وفجأة انقطع الأمل

منذ 2015-10-15

امتد الأمل والتخطيط وفجأة قطع الأجل كل هذا الأمل؛ {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19]. وهكذا انقضت الدنيا وما فيها وانقطت بها الصلة؛ لم يبق إلا العمل.

سأبيع هذا العقار خلال شهر؛ لأشتري مجموعة شقق للأولاد في أماكن عملهم؛ وسأفعل كذا بعد شهرين؛ وسنقوم سوياً بكذا خلال الموسم القريب. امتد الأمل والتخطيط وفجأة قطع الأجل كل هذا الأمل قبل انتهاء الشهر. {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19]. وهكذا انقضت الدنيا وما فيها وانقطت بها الصلة؛ لم يبق إلا العمل.
قال الإمام ابن كثير في تفسيره:
قال الله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]، كما قال في المحتضر: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:85]، يعني ملائكته. وكما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، فالملائكة نزلت بالذكر -وهو القرآن- بإذن الله عز وجل. وكذلك الملائكة أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه بإقدار الله لهم على ذلك، فللملك لمة في الإنسان كما أن للشيطان لمة وكذلك: «إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ» (متفق عليه)، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق؛ ولهذا قال هاهنا: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} يعني : الملكين اللذين يكتبان عمل الإنسان {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} أي: مترصد.

{مَا يَلْفِظُ} أي: ابن آدم {مِن قَوْلٍ} أي: ما يتكلم بكلمة {إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} أي: إلا ولها من يراقبها معتد لذلك يكتبها، لا يترك كلمة ولا حركة، كما قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ؛ كِرَامًا كَاتِبِينَ؛ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10-12].

وقد اختلف العلماء: هل يكتب الملك كل شيء من الكلام؟ وهو قول الحسن وقتادة، أو إنما يكتب ما فيه ثواب وعقاب كما هو قول ابن عباس، على قولين، وظاهر الآية الأول، لعموم قوله: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا محمد بن عمرو بن علقمة الليثي؛ عن أبيه، عن جده علقمة، عن بلال بن الحارث المزني قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه. وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه». قال: فكان علقمة يقول: كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث. (رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه، من حديث محمد بن عمرو به. وقال الترمذي: حسن [ص:399] صحيح. وله شاهد في الصحيح).

وقال الأحنف بن قيس: "صاحب اليمين يكتب الخير، وهو أمير على صاحب الشمال، فإن أصاب العبد خطيئة قال له: أمسك، فإن استغفر الله تعالى نهاه أن يكتبها، وإن أبى كتبها" (رواه ابن أبي حاتم).

وقال الحسن البصري وتلا هذه الآية {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ}: يابن آدم، بسطت لك صحيفة، ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك، والآخر عن شمالك، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن يسارك فيحفظ سيئاتك فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر حتى إذا مت طويت صحيفتك، وجعلت في عنقك معك في قبرك، حتى تخرج يوم القيامة، فعند ذلك يقول: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [ الإسراء:13-14]؛ ثم يقول: عدل - والله - فيك من جعلك حسيب نفسك.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} قال: يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر، حتى إنه ليكتب قوله: " أكلت، شربت، ذهبت، جئت، رأيت"، حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله، فأقر منه ما كان فيه من خير أو شر، وألقى سائره، وذلك قوله: {يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [ الرعد:39]، وذكر عن الإمام أحمد أنه كان يئن في مرضه، فبلغه عن طاوس أنه قال: يكتب الملك كل شيء حتى الأنين. فلم يئن أحمد حتى مات رحمه الله.

وقوله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ}، يقول تعالى: وجاءت - أيها الإنسان - سكرة الموت بالحق، أي: كشفت لك عن اليقين الذي كنت تمتري فيه، {ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} أي: هذا هو الذي كنت تفر منه قد جاءك، فلا محيد ولا مناص، ولا فكاك ولا خلاص.

وقد اختلف المفسرون في المخاطب بقوله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ}، فالصحيح أن المخاطب بذلك الإنسان من حيث هو. وقيل: الكافر، وقيل غير ذلك.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا إبراهيم بن زياد - سبلان - أخبرنا عباد بن عباد عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبيه عن جده علقمة بن وقاص أن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: "حضرت أبي وهو يموت، وأنا جالسة عند رأسه، فأخذته غشية فتمثلت ببيت من الشعر:

من لا يزال دمعه مقنعا *** فإنه لا بد مرة مدقوق

قالت: فرفع رأسه فقال: يا بنية، ليس كذلك ولكن كما قال تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ}

وحدثنا خلف بن هشام؛ حدثنا أبو شهاب [الخياط]، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن البهي قال: لما أن ثقل أبو بكر رضي الله عنه، جاءت عائشة رضي الله عنها، فتمثلت بهذا البيت:

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى *** إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر

فكشف عن وجهه وقال: ليس كذلك، ولكن قولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} وقد أوردت لهذا الأثر طرقا كثيرة في سيرة الصديق عند ذكر وفاته رضي الله عنه.

وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: لما تغشاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول: «سبحان الله ! إن للموت لسكرات» (رواه البخاري ومسلم).

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

أبو الهيثم محمد درويش

دكتوراه المناهج وطرق التدريس في تخصص تكنولوجيا التعليم من كلية التربية بجامعة طنطا بمصر.