ألا أخبركم عن النفر الثلاثة (3)

منذ 2017-07-30

إن المرء إذا اشتد حياؤه صان عرضه ودفن مساويه ونشر محاسنه، ومن ذهب حياؤه ذهب سروره ومن ذهب سروره هان على الناس ومقت، ومن مقت أوذي ومن أوذي حزن ومن حزن فقد عقله ومن أصيب في عقله كان أكثر قوله عليه لا له، ولا دواء لمن لا حياء له، ولا حياء لمن لا وفاء له، ولا وفاء لمن لا إخاء له، ومن قل حياؤه صنع ما شاء وقال ما أحب

بسم الله الرحمن الرحيم

 

عن أبي واقد الليثي -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذهب واحد، قال: فوقفا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-  فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها وأما الآخر فجلس خلفهم وأما الثالث فأدبر ذاهبا فلما فرغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-  قال: «ألا أخبركم عن النفر الثلاثة أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه».

 

استحيا فاستحيا الله منه

 

الحياء مشتق من الحياة، والغيث يسمى حيا –بالقصر- لأن به حياة الأرض والنبات والدواب، ولذلك قيل بالحياء حياة الدنيا والآخرة، لأن من لا حياء له فهو ميت في الدنيا شقي في الآخرة، وقال بعض البلغاء: "حياة الوجه بحيائه، كما أن حياة الغرس بمائه" وعلى حسب حياة القلب يكون فيه قوة خلق الحياء، وقلة الحياء من موت القلب والروح، فكلما كان القلب أحيى كان الحياء أتم (1)

 

وحقيقة الحياء أنه خلق يبعث على ترك القبائح ويمنع من التفريط في حق صاحب الحق، وقد اختص الله عز وجل به الإنسان ليرتدع به عما تنزع إليه الشهوة من القبائح كي لا يكون كالبهيمة التي تهجم على ما تشتهي دون حياء، وبين اقتراف الذنوب وبين قلة الحياء وعدم الغيرة تلازم من الطرفين، وكل منهما يستدعي الآخر ويطلبه حثيثا، وأما الخجل فحيرة النفس لفرط الحياء، ويحمد في النساء والصبيان، ويذم باتفاق في الرجال، أما الوقاحة فهي مذمومة بكل إنسان إذ هي انسلاخ من الإنسانية وحقيقتها لجاج النفس في تعاطي القبيح.

 

قال تعالى ممتدحا صفة الحياء في بنت الرجل الصالح التي انحدرت من بيت كريم ينضح بالعفاف والطهارة {فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء}[القصص:25]

 

قال عمر -رضي الله عنه-: ليست بسلفع [سليطة جريئة] من النساء، خراجة ولاجة، ولكن جاءت مستترة قد وضعت كم درعها على وجهها استحياء (2)

 

وقال سيد قطب -رحمة الله-: {تمشي على استحياء}مشية الفتاة الطاهرة الفاضلة العفيفة النظيفة حين تلقى الرجال {على استحياء} في غير ما تبذل ولا تبرج ولا تبجح ولا إغواء. جاءته لتنهي إليه دعوة في أقصر لفظ وأخصره وأدله يحيكه القرآن بقوله{إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} فمع الحياء الإبانة والدقة والوضوح، لا التلجلج والتعثر والربكة. وذلك كذلك من إيحاء الفطرة النظيفة السليمة المستقيمة. فالفتاة القويمة تستحي بفطرتها عند لقاء الرجال والحديث معهم، ولكنها لثقتها بطهارتها واستقامتها لا تضطرب الاضطراب الذي يطمع ويغري ويهيج، إنما تتحدث في وضوح بالقدر المطلوب ولا تزيد (3)

 

وعن أبي قتادة، قال: كنا عند عمران بن حصين -رضي الله عليه- في رهط منا وفينا بشير بن كعب فحدثنا عمران يومئذ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الحياء كله خير»فقال بشير بن كعب: إنا لنجد في بعض الكتب أو الحكمة أن منه سكينة ووقارا لله، ومنه ضعف. قال: فغضب عمران حتى احمرتا عيناه، وقال ألا أراني أحدثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتعارض فيه (4)

 

قال أبو حاتم: إن المرء إذا اشتد حياؤه صان عرضه ودفن مساويه ونشر محاسنه، ومن ذهب حياؤه ذهب سروره ومن ذهب سروره هان على الناس ومقت، ومن مقت أوذي ومن أوذي حزن ومن حزن فقد عقله ومن أصيب في عقله كان أكثر قوله عليه لا له، ولا دواء لمن لا حياء له، ولا حياء لمن لا وفاء له، ولا وفاء لمن لا إخاء له، ومن قل حياؤه صنع ما شاء وقال ما أحب (5)

 

وقوله في الحديث (منه سكينة ووقارا لله، ومنه ضعف) أي أنه قد يستحي المرء أن يواجه بالحق من يستحييه، فيدع أمره بمعروف ونهيه عن منكر، وقد يحمله على إخلاله ببعض الحقوق وغير ذلك مما يعرف عادة. والجواب عن ذلك: أن هذا المانع ليس من الحياء حقيقة بل هو عجز وخور ومهانة، وإنما يطلق عليه أهل العرف حياء مجازا، أما الحياء الحقيقي فهو خلق يبعث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق كل ذي حق.

 

الحياء من الإيمان

 

فعن عن عبد الله بن عمر -رضي الله عليه- قال: مر النبي -صلى الله عليه وسلم- على رجل وهو يعاتب أخاه في الحياء، يقول: إنك لتستحيي، حتى كأنه يقول: قد أضر بك. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «دعه، فإن الحياء من الإيمان» (6)

 

ولا يفهم من الحض على الحياء وإن أضر بحق المستحي، وأن من استغل هذا الحياء عار عن الإثم والحيف، فقد قال العلماء: "أخذ المال بالحياء كأخذه بالسيف" مستنبطين ذلك من قوله -صلى الله عليه وسلم- «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه» (7)

 

وعن أبي حميد -رضي الله عليه- قال: لا يحل لرجل أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس، وذلك لشدة ما حرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مال المسلم على المسلم.

 

وقال -صلى الله عليه وسلم- «الحياء والإيمان قرنا جميعا، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر» (8)

 

وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: الحياء والإيمان في طلق، فإذا انتزع أحدهما من العبد، اتبعه الآخر (9)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش والمصادر:

 (1) الحياء خلق الإسلام  ــ محمد بن إسماعيل المقدم نقلا عن ابن القيم في الداء والدواء ص 46 بتصرف/ دار الدعوة السلفية ص 5   (2) أخرجه الفرياني وابن أبي شيبة في المصنف وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن عمر كما في الدر المنثور 5/124  (3) في ظلال القرآن ــ سيد قطب ص 2687 ط دار الشروق ــ مصر  (4) رواه مسلم ــ كتاب الإيمان برقم 54  (5) روضة العقلاء ــ ابن أبي حاتم ــ مكتبة السنة بمصر ص 58   (6) رواه البخاري ــ كتاب الأدب برقم  5653 (7) رواه أبو داود عن حنيفة الرقاشي. (صحيح) انظر حديث رقم: 7662 في صحيح الجامع. (8) رواه الحاكم في المستدرك 1/22 عن ابن عمر وقال صحيح على شرطهما وأقره الذهبي (صحيح) حديث رقم:  3200 في صحيح الجامع السيوطي / الألباني (9) شعب الإيمان ج: 6 ص: 140

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز