الغضب محموده ومذمومه
ونريد في هذه الخطبة -عباد الله- أن نقف، مع هذه الخصلة (الغضب) هذه القوة التي أصل مادتها من النار، هذه الشعلة التي "اقتبست من نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة. فهي مستكنة في طي الفؤاد استكنان الجمر تحت الرماد.. يستخرجه الكبر الدفين في قلب كل جبار عنيد كاستخراج الحجر النار من الحديد، ولذلك نرى المغضب يحمر وجه وتنتفخ أوداجه ويغلي دمه. ولأنها من النار فقد تسلط الشيطان بها على كثير من الناس، وعشش في عقولهم فباض فيها وفرخ وسيطر بها على قلوبهم وإراداتهم؛ حتى صاروا في غضبهم حمقى متهورين وسفهاء طائشين. ينزع بهم عرق الشيطان اللعين.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71]، أما بعد:
فإنّ أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: إن الإنسان معرض للأذى والابتلاء والإساءة والنيل منه ومن عرضه من قبل الآخرين، كما أنه عرضة للأخطار والمهلكات، والاختبار من رب العالمين، إلا أن الله قد منحه قوة يدفع بها هذه الابتلاءات، خاصة الأخيرة منها، وينجوا بها منها، فقد منحه الصبر والرضا بالقدر؛ ليخفف عن نفسه ثقل الابتلاء، ومشقة الأقدار على النفوس، فيعترف لله بما أصاب منه ويعترف أنه ملك له يتصرف فيه كيف يشاء، ولسان حاله:
أما والذى لا خلد إلا لوجهه ومن ليس في العز المنيع له كفو
لئن كان بدء الصبر مرًا مذاقه لقد يجنى من غبه الثمر الحلو
ومنحه الصبر كذلك والحلم والعفو وكظم الغيظ، ليكف عن نفسه أذى السفهاء ويَربى بنفسه عن منازلة الحمى؛
سَكَتُّ عن السفيه فظنَّ أني *** عَيِيتُ عن الجواب وما عييتُ
إذا نطق السفيه فلا تُجبْه *** فخيرٌ من إجابته السكوتُ
فإن أجبتَه فرّجْتَ عنه*** وإن تركتَه كَمَداً يموت
ومنحه الغضب الأنفة الحمية، ليدفع عن نفسه الظلم والضيم، ويجنبها الجور والحيف:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم
ومن يهن يسهل الهوان عليه *** وما لجرح بميت إلام
ونريد في هذه الخطبة -عباد الله- أن نقف، مع هذه الخصلة (الغضب) هذه القوة التي أصل مادتها من النار، هذه الشعلة التي "اقتبست من نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة. فهي مستكنة في طي الفؤاد استكنان الجمر تحت الرماد.. يستخرجه الكبر الدفين في قلب كل جبار عنيد كاستخراج الحجر النار من الحديد، ولذلك نرى المغضب يحمر وجه وتنتفخ أوداجه ويغلي دمه. ولأنها من النار فقد تسلط الشيطان بها على كثير من الناس، وعشش في عقولهم فباض فيها وفرخ وسيطر بها على قلوبهم وإراداتهم؛ حتى صاروا في غضبهم حمقى متهورين وسفهاء طائشين. ينزع بهم عرق الشيطان اللعين.
فمن استفزته منهم نار الغضب فقد قويت فيه قرابة الشيطان حين قال: خلقتني من نار وخلقته من طين. فشأن الطين السكون والوقار وشأن النار الحركة والتلظي والاستعار.
ومن أجل ذلك -عباد الله- صارت هذه الخصلة عند الناس مكروهة، واصطلحوا على قبحها وذمها، وعدوها من مساوئ الأخلاق، وقبيح الخلال، ولكن هل كل غضب مذموم؟ وهل كل حلم ممدوح مطلقاً؟
الجواب: كلا.
فالأذى إذا ما نزل بنا فلا يدفع إلا بالغضب، والشر إذا نالنا لا يدفع إلا بالغضب، وحماية الدين والأعراض والشرف والكرامة لا تدفع إلا بالغضب للحق، فمن فقد قوة الغضب بالكلية، أو ضعفت فيه الحمية فهو ناقص محلول العزم، مفقود الحزم، معدوم الرجولة" (انظر موارد الضمان لعبد العزيز السلمان [4/378]).
بل لقد امتدح الله تعالى الغضب إذا كان من أجل حماية الدين والأعراض والشرف والكرامة، ورداً للباطل، فقد امتدح الله غضب المؤمنين على الكفار فقال تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُم} [الفتح:29].
وقال تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]. وقال تعالى: {وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِين} [التوبة:123]. ومعلوم أن الغلظة على هؤلاء الكفار والمنافق، إنما تنبعث من الغضب عليهم بسبب كفرهم ونفاقهم المؤدين إلى الصد عن سبيل الله.
وقد أمرنا الله جل وعلا بالغضب إذا انتهكت محارم الله، فقال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2].
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى، أو سمع ما يكرهه الله غضب لذلك غضباً يرى أثره على وجهه وقال فيه قوله، دخل صلى الله عليه وسلم مرة بيت عائشة رضي الله عنها فرأى ستراً فيه تصاوير فتلون وجهه وهتكه وقال: « » (رواه البخاري ومسلم).
ولما شُكي إليه الإمام الذي يطيل بالناس في صلاة الفجر حتى يتأخر بعضهم عن الصلاة معه غضب واشتد غضبه، فقام ووعظ الناس، وأمر بالتخفيف، فعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لأتأخر عن الصلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا، قال فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ، فقال: « » (رواه مسلم).
ولما رأى النخامة في قبلة المسجد تغيظ، وتغير وجهه، ثم قام بحك النخامة بيده الشريفة، وقال: «رواه البخاري ومسلم). وقد جاء في صفته صلى الله عليه وسلم أنه ما خير بين أمرين إلا أخذ أيسرهما مالم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله (رواه البخاري ومسلم).
» (عباد الله: إن فقد قوة الغضب عندما تنتهك محارم الله جبن ضعف، يصير المرء به ذليلاً، حقيراً، لا يأنف من العار ولا يهمه، فلا يغضب لشرف ولا يغار لحرمة.
وليس هو من الحلم في شيء، وإنما هو خور وذلة ودياثة، قال صلى الله عليه وسلم: «رواه أحمد).
» قالوا: "وما الديوث يا رسول الله؟" قال: « » (وقال سعد رضي الله عنه: "يا رسول الله لو وجدت مع أهلي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة شهدا؟" فقال صلى الله عليه وسلم: «رواه مسلم).
» فقال: "كلا والذي بعثك بالحق، إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك"، فقال صلى الله عليه وسلم: « » (وإذا لم يغضب الإنسان لعرضه ضاعت الأنساب، واختلطت الأولاد، بل كل أمة تموت الغيرة فيهم لا بد وأن تضيع العفة، والصيانة من نسائهم، وهذا هو الضعف والخور، والعجز والجبن، الذي استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم وكيف لا يذم رجل لا يغضب لدينه إذا رأى المنكرات، وقد أمر بمحاربتها، وكيف يصلح المرء عيوب نفسه إذا لم يغضب عليها، ويشتد في ردها عن هواها (انظر موارد الضمان [4/379]).
أيها المؤمنون:
إن الغضب المحمود أن يكون لله ولدين الله فإذا اعتدي على الإسلام بالطعن والتشهير أو التشكيك فيه، كما يفعل المستشرقون والمستغربون والملحدون، ممن هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، الملبسون على الأغرار، والجهال فيجب أن نغضب انتصاراً لدين الله ودفاعاً عن شرعيته.
وما أكثر هؤلاء في أيامنا هذه، ممن يعتز بهم كثير من الناس:
فإذا أصاخ بسمعة ملؤوه من *** كذب وتلبيس ومن بهتان
فيرى ويسمع فشرهم وفشارهم *** يا محنة العينين والآذان
فتحوا جراب الجهل مع كذب فخذ *** واحمل بلا كيل ولا ميزان
وأتوا إلى قلب المطاع ففتشوا *** عما هناك ليدخلوا بأمان
فإذا بدا غرض لهم دخلوا به *** منه إليه كحيلة الشيطان
فإذا رأوه هش نحو حديثهم *** ظفروا وقالوا ويح آل فلان
هو في الطريق يعوق مولانا *** عن المقصود وهو عدو هذه الشان
فإذا هم غرسوا العداوة واظبوا *** سقي الغراس كفعل ذي البستان
حتى إذا ما أثمرت ودنا لهم *** وقت الجذاذ وصار ذا إمكان
ركبوا على جرد لهم وحمية *** واستنجدوا بعساكر الشيطان
فهنالك ابتليت جنود الله من *** جند اللعين بسائر الألوان
ضرباً وحبساً ثم تكفيرًا *** وتبديعًا وشتمًا ظاهر البهتان
ومن الغضب المحمود الغضب على من تعدى على بلاد إسلامية، أو اعتدى على مسلم، أو مدح غير الدين الإسلامي، أو ذكر الله أو كتابه أو ملائكته أو رسله بسوء، أو سب صحابياً أو إماما مشهوراً بالتقوى والورع والاستقامة، أو طعن في أهل العلم، أو كذب على الله أو على رسله؛ أو أحلّ شيئاً من المحرمات أو حرم شيئاً مما أحله الله، أو استهان بكتاب الله أو سنة رسوله صلى الله وسلم أو كتب أهل العلم المحققين مثل الإمام أحمد والشافعي ومالك وأبي حنيفة والموفق والمجد وابن أبي عمر وشيخ الإٍسلام وابن القيم وابن كثير وابن رجب وابن مفلح ونحـوهـم من العلماء المشهورين بالاستقامة والبعد عن البدع.
ومن الغضب الممدوح الغضب على من مدح الكفرة والمنافقين وأئمة الضلال والحيارى؛ كابن عربي وابن رشد والفارابي وابن سيناء وابن كلاب والعفيف التلمساني، وابن سبعين، وابن الفارض، وابن الرواندي، والكوثري، والبوصيري، والمعري، ونحو هؤلاء من الملاحدة والزنادقة والمبتدعة والفسقة والظلمة وأعوانهم.
ومن الغضب المحمود الغضب على من ابتدع في الدين بدعاً أو نشرها أو دعا إليها، أو مدح محليها، أو مدح الكفار، أو مدح الملاهي والمنكرات التي حطمت الأخلاق وقضت عليها وأتلفت الأموال، وقتلت الأوقات، وأورثت الخلق أفانين العداوات، وأحدثت التفرق في البيوت والقلوب.
إن الملاهي ألقت بيننـا إحناً *** وأورثتنا أفانين العداوات
وهل أصيب شباب اليوم وانحرفوا *** إلا بتقليد أصحـاب الضلالات
من كان أهوج لا دين ولا أدب *** ولا حياء ومعدوم المرؤات
يقلد الكفر في تطويل أظفره *** أقبح به من سفيه عاث
(موارد الظمآن لعبد العزيز السلمان [4/380 – 382])
وعلى هذا النوع من الغضب المحمود يحمل قول الإمام الشافعي رحمه الله: "من استغضب فلم يغضب فهو حمار" (انظر إحياء علوم الدين: [3/247].وشعب الايمان [6/527]).
أيها الناس:
أما الغضب المذموم شرعاً وعقلاً فهو الغضب الطائش الذي فيه حب الانتقام والإعجاب بالنفس، أو من أجل القبيلة والحزب وما أشبه ذلك.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أوصني". قال: «رواه البخاري).
». فردد مراراً. قال: « » (وعن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رجل: "يا رسول الله أوصني"، قال: «أحمد).
». قال الرجل: "ففكرت حين قال النبي صلى الله وسلم ما قال، فإذا الغضب تجمع الشر كله" (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رواه البخاري ومسلم).
» (وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إذا خطب قال في خطبته: « » (انظر جامع العلوم والحكم [1/368]).
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "انظروا إلى حلم الرجل عند غضبه، وأمانته عند طمعه، وما علمك بحلمه إذا لم يغضب، وما علمك بأمانته إذا لم يطمع" (إحياء علوم الدين [3/246]).
وقال ابن القيم رحمه الله: "دخل الناس النار من ثلاثة أبواب: باب شبهـة أورثت شكاً في دين الله، وباب شهوة أورثت تقديم الهوى على طاعته ومرضاته، وباب غضب أورثت العدوان على خلقه" (الفوائد [59]).
أيها المسلمون: فالغضب المذموم هو الذي يعمي صاحبه عن الحق، ويفقده بصره البصيرة، والفكر فتأخذه بالغرة بالإثم، ويعرض عن النصح إذا نصح، وربما زاد هيجاناً، وإذا روجع في قول ازداد سخطاً ومجاجاً. وقد يحدث منه ضرر على من حوله، وتجده متغيراً لونه، مرتعشة أعضاؤه، زائغاً بصره، وكالأعمى يسب الجماد والحيوان، ويبطش بكل ما يصادفه، حتى أنه يتلف الأثاث والرياش، وربما لا يشفي غله، وقد يحدث منه طلاق ولعن وسب وشتم، فهذا غضب مذموم قبيح مرذول ينتصر فيه إبليس على هذا الذي لا يملك نفسه عند الغضب كما قيل:
وما غضب الإنسان إلا حماقة *** إذا كان فيما ليس لله يغضب
ومثل هذا الغضب يهدم الجسم، ويتلف الصحة ويحرم صاحبه الراحـة والهناء، ويجعل نظرته إلى الحياة مظلمة سوداء، فالتفريط في الغضب ضعف، والإفراط تهور وجنون (موارد الضمان [4/380]).
أسأل الله أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا إلى العلم والعمل، أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، والمبعوث رحمة للعالمين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحابته الغر الميامين، وعلى التابعين لهـم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: كما أسلفنا أن الغضب طبيعة في الإنسان، ولكن من الناس من يغضب لله ومن أجل الله فيكون غضبه ممدوحاً، ومنهم من يغضب لنفسه وشيطانه وشهوته فيكون غضبه ممقوتاً مذموماً، ولكن قد يقال: هل لذلك الغضب المذموم من علاج ودواء؟
فنقول: نعم، يقول ابن رجب رحمه الله: عند شرحه لحديث: «حسن الخلق من الكرم والسخاء والحلم والحياء والتواضع والاحتمال وكف الأذى، والصفح والعفو، وكظم الغيظ، والطلاقة والبشر، ونحو ذلك من الأخلاق الجميلة، فإن النفس إذا تخلقت بهذه الأخلاق، وصارت لها عادة أوجب لها ذلك دفع الغضب عند حصول أسبابه. والثاني: أن يكون المراد: لا تعمل بمقتضى الغضب إذا حصل لك، بل جاهد نفسك على ترك تنفيذه والعمل بما يأمر به، فإن الغضب إذا ملك ابن آدم كان كالأمر الناهي له، ولهذا المعنى قال الله تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ} [الأعراف:154] فإذا لم يتمثل الإنسان ما يأمره به غضبه، وجاهد نفسه على ذلك، اندفع عنه شر الغضب، وربما سكن غضبه، وذهب عاجلاً، فكأنه حينئذ لم يغضب، وإلى هذا المعنى وقت الإشارة في القرآن بقوله تعالى: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى:37]. وبقوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر من غضب يتعاطى أسباب تدفع عنه الغضب وتسيكنه، ويمدح من ملك نفسه عند الغضب (جامع العلوم والحكم [1/363- 364]).
ويمكن وصف العلاج على سبيل الاختصار بالآتي:
1- ذكر الله تعالى؛ فإن ذلك مما يدعوه إلى الخوف منه، وبالتالي طاعة الله، قال الله تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} [الكهف:42]، قال عكرمة: "يعني إذا غضبت".
2- أن يتفكر في الأخبار الواردة في فضل كظم الغيظ والعفو والحلم والاحتمال فيرغب في ثواب ذلك، فتمنعه شدة الحرص على ثواب هذه الفضائل عن التشفي والانتقام، وينطفئ عنه غيظه؛ قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى:37]. وقال تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:133-134].
وعن معاذ بن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رواه أحمد، وذكره الألباني في صحيح الجامع الصغير).
» (3- أن يتذكر أن الله أقوى وأقدر منه إن مضى في ظلم الناس، وهو أن يقول: قدرة الله علي أعظم من قدرتي على هذا الإنسان ، فلو أمضيت فيه غضبي، لم آمن أن يمضي الله عزوجل غضبه علي يوم القيامة فأنا أحوج ما أكون إلى العفو؛ قال الله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى:40] (انظر أدب الدنيا والدين للماوردي [252]. ط: دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان).
وقال عبد الله بن مسلم بن محارب لهارون الرشيد: "يا أمير المؤمنين، أسألك بالذي أنت بين يديه أذل مني بين يديك، وبالذي هو أقدر على عقابك منك على عقابي لما عفوت عني، فعف عنه لما ذكره قدرة الله تعالى" (انظر أدب الدنيا والدين للماوردي [251]. ط: دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان).
4- أن يعلم أن غضبه إنما كان من شيء جرى على وفق مراد الله تعالى لا على وفق مراده هو فكيف يكون مراد نفسه أولى من مراد الله تعالى.
5- أن يتحول عن الحال التي كان عليها، فإن كان قائماً جلس وإن كان جالساً اضطجع، وعليه أن يتوضأ أو يستنشق؛ فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: «رواه أحمد وأبو داود وذكره الألباني في صحيح أبي داود برقم [4000] والمشكاة برقم [5114]).
» (6- أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم؛ فعن سليمان بن صرد قال: استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس، وأحدهما يسب صاحبه مغضباً قد احمر وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «رواه البخاري ومسلم).
» فقالوا للرجل: "ألا تسمع ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم" قال: "إني لست بمجنون" (7- أن يتحلى بأخلاق من عرف بالحلم وكظم الغيظ والصفح والعفو عن الناس كالأنبياء، وعلى رأسهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان لا ينتقم لنفسه صلى الله وسلم ولكن إذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء (رواه البخاري ومسلم)، ولم يضرب بيده خادماً ولا آمره إلا أن يجاهد في سبيل الله (رواه مسلم).
وخدمه أنس عشر سنين، فما قال له: "أف" قـط، ولا قال له لشيء فعله: لم فعلت كذا (رواه البخاري ومسلم)، ولا لشيء لم يفعله "إلا فعلت كذا". وسئلت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: "كان خلقه القرآن" (رواه مسلم وأحمد)، تعني أنه تأدب بآدابه، وتخلق بأخلاقه، فما مدحه القرآن، كان فيه رضاه، وما ذمه القرآن، كان فيه سخطه، وجاء في رواية عنها قالت: "كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويسخط لسخطه" (انظر جامع العلوم والحكم [1/369-370]).
وليكن حاله كما حكي عن الأحنف بن قيس أنه قال: ما عاداني أحد قـط، إلا أخذت في أمره بإحدى ثلاث خصال: إن كان أعلى مني عرفت له قدره، وإن كان دوني رفعت قدري عنه، وإن كان نظيري تفضلت عليه.
سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب *** وإن كثرت منه إلي الجرائم
فما الناس إلا واحد من ثلاثة *** شريف و مشروف ومثل مقاوم
فأما الذي فوقي فأعرف قدره *** وأتبع فيه الحق والحق لازم
وأما الذي دوني فأحلم دائباً *** أصون به عرضي وإن لام لائم
وأما الذي مثلي فإن زل أو هفا *** تفضلت إن الفضل بالفخر حاكم
(انظر آداب الدنيا للماوردي [247] ط: دار الكتب العلمية: بيروت لبنان).
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وصلى الله على نبينا محمد وأله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
- التصنيف: