أوراق في السيرة و الأخلاق - أبـــو رغــال

منذ 2016-03-09

إن الخيانة متوطنة في المجتمع الإنساني منذ الأزل؛ وقصص اختراقها لنسيج القيم السائدة تملأ رفوف المكتبات. غير أنها لا تكتسي بُعدا ناسفا إلا حين يستمرئها المجتمع؛ فترتخي قبضة الحماية القانونية للنظام الأخلاقي.

وأنت تجدد صلتك بالسيرة النبوية باحثا عما يكتنف أحداثها الكبرى من دقائق وتفاصيل؛ يستحوذ على عقلك وقلبك انطباع سرعان ما يتحول إلى قناعة راسخة؛ بأنك لست أمام كتابة تاريخية وتوثيق لأحداث مضت؛ بل أمام مرآة عاكسة لما يضج به واقعك اليومي من فواجع ومآسي؛ خاصة تلك التي يغذيها الخبث الإنساني.

في خبر أبرهة الحبشي وحملته الخرقاء لهدم الكعبة؛ يطالعنا نموذج للعربي الخائن؛ وللتحاسد القبلي الذي لا يتورع عن تحطيم المقدس للانفراد بأسباب القوة؛ سياسية كانت أو اقتصادية.

والخبر؛ كما أورده ابن هشام في السيرة؛ مفاده أن جيش أبرهة لما بلغ مدينة الطائف خرجت إليه ثقيف بزعامة مسعود بن معتب يعلنون ولاءهم. وغالوا في استعطاف أبرهة فقالوا: أيها الملك؛ إنما نحن عبيدك سامعون مطيعون؛ ليس عندنا لك خلاف وليس بيتنا هذا الذي تريد؛ يعنون بيت اللات؛ إنما تريد البيت الذي بمكة؛ ونحن نبعث معك من يدلك عليه "وكان هذا الدليل هو أبو رغال الذي قادهم إلى المغمس على مشارف مكة؛ وهناك وافت المنية أبا رغال؛ وسخط العرب عليه فاعتادوا رجم قبره!

قيل في تبرير هذا الموقف بأن مرده للتنافس التجاري الذي كان محتدما بين قريش وثقيف؛ وأن هذه الأخيرة كانت تحسد قريشا على مكانتها الاعتبارية في وجدان العرب قاطبة؛ وعلى نفوذها السياسي والاقتصادي. بل إنها عمدت إلى اتخاذ بيت لأعظم أصنامها؛ وهو اللات؛ شبيه ببناء الكعبة!

والحق أن الخيانة خيانات؛ وأن المجتمع العربي آنذاك لم يكن نسيجه الأخلاقي متينا إلى الحد الذي تتورع فيه النفوس عن السطو وانتزاع ما في يد الضعفاء بالقوة أو الحيلة. شاهدنا على ذلك ما تمتع به المصطفى صلى الله عليه وسلم من سجايا وشمائل جعلته محط ثقة ومستودع لأمانات القرشيين وغيرهم حتى لٌقب بالصادق الأمين. إلا أن للخيانة حدا لا يحتمل أي مجتمع إنساني أن تتجاوزه؛ لذا لم يجد العرب؛ وهم الغارقون آنذاك في وحل الوثنية والهبوط الأخلاقي؛ للتعبير عن سخطهم على خيانة ثقيف سوى أن يرجموا قبر دليلها المشؤوم!

واليوم يطل علينا أبو رغال بسيرته البشعة ليحل في ذوات تحابي وتهادن أعداءها بالتطوع لهدم أسس دينها؛ وردم ثوابتها وقيمها؛ وتفتيت مقومات هويتها وحضارتها.

يطل علينا في صورة المثقف حين يتخلى عن دوره النبيل ورسالته القيمية التي زعم أنه منذور لأجلها؛ فيسحب روحه الناقدة؛ وقلمه المسائل والمجادل من المعترك ليغازل الانحلال والاستلاب وقبضة الفساد التي تخنق المجتمع المعاصر.

نعم؛ يصبح "رغاليا" حين يعلن اليوم دون مواربة بأن لا محيد عن طرح عباءة الدين والقيم لعبور الفجوة الحضارية التي تفصلنا عن الآخر؛ هناك! وحين ينحاز لمصالحه النفعية فيزكي الأوضاع الشائهة؛ و يغذي الاحتراب الفكري الحاصل بآراء ومواقف تلتبس معها الأفهام ويُمسي الحليم حيران. فلاعجب أن تكون خيانات بعض المثقفين سببا لجمود الثقافة العربية وانكفائها على نفسها بعيدا عن التحولات العميقة التي يشهدها العالم؛ هذه الثقافة التي يشبهها اليوم المفكر العربي الدكتور سيار الجميل برغوة متحركة فوق المياه الراكدة؛ سِمتها: بطء حركة البحث العلمي؛ وضعف الترجمة؛ وجامعات تمنح الشهادات والترقيات كما تمنح الحلوى للأطفال!

ويطل علينا أبو رغال في صورة السياسي حين  يُحيل أفق انتظار المواطن بؤسا ويأسا وضبابا يعيق الفهم والسير. وحين تعوزه الحكمة لتفادي أخطار سياسية فلا يتورع عن إشعال الحرائق في البلد!

إن من يتفحص مفردات الخطاب السياسي الرائج اليوم في بلداننا الإسلامية؛ ويستعرض صيغ التدافع بين الفرقاء يُدرك حجم الهبوط الأخلاقي وارتخاص القول السياسي! فلا مباديء صائنة عن الزيغ؛ ولا قيم مؤطرة للعبة؛ وإنما سعي للتواطؤ والصدام وإفراغ المحاولات الجادة للقلة المُصلحة من بلوغ الهدف الذي يُفترض أن السياسة ترمي إليه؛ وهو خدمة الإنسان وإدارة المجتمع. بل إن بعض الساسة ممن أعياهم نصب الكمائن  لم يخفوا حماسهم لدعوة أبرهة الجديد كي يتدخل في شؤون بلدانهم؛ ويمنحهم بذلك شرف اصطحابهم  أدلاء في مسيرة الهدم الحضاري!

تنتعش "الرغالية " إذن في عالم السياسة حين تتوارى القيم ويخبو أوارها؛ فلا ينفع ذكاء أوثقافة للتقليل من حجم الخسائر.

يقول غوستاف لوبون "يجب ألا ننسى أن حدة الذكاء مهما كثرت والثقافة مهما سمت والرشاقة مهما علت لا تسد فراغا يقع في صفات الخلق الأساسية؛ والصفات الخلقية التي تقوم عليها سيادة الأمة هي ضبط النفس والرزانة وتحمل التبعات والميل إلى الاتحاد والحزم والشجاعة؛ فإذا ضعفت هذه الصفات عجزت الأمة عن سياسة نفسها وعن منع الأمم الأجنبية عن التدخل في شؤونها"(1).

ويطل علينا أبو رغال في صورة الإعلامي حين يسحبه بريق الشهرة بعيدا عما تُلزمه به أخلاق مهنته من تجرد وموضوعية وولاء للحقيقة. فيصبح ديدنه خلط الأوراق والتشكيك في النوايا والمبادرات؛ وتفويت الضمير المهني لمن يدفع أكثر. إن المؤسسة الإعلامية تتقلد اليوم مكانة شبه مقدسة لأن الإعلام لا يقوم بمجرد نقل رسائل لكنه يسهم بشكل جوهري في تكوين الظروف الاجتماعية والأخلاقية والوجدانية لتلقي الرسائل(2) وهنا مكمن الخطورة إذا ما انتعشت الرغالية في نفوس القائمين على الصرح الإعلامي. ولعل الأحداث الجسام التي واكبت الربيع العربي قد حررت أذهان الكثيرين من أكذوبة الحيادية والبعد التحرري للإعلام لنقف؛ وبشكل مأساوي؛ شهودا على واجهة للخيانة والتدليس.

ويطل علينا أبو رغال في صورة العسكري؛ والموظف؛ والفنان؛ ورجل الأعمال ليرسم لوحة قاتمة لما يؤول إليه المجتمع الإنساني حين ينضب في النفوس معين القيم.

إن الخيانة متوطنة في المجتمع الإنساني منذ الأزل؛ وقصص اختراقها لنسيج القيم السائدة تملأ رفوف المكتبات. غير أنها لا تكتسي بُعدا ناسفا إلا حين يستمرئها المجتمع؛ فترتخي قبضة الحماية القانونية للنظام الأخلاقي؛ ويصبح "أبورغال" عنوان حركة حقوق جديدة!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 – غوستاف لوبون: روح السياسة . دار كلمات عربية للترجمة و النشر . القاهرة 2012 . ص 248  

2- ستيفن كولمان – كارين روس: الإعلام و الجمهور . دار الفجر للنشر . القاهرة 2012  ص 81

حميد بن خيبش

كاتب إسلامي

المقال السابق
على تخوم حراء
المقال التالي
عالمية الرسالة في ميزان الاستشراق