توحيد الألوهية - (10) نواقض لا إله إلا الله

منذ 2017-12-20

بالجملة؛ فكل رِدَّة فهي ناقض لـ "لا إله إلا الله"؛ لأن حقيقة الإقرار بكلمة التوحيد يَستلزم تصديق الرب والْتِزام شرعه، فإن كذَّب الله - سبحانه - بأن كذَّب بملائكته، أو كُتبه، أو رُسله، أو اليوم الآخر، أو القدر..

نواقض "لا إله إلا الله":

 ذكَر الشيخ محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - وتَبِعه بعد ذلك جماعات من أهل العلم، عشرةً من نواقض "لا إله إلا الله"، فقال - رحمه الله -:

1- الشِّرك في عبادة الله؛ قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } [المائدة: 72].

 

ومن ذلك دعاءُ الأموات والاستغاثة بهم، والذبح والنذْر لهم.

 

2- من جعَل بينه وبين الله تعالى وسائطَ يدعوهم، ويسألهم الشفاعة، ويتوكَّل عليهم، فقد كفَر إجماعًا.

 

3- مَن لَم يُكَفِّر المشركين، أو شكَّ في كفرهم، أو صَحَّحَ مذهبَهم - كفَر.

 

4- مَن اعتقَد أنَّ هدْي غير النبي -صلى الله عليه وسلم- أكملُ من هدْيه، أو أن حُكمه أحسنُ من حكمه - كالذين يُفضِّلون حُكم الطواغيت على حُكمه -صلى الله عليه وسلم- فهو كافر.

 

5- مَن أبغض شيئًا مما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولو عَمِل به، فقد كفَر؛ لقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [محمد: 9].

 

6- مَن استهزَأ بشيءٍ من دين الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو ثوابه أو عقابه، كفَر؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾ [التوبة: 65 - 66].

 

7- السحر، ومنه: الصرف، والعطف، فمَن فعَله، أو رضِي به، كفَر؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ﴾ [البقرة: 102].

 

8- مُظاهرة المشركين ومُعاوَنتهم على المسلمين؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ﴾ [المائدة: 51].

 

9- مَن اعتقَد أنَّ بعض الناس يَسعه الخروج عن شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- فهو كافر؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾ [آل عمران: 85].

 

10- الإعراض عن دين الله تعالى؛ لا يتعلَّمه، ولا يعمل به؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ﴾ [السجدة: 22].

 

ولا فرْقَ في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف، إلاَّ المُكرَه، وكلُّها من أعظم ما يكون خطرًا، وأكثر ما يكون وقوعًا؛ فينبغي للمسلم أن يَحذرها ويخاف على نفسه، نعوذ بالله من مُوجبات غضبه، وأليم عقابه.

 

تنبيهات في غاية الأهمية:

1- نواقض "لا إله إلا الله" ليستْ منحصرة في هذه العشرة، وإنما ذكَرها الشيخ - رحمه الله -لأنها من أخطرها وأكثرها وقوعًا، وكل ما دلَّ عليه الدليل - من كتابٍ، أو سُنة، أو إجماعٍ - على أنه من الردة، فهو من نواقض "لا إله إلا الله"، حتى لو لَم يُصرح بنقضها، فمثلاً: مَن عادى ملَكًا من الملائكة، أو رسولاً من الرسل - كموسى، وعيسى - أو كذَّبهم، فهو كافر وإن نطَق بـ "لا إله إلا الله"، فقد نقَضها بتصريحه بعَداوته وتكذيبه للملائكة أو الرسل؛ كما قال تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 98].

 

وكذلك مَن كذَّب بالقدَر جُملةً - كمَن يَنفي علْم الله الأزلي، أو كتابة المقادير - فهو كافرٌ، ومن قال بتحريف القرآن، أو بحذْف شيءٍ منه، فهو ناقضٌ لقوله: "لا إله إلا الله".

 

وبالجملة؛ فكل رِدَّة فهي ناقض لـ "لا إله إلا الله"؛ لأن حقيقة الإقرار بكلمة التوحيد يَستلزم تصديق الرب والْتِزام شرعه، فإن كذَّب الله - سبحانه - بأن كذَّب بملائكته، أو كُتبه، أو رُسله، أو اليوم الآخر، أو القدر، أو أي شيءٍ مما أخبَر الله به في كتابه - فهو ناقضٌ لما قال.

 

2- لا بدَّ من معرفة الفرق بين كفر النوع وكفر العين في هذه النواقض وغيرها من المُكفرات، فإن مَن ارتكَب شيئًا منها ولَم تَبلغه الحجة التفصيلية من الكتاب والسُّنة - لَم يكفر حتى تُقام عليه الحجة؛ لقوله تعالى: ﴿ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ﴾ [الأنعام: 19].

 

وبلوغ القرآن في حق المسلم الذي ثبَت إسلامه، لا بدَّ أن يكون على التفصيل لا على الإجمال؛ لأنه لا يُمكن الجزم بتكذيبه لله ولرسوله وهو لَم يعرف الدليل التفصيلي، فمثلاً في الناقض الثالث: مَن لَم يُكفِّر المشركين، أو شكَّ في كفرهم، أو صحَّح مذهبهم - كفَر، فلو قال إنسان: إن اليهود والنصارى ليسوا بكفارٍ، وإن المِلل كلها متساوية لا تفاضُلَ بينها، ولَم يسمع قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ﴾ [المائدة: 73]، أو قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾ [آل عمران: 85] - لَم يكفر حتى يَبلغه، فإذا بلَغه فأصرَّ على قوله، فهو كافر بعينه بلا خلافٍ، وقد ذكَرت هذا المثال؛ لأن هذه المسألة - وهي أصلاً من المعلوم بالضرورة في معظم بلاد المسلمين - مما كَثُر فيه اللبس في بلادنا بسبب الشُّبهات الكفرية التي تُطرَح على العامة، حتى من بعض مشايخ السوء: من مساواة ما يُسمونه بالأديان السماوية، يعنون بذلك: اليهودية والنصرانية والإسلام، وأنها كلها حقٌّ، والنداء بما يسمى بتعانُق الهلال والصليب في الوحدة الوطنيَّة، وكثير من الناس - بل أكثرهم - صاروا لا يَسمعون ولا يعرفون الآيات الصريحة بكفر اليهود والنصارى؛ بسبب هيبة أئمَّة المساجد من تناولها في خُطَبهم ودروسهم، بل حتى من تلاوة هذه الآيات في صلواتهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!

 

ولذا أقول: إنه بمجرَّد سماع الآيات تكون الحجة قد قامَت؛ لأنها قطعية الثبوت والدلالة على كفرهم.

 

والفرق بين كُفر النوع وكفر العين، إنما هو في المسائل التي لَم يَنتشر علمها بين المسلمين عامة، وهو ما يُسميه العلماء: المعلوم من الدين بالضرورة؛ أي: لا يحتاج إلى نظرٍ واستدلالٍ لتواتُره بين المسلمين، مع ملاحظة أن هذه الأمور قد تختلف من زمانٍ إلى زمان، ومن مكانٍ إلى مكان؛ فالمعلوم من الدين بالضرورة زمنَ الصحابة يختلف عنه اليوم، والمعلوم من الدين بالضرورة في مكة والمدينة مثلاً يختلف عنه في إفريقيا، والعبرة بانتشار العلم ووصوله إلى الخاص والعام، والعلماء والعوام.

 

وهذا التفريق بين النوع والعين، هو بلا شكٍّ مذهب الشيخ محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - كما أنه مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وعامة علماء السلف - رحمهم الله - وقد قال الشيخ - رحمه الله -: إذا كنا لا نُكفِّر مَن عبَد الصنم على قبر عبدالقادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهم؛ لأجْل جهلهم، وعدم مَن يُنبِّهم، فكيف نُكفِّر مَن لَم يُشرك بالله إذا لَم يُهاجر إلينا، أو لَم يكفر ويُقاتل؟!

 

سبحانك هذا بُهتان عظيم! وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -: "وحقيقة الأمر في ذلك أن القول قد يكون كفرًا، فيُطلق القول بتكفير صاحبه، فيقال: مَن قال كذا، فهو كافر، لكن الشخص المعيَّن الذي قاله لا يُحكم بكفره؛ حتى تقوم عليه الحُجة التي يَكفُر تاركُها".

 

3- في الناقض الثاني الذي ذكَره الشيخ - وهو مسألة الوسائط - لا بدَّ من معرفة الفرق بين التوسُّل الشركي - وهو الذي ذكَره الشيخ هنا، وهو دعاء غير الله تعالى، والتوكل عليه - وبين التوسل البدعي - والذي هو شِرْك أصغر لا أكبر - وهو أن يطلب من الميت أو الغائب المتوسَّل به أن يدعو الله، أو يشفعَ له عند الله، فهذا لَم يدعُ غير الله، ولَم يَصرِف العبادة لغير الله، ولكنه خاطَب الميت أو الغائب بما لَم يُشرع ولم يَرِد، وهو ذريعة إلى النوع الشركي، فهو شركٌ أصغر، وهذا ما بيَّنه شيخ الإسلام رحمه الله - في كتابه القيِّم: "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة"، وفي عبارة الشيخ محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - في هذا الناقض التي هي نفس عبارات شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وهو الذي نقَل الإجماع عليها.

 

أمَّا سؤال الله تعالى بحق فلان، وجاه فلان، فليس متَّفقًا على أنه بدعة، بل فيه خلاف بين العلماء، والراجح أنه بدعة؛ لعدم ورود دليلٍ صحيح عليه، ولترْك الصحابة له.

 

4- في الناقض الثالث: وهو عدم تكفير المشركين، أو الشك في كفرهم: هذا في المتَّفق على تكفيره، المعلوم من الدين بالضرورة كفرُه؛ كاليهود والنصارى، وعُبَّاد الأوثان والمجوس، وهذا في كفر النوع، وكفرعون وهامان، وأبي لهب وأبي جهل، وهذا في كفر العين، أمَّا المُختلَف في تكفيره بين أهل السُّنة، فلا يَكفر مَن لَم يُكَفِّره؛ سواء كان في النوع، أو العين، فمثلاً: اختلَف العلماء في كفْر تارك الصلاة - وهذا كفر نوع - وباتِّفاقهم لا يَكْفُر مَن لَم يُكَفِّره، فلا يقول الحنبلي الذي يُكَفِّره مثلاً - لِمَن لم يُكَفِّره من أتباع المذاهب الأخرى، وهم جماهير أهل العلم -: إن مَن لم يُكفِّر الكافر، فهو كافر؛ فهذا باطل بإجماع العلماء؛ لأن قاعدة "مَن لم يُكفِّر الكافر، فهو كافر"، ليستْ من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- وإنما هي قاعدة صحيحة مُستنبطة من قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19]، وقوله: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾ [آل عمران: 85]، فمن قال: إنه يُقبَل دينٌ غير دين الإسلام، فقد كذَّب القرآن، ومن كذَّب القرآن، فهو كافرٌ.

 

وأما المُختلَف في تكفيره، فلا يُمكن أن يقال: إن مَن لم يُكفِّره، يُصحِّح مِلة غير ملة الإسلام، أو يُكذِّب القرآن، وكذلك في كفر العين، فمن قام عنده الدليل الشرعي والواقعي عن إنسان بعينه أنه كافر - لارتكابه الشِّرك والكفر بعد قيام الحُجة عليه، فقال: إن فلانًا كافر - لا يُمكنه أن يُكفِّر مَن لم يُكفِّره؛ لعدم اطِّلاعه على الدليل الشرعي، أو لم يطَّلع على حال الشخص الذي ارتكَب ذلك؛ ولهذا لم يُكفِّره.

 

فتنبَّه لهذا الفرق؛ فقد ضلَّ بسبب إهماله طوائف وجماعات، فحكَموا على مَن خالَفهم في مسألة من مسائل التكفير بالكفر؛ جهلاً منهم بالفَهم الصحيح لهذه القاعدة.

 

5- في الناقض الرابع: وهو تفضيل حُكم الطواغيت على حكم الرسول -صلى الله عليه وسلم-: قال الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله -: ويدخل في القسم الرابع مَن اعتقَد أن الأنظمة والقوانين التي يسنُّها الناس أفضلُ من شريعة الإسلام، أو أنها مساوية لها، أو أنه يجوز التحاكُم إليها - ولو اعتقَد أن الحكم بالشريعة أفضل - أو أن نظام الإسلام لا يَصلح تطبيقه في القرن العشرين، أو أنه كان سببًا في تخلُّف المسلمين، أو أنه يُحصَر في العلاقة بين المرء وربه، دون أن يدخل في شؤون الحياة الأخرى، ويدخل في الرابع أيضًا: مَن يرى أن إنفاذ حكم الله في قطْع يد السارق، أو رجْم الزاني المُحصن، لا يُناسب العصر الحاضر، ويدخل في ذلك كلُّ من اعتقَد أنه يجوز الحكم بغير شريعة الله في المعاملات أو الحدود أو غيرها - وإن لَم يعتقد أن ذلك أفضلُ من حكم الشريعة - لأنه بذلك يكون قد استباحَ ما حرَّم الله تعالى مما هو معلوم من الدين بالضرورة؛ كالزنا، والخمر، والربا، والحكم بغير الشريعة، فهو كافر بإجماع المسلمين؛ ا.هـ.

 

واعلم أن كثيرًا من هذه الصور لا يتصوَّر فيها الجهل؛ لأن الحجة قائمة بها على الجميع، فيَكفر بالعين مَن قال بها، فمَن قال مثلاً: إن قطْع الأعضاء - كاليد والرِّجْل في الحدود، وكذا في الرجْم - وحشيَّة، لا يُمكن أن يكون جاهلاً بأن هذا في الإسلام؛ لأنه إنما يُناقش مَن يريدون تطبيق الشريعة، فهو إذًا عالم بقطْع يد السارق ورجْم الزاني، ولكنه لا يراه ولا يعتقده، فلا يُمكن القول بأنه لَم يبلغه، ونحن نقول بالعُذر بالجهل الناشئ عن عدم البلوغ، لا الجهل الناشئ عن الإعراض عن الحق بعد وصوله، فهذا من جنس جهل أبي جهل، وجهْل مَن قال الله تعالى فيهم: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 6].

 

6- في الناقص الخامس: وهو بُغض شيءٍ مما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- فالبُغض من أعمال القلب، فلا يتصوَّر التكفير بها في أحكام الظاهر إلا بالتصريح باللسان، وأمَّا في أحكام الباطن دون نُطق اللسان، فهو النفاق الأكبر الذي يجعل صاحبه في الدَّرك الأسفل من النار - وإن عاملَه المسلمون أنه مسلمٌ.

 

7- في الناقض السابع: وهو السحر، ومنه الصرف والعطف؛ أي: صرْف القلوب عن حب إنسانٍ، أو عطْفها عليه، كما يفعله كثيرٌ من الرجال والنساء لدى السَّحرة؛ رغبة في الزواج، أو التفريق بين المرء وزوجته، هذا الذي ذكَره الشيخ - رحمه الله - من إطلاق كونه من النواقض، هو مذهب بعض أهل العلم: أن السحر كفرٌ، والساحر كافر مطلقًا، ولكنْ في المسألة تفصيل؛ فإن السحر منه ما هو كفر؛ كمَن يعتقد التدبير في الكواكب، أو يتقرَّب إليها، أو يتقرَّب إلى الشياطين بالذبح أو غيره، أو يكتب القرآن مقلوبًا، أو يسجد للأصنام، فهذا كفر أكبرُ بلا خلافٍ، وظاهر القرآن أنَّ السحر المتعلَّم من الشياطين كفرٌ؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ﴾ [البقرة: 102].

 

وكذا المتعلَّم من هاروت وماروت بنص الآية، أما السحر الذي هو بالأدوية والدُّخَان، والحِيَل الخفيَّة، كخِفة اليد، وخداع البصر، فهذا كبيرة؛ إن استحلَّه كفَر، وإلاَّ لَم يَكفُر، والآثار الدالة على قتْل الساحر يُمكن حمْلها على النوع الذي هو كفر، أو أن يكون قتْله لدفع شرِّه، وهذا التفصيل هو مذهب الشافعي وجماعة من أصحاب أحمد.

 

8- في الناقض الثامن: وهو مظاهرة المشركين ومُعاونتهم على المسلمين، هذا يكون ناقضًا إذا كان بالقتال معهم ضد المسلمين؛ كما ورد في الصحيح في سبب نزول قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 97]، أنها نزَلت فيمَن خرج من المشركين في بدر من بعض شباب قريش وهم كارهون، فقُتِلوا، وأمَّا مَن عاوَنهم بتبليغهم أخبار المسلمين مثلاً، فقد دلَّت السنة الصحيحة على عدم تكفيره، وهي قصة حاطب بن أبي بلتعة، ونزَل القرآن: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ﴾ [الممتحنة: 1]؛ كما في البخاري ومسلم.

 

وإن كانت مسألة قتْل الجاسوس لا تتوقَّف على تكفيره، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لَم يجعل المانع من قتْل حاطب أنه مسلم، بل قال: ((إنه قد شَهِد بدرًا))، فالأرجح من أقوال العلماء أنَّ الجاسوس المسلم إلى الإمام، يجوز قتْله، ولا يتحتَّم، حسب المصلحة، وحسب سابقة الشخص، أمَّا مُوالاة الكافرين - بطاعتهم في الكفر، وإعانتهم على إلزام الناس به، وإخراجهم، وصدِّهم عن الإسلام - فكفرٌ بلا خلاف.

 

9- يجب الانتباه في هذا الناقص الثامن إلى التفرقة بين مظاهرة المشركين الذين يُعلنون شِرْكهم؛ كاليهود والنصارى والشيوعيين، وبين المُشركين الذين يَستترون بالإسلام - وهم المنافقون كالعلمانيين - فإن مَن والاهم وهو لا يَعرف كفرهم، لا يكون كافرًا؛ لأنه يظنُّ إسلامهم، فلا يمكن الجزم بأنه ممن يحارب الإسلام وأهلَه، ولكن مَن عَلِم كفْرهم وعاوَنهم عليه وعلى حرب المسلمين، فهو كافر جزمًا؛ قال ابن حزم - رحمه الله -: "مَن لَحِق بدار الكفر والحرب مختارًا محاربًا لِمَن يَليه من المسلمين، فهو بهذا الفعل مُرتدٌّ، له أحكام المُرتد كلُّها"، إلى أن قال: "وليس كذلك مَن سكَن في طاعة أهل الكفر من الغالية، ومَن جرى مجراهم كأهل مصر والقيروان وغيرهم، فالإسلام هو الظاهر، ووُلاتهم على كلِّ ذلك لا يُجاهرون بالبراءة من الإسلام، بل إلى الإسلام ينتسبون، وإن كانوا في حقيقتهم كفَّارًا"؛ ا.هـ.

 

10- في الناقض التاسع: وهو اعتقاد أنَّ بعض الناس يَسعه الخروج عن شريعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذا اعتقاد كثير من الصوفية الذين يَزعمون أنهم أهل الحقيقة، وأن لهم أن يَخرجوا عن الشريعة، كما خرَج الخضر عن شريعة موسى - عليه السلام - ولا شكَّ في كفر مَن اعتقد ذلك؛ لأنه يَستحل بذلك ترْك الواجبات وفعْل المحرَّمات - المعلوم من الدين بالضرورة - وهو يَعلمها، ولا تَنفعه شُبهة الخضر وموسى - عليه السلام - لأن شريعة موسى - عليه السلام - ليستْ للناس كافة، وكان الخضر على شريعة أخرى، وأمَّا عموم شريعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للإنس والجن، فمُجمَع عليه بين المسلمين.

 

11- في الناقض العاشر: قال الشيخ - رحمه الله -: "الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به".

 

هذا من المواضع التي الْتَبَست على كثيرٍ من أهل الشِّرك والبدع؛ وذلك أنهم ظنُّوا أن المقصود أنَّ كل مَن ترَك شيئًا من علم الدين الواجب عليه، فهو مُعرض كافر، وليس كذلك، بل لا بدَّ من التفصيل بين الإعراض عن فهْم الحُجة بعد قيامها في مسألةٍ يَكفُر مُعتقِدُها أو قائلها أو فاعلها، وبين الإعراض الجزئي عن طلب العلم، أو عن الحق في أي مسألة أخرى، وقد قال تعالى في شأن الشهادة: ﴿ وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء: 135].

 

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- للرجل الذي انصرَف عن حلقة العلم: ((أمَّا الثالث، فأعرض، فأعرَض الله عنه))، والحديث متَّفق عليه.

 

مع الاتِّفاق على أن مثْل هذا الإعراض لا يكون كفرًا ناقلاً عن المِلَّة، أما الإعراض الذي يَقصده الشيخ، فهو الإعراض عن آيات الله تعالى بعد التذكير بها، كما استدلَّ عليه بقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ﴾ [السجدة: 22].

 

فهو صريح في وجود التذكير وبلوغ آيات الله لهذا المُجرم المُعرض، وليس كذلك مَن أعرَض عن شيء من تفاصيل الدين علمًا وعملاً، وإن كان مُقصِّرًا يستحق العقاب، ولكنه ليس بالكفر الناقل عن الملة.

 

قال شيخ الإسلام - رحمه الله - في وجوه تفاصيل الإيمان، ومنها: أن يكون الإنسان مُكذبًا بأمورٍ لا يَعلم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أتى بها، ولو عَلِم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أتى بها، لَم يُكذب ولَم يُنكر بها، بل قلبه جازمٌ أنه لا يُخبر إلاَّ بصِدق، ولا يأمر إلا بحقٍّ، ثم تُبيَّن له الآية أو الحديث، أو يتدبَّر ذلك، أو يُفسر له معناه، أو يظهر له بوجهٍ من الوجوه، فيُصدِّق بما كان مُكذبًا، ويعرف ما كان منكرًا، وهذا تصديق جديد وإيمان جديد، ازدادَ به، لَم يكن قبل ذلك كافرًا، بل جاهلاً؛ ا. هـ.

 

ولا بدَّ هنا من التنبيه على الفرق بين قيام الحُجة وفَهْم الحجة؛ كما بيَّنه الشيخ - رحمه الله - في مواطن عديدة من مؤلَّفاته، فالذي يُشترط في قيام الحجة: وضوحُها بطريقة يَفهمها مثلُه، وإزالة الشُّبهات عنه بحيث لا تبقى شُبهة عند مثله، ولا يُشترط أن يَفهمها هو، أو لا تبقى شُبهة عنده هو، فهذا أمرٌ لا قدرة للبشر عليه، ولا عِلْم لهم به.

 

ولا يَلزم أن يكون الكفر عنادًا، بل قد يكون كفر جهلٍ وتكذيب، وهو كفر مَن بلَغه الحق، فأصرَّ على الباطل والشرك؛ لإعراضه عن فَهْمه، أمَّا إذا بلَغه الحق بطريقة لا يَفهمها مثله؛ كإنسانٍ لا يعرف العربية تُتلى عليه الآيات بغير ترجمة، فإذا تُرجِمت له فأصرَّ، قامت عليه الحُجة؛ قال ابن قدامة - رحمه الله - في المغني: "لا خلافَ بين أهل العلم في كفْر مَن ترَكها - أي: الصلاة - جاحدًا لوجوبها، إذا كان ممن لا يَجهل مثله، فإن كان ممن لا يَعرف الوجوب؛ كحديث الإسلام الناشئ بغير دار الإسلام، أو بادية بعيدة عن مصرٍ من الأمصار وأهل العلم، لَم يُحكم بكفْره، وعُرف ذلك وتُثبَت له أدلة وجوبها، فإن جحَدها بعد ذلك، كفَر، وأما إذا كان الجاحد ناشئًا في الأمصار بين أهل العلم، فإنه يَكفر بمجرَّد جحْدها"؛ ا.هـ.

محمود العشري

كاتب له عدد من الكتابات في المواقع الإسلامية

المقال السابق
(9) فضل الشهادتين
المقال التالي
(11) شهادة أن محمدًا رسول الله