دعم العمران - دعم العمران: الفقه الإسلامي و العمران 1

منذ 2017-11-08

إن العمران لا يقصد به مجرد بناء أو مساحة من الأبنية فقط، وإنما هو بالإضافة إلى ذلك يعد أسلوب حياة يشمل الإنسان والأكوان ويعبر عن نمط معين في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية والأخلاقية، ويحقق تواصل الحضارات والتقاءها ويحقق الحوار فيما بين الأمم وكذا التواصل والتعارف الإنساني، وهذا الفكر يجعل من العمران سبيلا لسعادة الإنسان وماهيته.

ما الذي تميز به الفقه الإسلامي في تناوله لمسألة العمران؟

يمكن القول بأن للفقه الإسلامي نظرة متميزة إلى قضية العمران باعتبارها قضية الاجتماع الإنساني، ويمكن ملاحظة هذه النظرة من خلال الأمور الآتية:

أولا:من حيث المساحة التي يعمل فيها، فإننا نلاحظ أن هذا الفقه يغطي كافة الجوانب اللازمة لحركة الإنسان والمجتمع والحياة في كل أوضاعها وأماكنها ودرجة العمران فيها؛ لأن العمران ليس مجرد إبداع هندسي أو تخطيط عمراني، وإنما بالإضافة إلى ذلك هناك عمران قيمي وأخلاقي، وهناك أحكام شرعية لأفعال إنسانية، وهناك قيم حضارية وتنمية مستدامة،وهناك كافة مظاهر النشاط الاقتصادي من زراعة وصناعة وتجارة وتكنولوجيا ونظم معلومات وغير ذلك، وهناك أحكام شرعية لكل هذه المجالات، وللطريق أحكام وللسوق أحكام، والمدارس والمكتبات وكل مؤسسات الدولة، ولا عجب، فالشريعة رتبت أحكاما لكافة أحوال الإنسان وأوضاعه وجميع نواحي معاشه، حتى يستطيع القيام بوظيفة الاستخلاف والاستعمار في الأرض.

ثانيا: من حيث العمران المادي أو الأنماط العمرانية هناك ضوابط تحكم العمران المادي من حيث إنه لا بد أن يتوافق مع العقيدة، والمستلزمات والروابط الاجتماعية والضوابط الشرعية والدواعي النظرية المرافقة لهذا الفن، فالفن المعماري والنسق التنظيمي في تخطيط المدن والشوارع والمرتفقات العامة (المرافق العامة) وأماكن النفع العام، له كبير الأثر في بناء العلاقات الإنسانية، ومتانة النسيج الاجتماعي، وإشاعة التوحد (الوحدة) وتعميق الأصول النفسية للتكامل الاجتماعي، من مثل التعاون والتراحم وحسن التجاور، والإيثار، والإحسان... وما إلى ذلك.

وليس هذا فقط، بل إن من أبرز ما يميز الأنماط العمرانية الإسلامية أنها تتمحور في بنائها وواجهاتها وهندستها ومرتفقاتها (مرافقها) حول وجهة أو بتعبير أدق نحو القبلة (المسجد الحرام).

كما أن الطراز الإسلامي في العمران كان مفتوحا إلى أعلى ليمكن المسلم من النظر إلى السماء، هذه الفسحة السماوية لها مدلولات وإيحاءات في حس المسلم، وتوجهه في الدعاء، أو إلى التوجه إلى الله لطلب الغوث والخير.

أما في الأنماط العمرانية في المدن الحديثة والمعاصرة، فالسماء محجوبة تماما وكأنها صممت لتشكل قطيعة بين ساكنيها والسماء، وتغلق نافذة التفكر في الكون، وتقوم على تقطيع الأوصال وتمزيق النسيج الاجتماعي، وتحويل الإنسان إلى قطعة من الآلة العمرانية الرهيبة لكل مستلزماتها، فقد يعيش في مبان وطوابق لا يعرف فيها الجار جاره، وقد لا يرى وجهه، إضافة إلى ما يكون في أحشائها من نمط البناء الذي لا يبالي بالعورات بل يلغيها ولا يقيم لها وللخصوصيات وزنا.([1])

ثالثا:إن العمران لا يقصد به مجرد بناء أو مساحة من الأبنية فقط، وإنما هو بالإضافة إلى ذلك يعد أسلوب حياة يشمل الإنسان والأكوان ويعبر عن نمط معين في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية والأخلاقية، ويحقق تواصل الحضارات والتقاءها ويحقق الحوار فيما بين الأمم وكذا التواصل والتعارف الإنساني، وهذا الفكر يجعل من العمران سبيلا لسعادة الإنسان وماهيته، أيا كان مذهبه أو دينه أو لونه أو جنسيته.

رابعا:من مقاصد العمران إظهار الجمال، (فالجمال مطلوب في البناء والعمران، كما هو مطلوب في الثياب وغيرها، وجمال البناء يبدو في تناسقه وترتيبه حسب عرف الزمان والمكان ما دام أنه محمود في ذاته وغاياته)([2]).

خامسا:من يقرأ في كتب فقه العمران يجد مقاصد الشريعة وقواعدها تتحرك في مجالات عديدة، خاصة فقه البيئة الذي كان يؤدي دوره في الواقع الاجتماعي من خلال ولاية الحسبة بوجه خاص.

وفي لقطات سريعة نجد أن المحافظة على المياه والرقابة على استعمالها كانت جزءا من عمل المحتسب الذي يمنع الدواب من الشرب من أماكن السكان، ويمنع النساء من أن يغسلن بالقرب من هذه المواضع، ويمنع من تكوين مياه النهر والآبار، بالإضافة إلى ذلك كان المحتسب يقوم بمنع عش الدقيق وإفساد الطعام وتلويثه وإقرار نوعين من المسؤولية:

الأولى: مسؤولية جنائية تتمثل في عدد من التعازير.

الثانية: مسؤولية مدنية بتعويض ما تم إفساده أي الضمان.

وقد تصل الرقابة –في مجال الأسواق– إلى حد المصادرة أو الإخراج من السوق، كذلك كانت الأسواق محكومة بقواعد وآليات تحمي الصحة العامة، وتحمي البيئة، بل وتحمي حتى الدواب بمنع تعذيبها.

كذلك ورد في كتاب (ابن الرامي) (الإعلان بأحكام البنيان) فصول عن ضرر الأرضية، وضرر الرائحة، بل إن الفقه الإسلامي عالج أضرار البيئة التي تنقص من ثمن الأشياء: منقولات أو عقارات، وقد روى الباجي في الأحكام -كما نقله ابن الرامي- أن الشيوخ تنازعوا في الأفران والحمام إذا أحدث بقرب دار الرجل وليس يضر بداره غير أنه ينقص من ثمنها، قال بعضهم ذلك ضرر يجب قطعه لأجل ما يتقى من وقوع النار ومن اجتماع الناس إلى ذلك وكثرة ترددهم وذلك واضح بقوله تعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف: 85].([3])

سادسا: إن الفقه الإسلامي يدور حول العمران والحضارة، يبدأ منهما وينتهي إليهما، ويفصل لهما، فهما غايته ومقصده، وهذا يدعونا إلى النظر إلى العمران من جهتين:

الأولى: إنشاء العمران والمحافظة عليه في كافة مجالات الحياة.

الثانية: اتخاذ العمران مقصدا من المقاصد التي يهتدي بها الفقيه ويستنير بها عند استنباط الحكم الشرعي لنازلة من النوازل أو واقعة من الوقائع.

وبذلك يصبح العمران على رأس المقاصد، التي تجب مراعاتها، من المجتهد والمفتي والفقيه؛ لأن واقع الناس يستلزم ترتيب الأولويات ومراعاة المآلات، حتى تبقى للشريعة فاعليتها، وتيسير أمر الناس في الالتزام بأحكامها.

الكاتب : أ.د/ محمد قاسم المنسي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]) عمر عبيد حسنة، كتاب الأمة ع 58 –ص23 – 25.
[2])
جوانب مجهولة من فقه العمران في الحضارة الإسلامية، ص621، مؤتمر الفقه الحضاري فقه العمران، عمان– 2010م.
[3])
القواعد الحاكمة لفقه العمران، أ.د/ محمد كمال إمام، ضمن أعمال ندوة الفقه الحضاري فقه العمران – ص956-958، عمان 2010م.

 
المقال التالي
دعم العمران : الفقه الإسلامي و العمران 2