توحيد الألوهية - (14) الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله
على الداعية اليوم أن يكون رحَّالة سائحًا في محلات مدينته ومدن قطره، يبلِّغ دعوة الإسلام..
سابعًا: الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله:
قال -تعالى-: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].
وقوله -تعالى-: ﴿ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾؛ أي: يدعو إلى الله على بصيرة أيضًا، وقيل: أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي على بصيرة.
وعلى كلا الوجهين، فالآية تدل على وجوب الدعوة إلى الله، وأن البصيرة من الفرائض.
وفي قوله: ﴿ وَسُبْحَانَ اللَّهِ ﴾: تنبيه على أن التوحيد تَنْزِيه للهِ عن المسبَّة؛ إذ الشرك مسبَّة لله - تعالى.
وقوله: ﴿ أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ﴾ مع قوله: ﴿ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾: فيه تنبيه على الإخلاص؛ لأن كثيرًا من الناس لو دعا إلى الله، فهو يدعو إلى نفسه.
وهذه الآية الكريمة فيها بيان جملة من أصول الدعوة إلى الله تعالى، ما أحوج الدعاةَ إلى الله إلى معرفتها والعمل بها! وإليك بعض ما تضمَّنته الآية الكريمة من أصول الدعوة الصحيحة:
• قوله: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي ﴾: انظر كيف وحَّد السبيل إليه، وهو سبيل الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأن طريق الحق واحدٌ لا تفرُّق فيه ولا اختلاف، بخلاف سُبل الباطل، فإنها كثيرة متنوعة، على رأس كلٍّ منها شيطان يدعو إليه، ويقود أتباعه إلى النار، وهكذا يجب أن يكون كلُّ الدعاة إلى الله -تعالى- في طريق واحد ومنهج واحد، هو الإسلام الحق، الذي بُعث به رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وكان عليه الصحابة والسلف - رضي الله عنهم - الذي تميَّز عن طريق البدع والضلالة التي كثُرت وافترقت، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود، وأحمد، والدارمي، والحاكم، في الفرقة الناجية: ((وهي الجماعة)).
وقال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي صححه الألباني: ((عليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المَهْدِيين من بعدي، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومحدثاتِ الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة))؛ فأصحاب الحق هم أهل السنة والجماعة، ومنهجهم الواضح لا يجوز أن يفترق فيه الناس أو يبتعدوا عنه، والتعدُّد الحاصل بسبب الاختلاف في المنهج بين موافقٍ ومخالف لطريقة السلف - تعدُّد مذموم، وشرٌّ على الدعوة والدعاة، وتفرقة للقلوب، وبثٌّ للضغينة والحسد والغِيبة والنميمة، وإنما يَتحمَّل وِزْرَ ذلك أهلُ البدع الذين خالفوا سبيل الحق الواحد، ثم على أهل السنة والجماعة في كل قطر من الأقطار - بل في كل مكان - أن يكونوا معًا في هذه السبيل؛ فهكذا كان رسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابتُه أمَّةً واحدة وطائفة واحدة؛ متعاونين على البر والتقوى كما أمرهم الله تعالى، فما بال كثيرٍ من الناس اليوم يحبِّذ الفُرْقة، وهو يعلم ما عليه المسلمون من تضييع الواجبات العينية والكفائية؟ ولا شك في عجز الأفراد عن القيام بهذه الواجبات مع تباعدهم وتفرُّقهم وعدم انتظامهم في سِلْك واحد، ولا تقوم دعوة من الدعوات - ولا عُلِم من سنَّةِ الله الكونية ولا الشرعية دعوةٌ قامت - بغير تعاون ووحدة وائتلاف، فكيف يتسنَّى لأهل منهج الحق أن يتفرَّقوا، ويكون غيرهم أحرصَ على الاجتماع منهم، أسال الله -تعالى- أن يؤلِّف بين قلوب المسلمين.
• وقوله -تعالى-: ﴿ أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ﴾: فيه نسبة هذه الدعوة إلى الله -تعالى- وما أشرفَها من نسبة! ولكن لا يتحقق هذا الانتساب، فتكون الدعوةُ ربانية حتى تكون ربانيةً في أصلها ومصدرها، وفى طريقها ومنهجها، وفى غايتها ومقصدها.
أولاً: أصلها ومصدرها:
بأن ترجع إلى الوحي المنَزَّل من عند الله -تعالى- كتابًا وسنة؛ فإن نقاء الأصل في نقاء الثمر وصحته وقوته:
قال -تعالى-: ﴿ اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ﴾ [الأنعام: 106].
وقال -تعالى-: ﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [الأعراف: 3].
وقال -تعالى-: ﴿ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ [النساء: 113].
وأما الدعوات التي تَتَّخذ من المناهج الكلامية، أو الطرق الفلسفية، أو آراء الرجال، أو تحكُّمات العقول - مصدرًا لها، فهي لا تستحق أن تكون دعواتٍ ربانية.
ثانيًا: الطريق والمنهج والوسائل:
لا بد أن تكون ربانية كذلك على منهج الأنبياء؛ فالغاية في الإسلام لا تبرِّر الوسيلة، بل الوسيلة من عند الله كما أن الغاية إليه وحده، وسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسيرة مَن قبله من الأنبياء، فيها البيان لوسائل الدعوة وطريقها، وما يقدَّم وما يؤخر، وما هي موازين المصالح والمفاسد؛ حتى لا تختلط الأمور، وتلتبس الأحوال.
ثالثًا: الغاية والمقصد:
فلا بد أن يكون وجه الله والدار الآخرة لا غير؛ وذلك من خلال العمل لإعلاء كلمة الله في الأرض: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110]، وليس التمكين في الأرض لطائفة الدعاة بغاية مقصودة لهم، بل هي من وسائل الدعوة لتحقيق العبودية لله في أكملِ صُوَرِها، وهو منَّة من الله ليست بيَدِ الدعاة ولا من كسبهم، قال -تعالى-: ﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 41].
وقد لا يتحقَّق التمكين، فلا بأس على الدعاة؛ لأن وسائل تحقيق العبودية كثيرة - بحمد الله - وإنما المهم ألا يقصّروا فيما يجب عليهم مما يقدرون عليه.
وأما الدعوات التي تجعل غايتَها التسلطَ على رقاب الناس، أو الظفَرَ بهم للانتقام منهم، أو السعيَ وراء الملك والجاه والثروة والراحة؛ تخلُّصًا من المطاردة والخوف والفقر، فليست بالدعوات الربانيَّة.
والمسلم الرباني عبدٌ لله في كل أحواله وأوقاته؛ فقيرًا كان أو غنيًّا، ممكَّنًا كان أو مستضعفًا، مظلومًا في ظلمات السجون، أو ملِكًا ممكَّنًا على رؤوس الناسِ؛ فندعو الله - سبحانه - أن يرزقنا الإخلاص والعمل الصالح في كل حين.
وهذه الربانية هي من سمات الدعوة إلى الله -تعالى- تعطيها صفةَ الثبات والاستقرار؛ فهي لا تتلوَّن بتلوُّن ما حولها، ولا تغيِّر جلْدَها ولا رايتها ولا ولاءها حسب المصلحة كسائر الدعوات الأرضية.
وتعطيها كذلك صفة العالمية: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ﴾ [يوسف: 104]؛ فليست منحصرة في بلد، أو قبيلة، أو شَعْب؛ أو طائفة، بل هي دعوة للإنس والجن إلى يوم القيامة.
وتعطيها كذلك صفة الواقعية؛ فهي لا تعيش في الخيال، ولا تحارب المعارِك في الخيال، بل تُبَدِّلُ الواقع - بإذن الله تعالى - إلى ما يوافق الإسلام، ويرضى عنه الرحمن.
ووصْفُ الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومَن اتبعه بالدعوة إلى الله - يدلُّ على لزومها ووجوبها، فكل مسلم يدعو إلى لله حسب علمه وقدرته، وإن لم يجدْ سوى نفسه، فليدْعُها إلى الله؛ ففي قوله -تعالى-: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾ [يوسف: 108] قال أبو جعفر الطبري: يقول - تعالى ذكره - لنبيِّه محمد -صلى الله عليه وسلم-: قل يا محمد: هذه الدعوة التي أدعو إليها، والطريقة التي أنا عليها من الدعاء إلى توحيد الله، وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأوثان، والانتهاء إلى طاعته وترك معصيته - سبيلي، وطريقتي، ودعوتي، أدعو إلى الله وحده لا شريك له، على بصيرةٍ بذلك ويقين وعلمٍ مني به، ويدعو إليه على بصيرة أيضًا مَن اتبعني وصدَّقني، وآمَنَ بي.
وقد قال -تعالى-: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104].
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم والترمذي والنَّسائي: ((مَن رأى منكم منكَرًا، فليغيِّرْه بيده، فإن لم يستطعْ فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)).
والدعوة إلى الله فرض كفاية، إذا قامت به طائفة من الأمة - حتى يوجد المعروفُ، ويزول المنكر - سقط الحرج عن الباقين، وإلا أَثِم كلُّ قادر بحسب تقصيره، سواء كان قادرًا بنفسه، أو بالتعاون مع غيره، فيقصر في هذا التعاون، أو قادرًا بأن يأمرَ غيره وينصحَهم بأن يدعوا إلى الله.
ولا بد حين أتكلَّم عن وجوب الدعوة إلى الله، أن نعلمَ أن مشاركة الجميع في الدعوة ليس لحاجة الدعوة إليهم؛ بل لأنهم هم الذين في حاجةٍ إلى الدعوة، ودينُ الله ماضٍ بهم أو بغيرهم، وهم لا يمشون إلا بدين الله، وإذا كان الله قد قال لخير الناس بعد الأنبياء - صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ﴿ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ [محمد: 38]، فكيف يَظن أحد أن الدعوة لا تمضي إلا به؟ ولهذا فلا يَمُن أحدٌ من الدعاة على الدعوة، ولا على إخوانه فيها، بل المنَّة لله - تبارك وتعالى - وحده على الجميع.
• وقوله -تعالى-: ﴿ عَلَى بَصِيرَةٍ ﴾: من أهم أسس الدعوة إلى الله؛ لأن الدعوةَ بالجهل تضر أكثرَ مما تنفع، والبصيرة للقلب كالبصر بالنسبة للعين، وبالبصيرة يفرِّق المؤمنُ بين الحق والباطل، والسنَّة والبدعة، والمصلحة والمفسدة.
ومقام الدعوة مقامٌ خطرٌ تَزِلُّ فيه أقدام، ويَضلُّ فيه أقوام، والانحراف فيه يمتد خطرُه أجيالاً، ويتحمل صاحبُه أوزارًا؛ ولذا كان تحصيل البصيرة من الفرائض على كل أحد، وعلى الدعاة إلى الله خصوصًا؛ لأن قرارَهم في كثير من الأحيان يتوقف عليه مصير أمَّتِهم.
ولقد ذكرتُ في مقدمة هذه الرسالة المباركة طرَفًا من الكلام عن حُكْم الدعوة وهدفها، ولكن حان الآن مجال التفصيل في ذلك، فأقول وبالله التوفيق:
تعريف الدعوة إلى الله -تعالى-:
إن الدعوة إلى الله -تعالى- هي الدعوة إلى دين الله - عزَّ وجلَّ - وهو الإسلام الذي جاء به الرسولُ محمد -صلى الله عليه وسلم- من عند ربه - تبارك وتعالى.
حُكم الدعوة إلى الله -تعالى-:
وحكم هذه الدعوةِ الفرضيةُ؛ فهي واجب وفرضُ عين على كل مسلم ومسلمة، كلٌّ بحسَبه وقدرته، ولا يخلو المكلَّف من قدرة، قال ابن كثير - رحمه الله - عند تفسير قوله -تعالى-: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104]، قال: "والمقصود من هذه الآية أن تكون فِرقةٌ من هذه الأمة متصدِّية لهذا الشأن، وإن كان واجبًا على كل فرد من الأمة بحَسبه"؛ اهـ.
فمعنى الآية: لتكونوا أمَّةً دعاة إلى الخير؛ آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر... و﴿ مِنْ ﴾ هنا - على هذا القول - للتبيين لا للتبعيض.
أو لتَكُنْ منكم أمَّة؛ وهم العلماء، و﴿ مِن ﴾ هنا تبعيضية، والأوَّل أصح، وهو ترجيح الرازي وابن كثير: أنه يجب على كل فرد، مع لزوم وجود فِرقة متصدِّية لشأن الدعوة إلى الخير.
ثم إن العلم ليس شيئًا واحدًا لا يتجزأ ولا يتبعض؛ وإنما - بطبيعته - يتجزأ ويتبعض، فمَن عَلِم مسألةً وجهِل أخرى، فهو عالِم بالأُولى جاهل بالأخرى، ومعنى ذلك أنه متوفِّر فيه شرط وجوب الدعوة، وهو العلم بالمسألة التي يدعو بها أو إليها، فمثلاً المسائل المعلومة من الدين بالضرورة تجب الدعوةُ إليها على جميع المسلمين؛ كوجوب الصلاة، والزكاة، وحرمة الزنا، وشُرب الخمر، وحرمة الفطر في رمضان للقادر، وما إلى ذلك.
وأما المشتبهات، فلا تجب على عموم الأمَّة؛ وإنما تجب على العلماء وطلاب العلم.
2- قال -تعالى-: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110]؛ فهذه الآية أفادت خيرية الأمَّة، وأن هذه الخيريةَ إنما جاءت لقيامها بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
3- قال -تعالى- في الآية التي معنا: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108].
فأتباعُ الرسول -صلى الله عليه وسلم- المؤمنون به، يدعون إلى الله على بصيرة؛ أي: علم ويقين، كما كان رسولُهم -صلى الله عليه وسلم- يدعو إلى الله على بصيرة ويقين، وهذا يدل على أن من اللوازم الضرورية لإيمان المسلم أن يدعو إلى الله - تعالى.
4- قال -تعالى-: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ [التوبة: 71].
وقال -تعالى- قبلها: ﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ ﴾ [التوبة: 67].
قال القرطبي - رحمه الله -:
"فجعل اللهُ -تعالى- الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر فَرْقًا بين المؤمنين والمنافقين؛ فدل على أن أخص أوصاف المؤمنين الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر، ورأسها الدعاء إلى الإسلام".
5- قال -تعالى-: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [المائدة: 78، 79].
والآيات كثيرة جدًّا في هذا الباب، واستقصاؤها مما يطول، فأكتفي بهذا القدر.
وأنتقل إلى السنة أستشف منها الأدلة:
وأول ما يطالعنا من دلالات السنَّة قولُ النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي رواه البخاري: ((بلِّغوا عني ولو آية)).
2- قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم: ((من رأى منكم منكرًا، فليغيِّرْه بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)).
3- قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم - أيضًا -: ((ما من نبي بعثه الله في أمَّة قبلي إلا كان له من أمته حَوَارِيُّون وأصحاب، يأخذون بسنَّته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تَخلُف من بعدهم خُلُوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمَن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبَّةُ خَرْدَل)).
4- قال -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح البخاري: ((مثَل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة؛ فأصاب بعضُهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استَقَوا من الماء مرُّوا على مَن فوقهم، فقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقًا، ولم نؤذِ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هَلَكوا وهَلَكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نَجَوا ونَجَوا جميعًا)).
ومع وجود الأدلة من الكتاب والسنَّة على وجوب الدعوة، فإن الواقع يدلِّل كذلك على وجوب الدعوة إلى دين الله تعالى؛ فالشرك والوثنية والجاهلية تغشَى مجتمعاتٍ كثيرة في إفريقيا وأمريكا وغيرهما من الأقطار، بل في بلاد المسلمين نفسها، وكذلك تلك الحملات الشرسة التي يصبُّها أعداءُ الإسلام من الكفار والزنادقة على الإسلام وأهله، التي أوجدتْ كثيرًا من الشبهات حول الإسلام والملتزمين به، ومحاولة إنشاء أجيال تكون حربًا على الإسلام وأهله، فكل ذلك يحتاج إلى جهود جبارة يشترك فيها جميع المسلمين، كلٌّ على حسَب استطاعته؛ بماله، أو بتعليمه، أو بفكره، أو بسلطانه.
لابد - أخي - من التحرك الدؤوب بهذا الدين؛ فالحركة وَلُودٌ، والسكون عقيم، والحركة في قاموس الدعاة إلى الله هي الحياة، والسكون هو الموت.
والحركة هي الحد الفاصل بين عهد الرخاوة وبين عهد حمل الأمانة بعزم وحزم ووفاء.
وبالحركة انتشر المسلمون الأوائل مِثل شعاع الشمس في أقطار الأرض؛ يفتحون البلاد وقلوب العباد، ويدْعون إلى التوحيد، ويحطّمون الطواغيت، ويقودون الناس إلى الجنة.
وبالحركة صاروا في ظلمات الحياة سراجًا وهَّاجًا، فإذا الباطل رمادٌ بعد التهاب، وخمود بعد حركة.
يقول الشاعر وليد الأعظمي:
كُنْ مِشْعلاً في جُنْحِ ليلٍ حالكٍ
يَهدي الأنامَ إلى الهُدى ويُبَيِّنُ
وانشَطْ لدِينِك، لا تَكنْ متكاسلاً
واعملْ على تحريكِ ما هو ساكنُ
وابدأْ بأهلِك إن دعوتَ فإنَّهم
أَوْلى الوَرَى بالنُّصحِ منكَ وأَقْمَنُ
واللهُ يأمرُ بالعشيرةِ أوَّلاً
والأمرُ من بعدِ العشيرةِ هيِّنُ
الحركة قيامة وبعث للرُّوح، قال -تعالى-: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ ﴾ [المدثر: 1، 2].
قال الأستاذ سيد قطب - رحمه الله -:
"تضمنت هذه السورة في مطلعها ذلك النداء العلوي بانتداب النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذا الأمر الجلل، وانتزاعه من النوم والتدثُّر والدِّفء، إلى الجهاد والكفاح والمشقة:
﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ ﴾... كأنه قيل: "إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحًا، أما أنت الذي تحمل هذا العبء الكبير، فما لَك والنوم، وما لك والراحة، وما لك والفراش الدافئ، والعيش الهادئ، والمتاع المريح؟.. قم للأمر العظيم الذي ينتظرك، والعبء الثقيل المهيأ لك، قم للجهاد والنَّصَب، والكدِّ والتعب، قم فقد مضى وقتُ النوم والراحة، وما عاد منذ اليوم إلا السهرُ المتواصل، والجهاد الطويل الشاق، قم فتهيَّأ لهذا الأمر واستعد.
إنها لكلمةٌ عظيمة رهيبة، تنتزعه -صلى الله عليه وسلم- من دفء الفراش في البيت الهادئ، والحضن الدافئ؛ لتدفع به في الخِضَمِّ بين الزعازع والأنداد، وبين الشدِّ والجذبِ في ضمائر الناس، وفى واقع الحياة سواء"؛ اهـ.
قال الغزالي - رحمه الله -:
"اعلم أن كل قاعد في بيته أينما كان، فليس خاليًا في هذا الزمان عن منكَر؛ من حيث التقاعد عن إرشاد الناس، وتعليمهم، وحملهم على المعروف؛ فأكثر الناس جاهلون بالشرع في الأعراب والأكراد والتركمانية، وسائر أصناف الخَلق، وواجبٌ أن يكون في كل مسجد ومحلة من البلد فقيهٌ يعلِّم الناس دينهم، وكذا في كل قرية، وواجب على كل فقيه فرغ من فرض عينه، وتفرغ لفرض الكفاية أن يخرج إلى ما يجاور بلده من أهل السداد، ومن العرب والأكراد وغيرهم، يُعَلِّمُهم دينَهم وفرائضَ شرعهم"؛ اهـ.
وهذا الإمام ابن الجوزي - رحمه الله - يناديك:
ألست تبغي القرب منه؟ فاشتغل بدلالة عباده عليه؛ فهي حالات الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - أمَا عَلِمت أنهم آثروا تعليم الخَلق على خلوات التعبد؛ لعلمهم أن ذلك آثَرُ عند حبيبهم، وهل كان شغل الأنبياء إلا معاناة الخَلق، وحثَّهم على الخير، ونهيَهم عن الشر؟!"؛ اهـ.
وهكذا شأن الدعاة دومًا، وعلى الداعية اليوم أن يكون رحَّالة سائحًا في محلات مدينته ومدن قطره، يبلِّغ دعوة الإسلام، انظر مثلاً: كيف كانت رسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تَسيح في البوادي، تبلِّغ الأعراب كلمة الإسلام، وتبشِّر به، ولم يكن ثَمَّة انتظار وُرودهم إلى المدينة، ألا ترى أن الأعرابي الذي سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أركان الإسلام، فلما أخبره بها، قال: "والله لا أزيد عليها ولا أنقص منها"، كيف كان قد بدأ سؤاله؟ أليس قد قال - كما روى مسلم -: "يا محمد، أتانا رسولُك، فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك"؟ أتاهم رسولُه داعيًا، وكذلك الناس تُؤتَى، ومَن انتظر أن الناسَ تأتيه، فليس بداعية.
وهذا شأن الدعوة التي تريد أن تصلَ إلى أهدافها، لا بد من تحرُّك ومبادأة، وغُدُو ورَوَاح، وتكلُّم وزعم، ليس القعود والتمني من طرق المواصلة، فافْقَهْ سيرة سلفك، وقلِّدْهم تصِلْ، وإلا فرَاوِحْ في مكانك، فإنك لن تبرحه، فليس إلا الداعية يفتِّش عن الناس، ويبحث عنهم، ويسأل عن أخبارهم، ويرحل للقائهم، ويزورهم في مجالسهم ومنتدياتهم، ومَن انتظر مجيء الناس إليه في مسجده، أو بيته، فإن الأيام تُبْقيه وحيدًا، ويتعلم فن التثاؤب!
محمود العشري
كاتب له عدد من الكتابات في المواقع الإسلامية
- التصنيف:
- المصدر: