كم هي مراتبه؟

مخدعها وبيتها وحجرتها ودراها، أربع مراتب في المنزل، ثم يلي ذلك مسجد الحي، ثم يلي ذلك جامع الحي، ثم يلي ذلك الصلاة في المسجد الحرام أو مع النبي عليه الصلاة والسلام هذا في عبادة، فكيف إذا كان الخروج للأسواق أو للمنتزهات التي فيها الاختلاط والسفور وألوان الردى تتبعها أنظار من لا يخافون الله عز وجل ولا يتقونه يتمتعون بالنظر إليها، وهذا الذي قصده الشارع في تربية المرأة المسلمة.

وقد رأى ابن مسعود رضي الله تعالى عنه النساء في المسجد الجامع، فكان يخرجهن من المسجد يوم الجمعة، ويقول: "اخرجن إلى بيوتكن خير لكن"[15] وعلى كل حال فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن منع النساء من شهود الصلاة في المساجد.

وفي زماننا قد تحتاج المرأة المسلمة فيه إلى حضور مجالس الخير والذكر والعلم، وألوان من الأنشطة الموثوقة الطيبة، ولا بأس إذا كانت المرأة فقيرة أو محتاجة أن تعمل، وإلا فالأصل أن تعطى من بيت مال المسلمين ما يكفيها، وخاصة إذا كانت أرملة فقيرة فينبغي أن تكفى فلا تحتاج إلى الخروج؛ لكن ما هي نسبة هؤلاء بالنسبة إلى عموم النساء؟

لا شك أنهن قلة، لذلك لا داعي لأن تخرج الغنية والفقيرة من النساء للبحث عن الأعمال بطريقة مسعورة، حتى صارت النظرة إلى المرأة التي لا تعمل نظرة انتقاص؛ وهذا انتكاس في المفاهيم والعياذ بالله.

إن المرأة التي تحتاج إلى العمل لا مانع أن تعمل بحشمة فيما يلائمها، فتكتسب إن لم يوجد من يعولها؛ لكن للأسف الشديد من الذي أصبح يتنافس على الوظائف من النساء؟

الأغنياء منهن ذلك أنك تجد المرأة غنية، وأهلها أغنياء، وتجد أنها تذهب إلى عملها ربما مئات الأميال أحيانًا عن بيتها مع سائق، ولربما في أماكن داخل الصحراء تتعرض للأخطار والحوادث وهي غنية، بل لربما كان أهلها من الأثرياء، ومع ذلك فهي تحتج أنها درست سبع عشرة سنة، ثم تبقى في بيتها، وهذا لا يليق ولا يصح من وجهة نظرها!

لا بأس إن كان لديها فضل وقت فتذهب مع الأخوات الصالحات في أنشطة تبني ولا تهدم، فهكذا علمنا القرآن، وهكذا أدبنا القرآن، ونحن يجب علينا أن نستجيب لأمر الله عز وجل؛ لأن هذا هو مقتضى الإيمان. والنبي صلى الله عليه وسلم ماذا قال لأزواجه في حجته -حجة الوداع- قال: «هذِه ثمَّ ظُهورَ الحُصرِ»[16]: ما معنى هذه ثم ظهور الحصر؟ المعنى أي والزمن الحصير ملازمة، بمعنى أنها لا تخرج لا لحج ولا لعمرة، ولا لغيره.

وقد قيل لسودة رضي الله عنها لم لا تحجين ولا تعتمرين كما يفعل أخواتك؟ فقالت: "قد حججت واعتمرت، وأمرني الله أن أقر في بيتي، فوالله لا أخرج من بيتي حتى أموت"، يقول الراوي: "فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت جنازتها": هؤلاء أمهات المؤمنين المستجيبات لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

ليس على النساء غضاضة في أن تكون مكفية، بل هذا هو منتهى الإكرام للمرأة، والعرب في أشعارهم يمدحون المرأة التي يسمونها نؤوم الضحى؛ لأنها امرأة مترفة في نظرهم، ويوصفون المرأة بأنها لم ترها الشمس، ويضربون المثل للحياء الشديد بالعذراء في خدرها، ما رآها رجل، وما رأت رجلًا، وما كلمت رجلًا أجنبيًا، تكون درة مصونة محفوظة لا يتمتع بالنظر إليها كل آسر وكاسر.

إن العاقل من وعظ بغيره، انظروا إلى العالم من حولكم، الذين يكتبون في الصحف ويطالبون ويقولون: إن قيادة المرأة للسيارة يغنيها عن مآسٍ كثيرة، فلا تحتاج إلى السائق، وهذا له تكاليف باهظة.. الخ، وهذا كذب؛ ففي البلاد التي من حولنا صار النساء يقدن السيارات أليس كذلك؟ هل استغنوا عن السائقين؟

أبدًا، وإنما كانت النتائج عكسية، حينما يقولون: إن خروج المرأة ينعش الاقتصاد، إذا خرجت للعمل، والحقيقة أن الإحصاءات العالمية التي أخرجتها الأمم المتحدة أثبتوا أن المجتمعات التي تعمل فيها النساء أجيرات يكلف اقتصاد تلك البلاد ما يقارب ثلاثين بالمائة يكون عبئًا على الاقتصاد.

الذين يقولون: إن التقدم لا يمكن إلا بخروج المرأة تعمل جنبًا إلى جنب مع الرجل، وخرجت تلك النساء، هل صاروا في مصاف الدول المتقدمة؟ هل صاروا من الأمم المتحضرة؟ أبدًا.

النساء التي خرجن وزاحمن الرجال في كل مكان، هل حصلن الرفعة والشرف والمكانة، أم أن الواحدة منهن تقول: ارجعوني إلى أنوثتي، ارجعوني إلى بيتي، أريد أن أكون ملكة كملكات الشرق -تعني المرأة المسلمة- أليس كذلك؟
ألم تصبح المرأة في مجتمعاتهم سلعة يعبث بها الرجال، وتشعر أنها مهددة في كل لحظة ولا تشعر بالأمان، وتبحث عن رجل يأخذ عفتها وشرفها ويستمتع بها، ثم يلفظها ثم يكون ملجؤها إذا ذهب جمالها وشبابها إلى دور العجزة، أليس هذا هو واقع النساء هناك؟

المرأة عندنا يقوم على شؤونها أبوها وأخوها ووليها ومحرمها، وينفق عليها وجوبًا ويحفظها، ويوفر لها ما تحتاج إليه بكل احترام وتقدير؛ فهي أمنا أو أختنا أو زوجتنا أو قريبتنا، هكذا تمثل المرأة، فنحن نحترمها غاية الاحترام؛ لأنها تمثل لنا هذه الوشيجة، وهذا أمر ينبغي أن نفهمه جيدًا؛ لئلا نخدع، لئلا تستزل قدم بعد ثبوتها، ثم نندم، ولا ينفع الندم عندئذ.

 

ثم يقول الله عز وجل: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّـهِ وَالْحِكْمَةِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب:34]: هذا ما تشتغل به المرأة المسلمة في بيتها، إقام الصلاة إيتاء الزكاة، طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ}: اذكرن بقلوبكن، واذكرن بألسنتكن بالتلاوة، واذكرن -أيضًا- بالحال والفعل والعمل بالقيام بوظائف العبودية، فكل هذا من الذكر.

{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ}: ولم يقل: ما يتلوه جبريل صلى الله عليه وسلم أو ما تتلوه الواحدة منكن، أو ما يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليعم ذلك جميعًا.

{مَا يُتْلَىٰ}: وما قال: ما ينزل؛ لأن بعض القرآن نزل في غير بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.

{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّـهِ وَالْحِكْمَةِ}: من القرآن والسنة فتشتغل بذلك تعلمًا وتفهمًا وتدبرًا وتلاوة وحفظًا وعملًا.

{إِنَّ اللَّـهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا}: اللطيف: هو الذي يعلم دقائق الأشياء، فيعلم خلجات النفوس، وما تنطوي عليه القلوب، ويعلم المرأة التي تخضع لأمر الله وتستجيب، والمرأة التي تتمرد وتقول: لماذا تكون المرأة محكومة بهذه الأحكام؟ ويعلم ما تفعله المرأة وهي داخل دارها -في بيتها- من حلال وحرام.

{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّـهِ وَالْحِكْمَةِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا}: والمعنى الآخر للطيف من اللطف، أي أن هذه الأحكام من لطف الله عز وجل ورأفته ورحمته بالمرأة المسلمة؛ لئلا يلحقها العنت، لئلا تشقى.

والخبير: هو الذي يعلم بواطن الأشياء، فالله عز وجل يعلم دقائق الأشياء، ويعلم بواطنها ولا يخفى عليه شيء، فلا يجوز لأحد أن يستدرك على الله عز وجل ويقول: إن هذه الأحكام لا تصلح لهذا القرن في هذا الزمان، أو الزمان قد تغير، أو المرأة ينبغي أن تقتحم جميع المجالات، وتثبت جدارتها ووجودها، والحقيقة والصواب أن تثبت المرأة جدارتها ووجودها بتربية الأجيال.

ثم قال جل وعلا: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّـهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّـهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35]: بدأ بالتدرج من الأدنى إلى الأعلى، الإسلام هو إسلام الظاهر، تلتزم المرأة بالحجاب، تلتزم بالحشمة، تلتزم بشرائع الدين الظاهرة.

{وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}: فيكون ذلك مع خضوع الباطن، وانقياد القلب وتسليمه وإقراره واعتقاده، تكون مقتنعة منقادة بقلبها، لا لأن أباها أو أن زوجها يفرض عليها هذه الأمور، فلا تستطيع أن تتهتك وتلبس عباءة مخصرة، أو تتعرى بصورة من الصور، بل عن قناعة وإيمان تعتز بهذه الأمور.

{وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ}: القنوت بجميع استعمالاته ومعانيه -كما قرر الشيخ تقي الدين ابن تيمية في رسالة مستقلة في معنى القنوت- أن القنوت هو دوام الطاعة، فلا تلتزم بالقفازات والحجاب وأحكام الإسلام أسابيع ثم ترجع عن ذلك، يكون ذلك طفرة، ثم بعد ذلك يحصل لها الضعف والتراجع والانتكاس، بل القنوت هو دوام الطاعة حتى تلقى الله عز وجل، أن تبقى بالحشمة والحجاب والعمل الصالح والإيمان والكف عما لا يليق مما حرمه الله عز وجل وتدوم على ذلك حتى تلقى ربها.

{وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ}: الصدق في الاعتقاد، الصدق صدق الباطن بأن يكون الإنسان على حال مرضية في باطنه، يعتقد الحق ويؤمن به وينقاد له، ويكون الصدق أيضًا بالقول فيتكلم بالحق وينطق به ولا يتكلم بالباطل ويلبس على الناس، أو يعترض على أحكام الله عز وجل بل تلتزم الصدق.

{وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ}: ويكون الصدق أيضًا بالعمل والظاهر، فلا تظهر عملًا باطنها يخالفه، ويكون الصدق بالحال فلا تكون في حال غير متوافقة مع مكنونات نفسها.
{وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ}: صدق الحال، وصدق المقال، وصدق العمل، وصدق الظاهر، وصدق الباطن، كل هذا من الصدق.

{وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ}: هذه الأمور تحتاج إلى صبر، تحتاج إلى صبر في سماعها؛ لأن النفوس قد مزجت فيها الأهواء وركبت معها تركيبًا يمازجها.

والشريعة كما قال الشاطبي رحمه الله: "قد وضعت على خلاف وزان داعية الهوى"، فالهوى يجلبك من جهة، والشريعة تريد أن ترفعك من الهوى، فسماع الحق أحيانًا يتأذى منه الإنسان، المرأة التي عندها هوى حينما تسمع هذه القضايا والأحكام تتأذى وتتألم كأنها سهام توجه إليها.

إن الإنسان يحتاج إلى صبر لتفهم هذه الأمور، ويحتاج إلى صبر في العمل والتطبيق؛ لأنه يعاب وينتقد وينتقص ويذم ويجد من يحرضه إلى الباطل والمنكر، والنفس تدعوه إلى الإخلاد إلى الشهوات والراحة والدعة، فيحتاج إلى صبر على طاعة الله عز وجل ويحتاج إلى صبر عن معصيته.

{وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ}: والخشوع يكون بالتذلل والخضوع والاستكانة لله رب العالمين، كل هذا بالتدرج، والإنسان لا يصل إلى مرتبة الخشوع إلا إذا ارتاض باطنه بالإيمان، وأصبح مطوعًا لنفسه بألوان المجاهدات، كما قال بعض السلف: "كابدت الصلاة عشرين سنة، وتلذذت بها عشرين سنة"، وآخر يقول: "كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت لي"، فالقضية تحتاج إلى مزيد من بذل الجهد، فكلما تزداد مجاهدة كلما تتمكن من النفس، فإذا استقامت النفس وخضعت حصل الخشوع، فإذا رأيته ذكرت الله عز وجل وإذا وقعت عينك عليه أحببته، وهذه مراتب عالية في الإيمان.

ثم بعد ذلك يبرهن على إيمانه، {وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ}: كلمة صدق تدل على قوة وثبوت في الشيء، الصداق -صداق المرأة- لماذا قيل له صداق؟ لأنه حق ثابت لها، الصدقة لماذا قيل لها: صدقة؟

النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «والصَّدَقةُ برْهانٌ»[17]: أي تبرهن على صدق دعوى الإيمان، كما أن بذل النفس في سبيل الله عز وجل يقال له: شهادة، المال حبيب إلى النفوس، وإخراجه يحتاج إلى مجاهدة:

لَوْلا المَشَقّةُ سَادَ النّاسُ كُلُّهُمُ *** ألجُودُ يُفْقِرُ وَالإقدامُ قَتّالُ

{وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ}: والصوم والصبر متلازمان، وهو عبادة لا يطلع عليها أحد، فلا يدخلها الرياء، إلا إذا تصنع أمرًا ظاهرًا صحبه، ولذلك كان من شرف الصوم أنه لا يدخله الريا، وهكذا الأعمال القلبية أيضًا، لا يدخلها الريا؛ لأن الريا متعلق بالنظر والرؤية، لكن يدخله السمعة، يتحدث أنه صام.

والله يقول: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر من الآية:10]: والله يعطي الصائم أجره غير منقوص كما في الحديث القدسي: «إلَّا الصَّومَ، فإنَّهُ لي وأَنا أجزي بِه»[18].

{وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ}: انظر إلى هذا الترتيب كيف ذكر الصوم والصبر والخشوع، ثم ذكر حفظ الفرج، من كان بهذه المثابة فهل يقارف ما لا يليق؟ أبدًا.

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يا معشرَ الشبابِ، مَن استطاع منكم الباءةَ فلْيَتَزَوَّجْ، ومَن لم يَسْتَطِعْ فعليه بالصومِ فإنه له وجاءٌ»[19]: فالصوم والمقصود إكثاره وإدمانه -كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله- يورث كسر الشهوة، وهو كسر مؤقت، يورث كسر الشهوة إذا داوم الإنسان عليه وأكثر منه، وأدمن على الصيام، لا من يصوم يوم ويفطر أسبوع، هذا قد لا يؤثر فيه كسر هذه الشهوة.

{وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ}: يحفظ فرجه عن مقارفة ما لا يليق، كما قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ . إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ . فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5-7]: كل مقارفة ببذل الشهوة في غير الزوجة وملك اليمين فهي محرمة، سواء كانت بالزنا أو ما دونه بنص كتاب الله عز وجل.

وحفظ الفرج يشمل حفظ العورات، فلا تبدى أمام الناظرين، كما قال الله عز وجل في سورة النور: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور من الآية:30]: والذي عليه عامة المفسرين، وهو قول كبير المفسرين -ابن جرير الطبري رحمه الله والآية تشمل المعنيين والله أعلم- أن قوله في سورة النور: {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}: أي عن إبدائها للأنظار، يغضوا من أبصارهم فلا ينظرون إلى عورات الآخرين، ويحفظوا فروجهم فلا يبدونها للناظرين، ويشمل حفظها أيضًا عما لا يليق من مقارفة ما لا يحل. {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ}: حفظها بسترها وحفظها عن المقارفة المحرمة.

{وَالذَّاكِرِينَ اللَّـهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّـهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}: لا توجد عبادة في كتاب الله عز وجل قرنت بالكثرة كالذكر، {اذْكُرُوا اللَّـهَ ذِكْرًا كَثِيرًا . وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب من الآيتين:41-42] {فَاذْكُرُوا اللَّـهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ} [النساء من الآية:103]، لماذا؟

لأن الذكر خفيف على اللسان، لا يحتاج إلى هيئة معينة أن تذكر وأنت قائم أو مستقبل القبلة أو قاعد، وأنت قائم وأنت على جنب بل في كل الأحوال، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحواله صلى الله عليه وسلم[20].

فذكر الله لا يتطلب مشقة، وله أجر عظيم عند الله عز وجل ولهذا إذا أمر الله به غالبًا يقرنه بالكثرة، فهنا قال: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا: ووصف المنافقين بأنهم لا يذكرون الله إلا قليلًا، وذكر الله الكثير يشمل ذكره باللسان، وذكره بالقلب بطرح الغفلة، فلا يكون غافلًا مضيعًا مفرطًا، ويشمل ذكره أيضًا بالعمل، وهو من أجلِّ الذكر بالقيام والقعود في طاعة الله عز وجل والمشي إلى المساجد وما إلى ذلك، ويشمل ذكره بالحال، كل هذا من ذكره تبارك وتعالى.

{وَالذَّاكِرِينَ اللَّـهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّـهُ}: هذه اللفظة أَعَدَّ تدل على عناية بالمعَدّ، أعد الله لهم ماذا؟

{مَّغْفِرَةً}: ونكَّرها هنا، تعظيمًا لها، فإن التنكير يأتي في كثير من الأحيان للتعظيم، مغفرة: أي عظيمة، وإذا قلت: رب اغفر لي فا المراد؟

هذا يشمل شيئين اثنين الأول: الستر، والثاني: الوقاية، ومنه المغفر الذي يضعه المقاتل من الحديد فوق رأسه كالقبعة؛ لأنه يقيه ضرب الحديد ويستر رأسه، أي يغطيه، فأنت إذا قلت: يا رب اغفر لي، اللهم اغفر لي، فأنت تسأل شيئين اثنين: الأول: أن تستر فلا تفتضح، أي يسترك الله في الدنيا والآخرة، والأمر الثاني: وهو أن يقيك الله عز وجل التبعة -تبعة الذنب والمعصية- فلا تؤاخذ بها، فالستر والوقاية، أن توقى شؤم الذنوب وتبعات المعاصي والمخالفات.

والأجر العظيم كما أخبر الله عز وجل أنه يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وقد دل على ذلك نصوص كثيرة من كتاب الله عز وجل.

والكلام في هذه الآيات كلام يطول به المجلس، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق، وكان المقصود هو المذاكرة والعيش مع كتاب الله عز وجل في هذا الوقت الذي نحتاج فيه إلى مثل هذه الذكرى، فأسأل الله عز وجل أن يغفر لي ولكم أجمعين...

_____________________

[1]- رواه ابن حبان في صحيحه؛ برقم: [5601] [12/415]، والبيهقي في (شعب الإيمان) برقم: [7823] [6/174]، وحسنه الألباني في (صحيح الجامع) برقم: [5425].

[2]- ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ: «أحبُّ البلادِ إلى اللهِ مساجدُها . وأبغضُ البلادِ إلى اللهِ أسواقُها» انظر (صحيح مسلم)؛ رقم: [671]، باب: فضل الجلوس في مصلاه بعد الصبح وفضل المساجد [1/463].

[3]- صحيح مسلم: [2451] باب من فضائل أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها [4/1906].

[4]- أخرجه أحمد [27135] [6/371]، وابن خزيمة [1689] [3/95]، ابن حبان [2217] [5/595] وقال الألباني: "حسن لغيره"، انظر (صحيح الترغيب والترهيب) [340] [1/ 82].

[5]- المصدر السابق نفسه.

[6]- أخرجه أحمد [26584] [6/297]، وابن خزيمة [1683] [3/92]، والحاكم [756] [1/327]، والطبراني في الكبير [709] [23/313]، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم: [3327].

[7]- أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط [9101] [9/48]، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم [342] إلا أنه قال في آخره: «وصلاتها في دراها خير من صلاتها في مسجد قومها».

[8]- أخرجه أبو داود في باب ما جاء في خروج النساء إلى المسجد [567] [1/210]، وصححه الألباني في تحقيق سنن أبي داود [530].

[9]- أخرجه الترمذي [1173] باب ما جاء في كراهية الدخول على المغيبات [3/473]، والطبراني في الأوسط [8096] [8/101]، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم [6690].

[10]- المصدر السابق نفسه.

[11]- أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط بهذا اللفظ [8096] [8/101]، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم [2688].

[12]- أخرجه البيهقي في الكبرى [5145] [3/131]، وذكره الألباني في ضعيف الجامع برقم [11872].

[13]- أخرجه الطبراني في المعجم الكبير [8914] [9/185]، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب؛ ج: [1] ص: [84]: "صحيح موقوف".

14- أخرجه أبو داود[570] باب ما جاء في خروج النساء إلى المسجد - باب التشديد في ذلك [1/211]، وصححه الألباني في صحيح الجامع [3833].

15- أخرجه الطبراني في الكبير برقم [9475] [9/294]/ وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب [349] [1/84]: "صحيح لغيره موقوف".

16- أخرجه أبو داود [1722] في كتاب المناسك باب فرض الحج [1/538]، وأحمد [9764] [2/446]، وابن حبان [3706] [9/20]، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم:[7008].

17- أخرجه مسلم [223] في كتاب الطهارة باب فضل الوضوء[1/203].

18- أخرجه البخاري [1805] في كتاب الصوم باب: هل يقول إني صائم إذا شتم [2/673]، ومسلم [1151] في كتاب الصيام باب فضل الصيام [2/806].

19- أخرجه البخاري [4779] في كتاب النكاح باب باب من لم يستطع الباءة فليصم [4/1929]، ومسلم [1400] في كتاب النكاح باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنه واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم [2/1016].

20- رواه البخاري معلقًا في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها كتاب الأذان؛ باب هل يتبع المؤذن فاه ههنا وههنا وهل يلتفت في الأذان [1/227].

خالد بن عثمان السبت

أستاذ مشارك في جامعة الإمام عبد الرحمن الفيصل بالدمام قسم التفسير والدراسات القرآنية