فارس الكلمة والسيف
لم تأخذ من الدنيا شيئًا يا مصعب، ولكن هنيئًا لك يا مصعبَ الخيرِ، كما أحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يسمِّيَك، هنيئًا لك منزلة الشهداء، هنيئًا لك رفقة النبي صلى الله عليه وسلم بإذن الله.
أي رجلٍ هذا الذي يفعل ما فعله فارسُنا المِغوار؟!
أي عظيمٍ هذا الذي يُطِيق ويحتمل ما تحمَّله ذلك الشابُّ الهادئ الرزين، الذي ما إن كان يسير في طرقات مكة حتى تتابعه الأنظار بحب واهتمام؟!
خطِفَ الأبصارَ ببهاء طلته، وخطِف القلوب بطِيب خلقه ومعشره، وخطِف العقول بعذب حديثه وقوة فطنتِه.
هو رمزٌ للتضحية والبطولات، رمزٌ للإصرار والثبات على الحق مهما كانت المغريات، ومهما كانت العقبات.
كان نجمًا مضيئًا في سماء الإسلام، أضاء بكلماته وأخلاقه وأفعاله وبطولاته حياةَ المسلمين منذ أسلم حتى يومنا هذا.
شابٌّ بكى النبيُّ صلى الله عليه وسلم من أجله، وما أغلى دموعَ النبي صلى الله عليه وسلم! وما أعظمَها!
فمَن ذلك الذي سالت دموعُ المصطفى صلى الله عليه وسلم لأجلِه؟!
إنه أولُ سفير فيالإسلام، اختاره النبي صلى الله عليه وسلم ليكونَ واجهةَ الإسلام في يثرب قبل أن تضيء بنور الإسلام! إنه مصعبُ بن عُمَير، مصعب الخير كما سماه المصطفى صلى الله عليه وسلم، فتعالوا ننهَل من هذه السيرة العذبة علَّنا نقتدي به ونهتدي بمواقفه العظيمة.
كان مصعبٌ شابًّا تحبُّه القلوب وتتعلق به الأنظار، يرتدي أغلى الثياب، ويتعطر بأثمن العطور، تشمُّ الأنوف رائحته الذكية، فتُدرك دون أن تراه أن مصعبًا في الطريق فتتهلَّل الوجوه لقدومه، وتشرئبُّ الأعناق لرؤيته، وتحرص كل المجالس أن يكون مصعبٌ فيها.
كان مصعبٌ منعَّمًا مدللًا، يغدق عليه أبواه كل ما تشتهيه الأنفس وتتمناه، ولكنه ترك كل ذلك حين لامس نورُ الإسلام قلبه.
ثار القلب الطيِّب على الشرك وعبادة الأوثان حين تذوَّق حلاوة وروعة الإيمان، فكان من السابقين إلى الإسلام، فأسلم على يد الصديق أبي بكر رضي الله عنه، ولكنه كتم إسلامه، ليس خوفًا من بطش أهل قريش وآذاهم، ولكن خوفا من أمه وحبًّا لها، فقد كانت أغلى الناس لديه وأكثرهم هيبةً في قلبه.
تمر الأيام على مصعبٍ وهو يتسلل خُفيةً إلى دار الأرقم لينهَلَ منها من عذب الكلمات الربانية، ويتشبع قلبه بأنوار الأخلاق المحمدية، ولكن يحدث ما ليس في الحسبان، فها هي الأم القوية الرأي، الشديدة الطبع، تعلم بإسلام ابنها، فتثور ثائرتها، وتصبح كالأسد الهائج الذي لا يعرف عدوًّا من حبيب، فتَحرِمه من النعم التي كانت تفيض بها عليه، فيصبح مُعدَمًا بعد أن كان يرتَع في الخيرات والنعيم، لا يجد ما يستر به جسده سوى ملابس قديمة ومتواضعة.
يراه النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو بملبسه هذا، فيقول وابتسامة الرضا عن مصعب تغمر وجهه الكريم: ((لقد رأيت مصعبًا هذا، وما بمكة فتًى أنعم عند أبويه منه))، ثم ترك ذلك كله حبًّا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم!
ولا تستطيع الأم أن تثني القلب المغمور بنور الإيمان عن قراره، فتأمر بإحكام القيود والأغلال على فلذة كبدها، بعد أن يصر على موقفه، ويعلن تمسكه بالإسلام، وأنه لن يرضى بغيره دينًا.
كانتِ القيودُ تزداد عليه إحكامًا، فيزداد إيمانه قوة وصلابة.
وتمر الأيام على مصعب وهو على هذا الحال، ولكن تلوحُ في الأفق بادرةُ أمل، فيعرف الطريق إلى الهروب من الأغلال والقيود، ويفرُّ إلى الحبشة مع المهاجرين، وقد كان حاله وهو مهاجر تدمع له الأعين وترق له القلوب، فها هي قدماه تقطران الدم، ويبدو الإنهاك على وجهه، والإرهاق على جسده.
هاجر مصعبٌ إلى الحبشة، وظل هناك يعبُدُ ربه وينتظر العودة للعيش بين يدي نبيِّه وحبيبه صلى الله عليه وسلم، وتمر الأيام ويعود مصعب بالفعل إلى مكة، ولكن ها هي أمه تقف له ثانية بالمرصاد، وتُقيِّده من جديد، تحاول أن تثنيَه قرة عما هو عليه، لكنه يأبي إلا التمسُّك بعقيدته، وفي مشهد مهيبٍ يقف الابنُ المحب لأمه في مواجهتها، لم يكن يواجهها كأم، ولكنه كان يواجه الكفر في شخصها، يواجه الإصرار على الشرك بالله الأحد، ويعلنها قويةً أنه لن يتنازل عن دينه مهما حدث، وتخرُّ قُوَى الأم وعنادها أمام صلابة موقف ابنها وتتركه يمضي لحال سبيله.
وتُشرِق شمس جديدة في حياة مصعب بعد شمس الإرادة والثبات، إنها شمس الكلمة، شمس كانت سببًا في دخول الكثير من الصحابة الإسلام على يدَيْه، وذلك حين اختاره النبي صلى الله عليه وسلم ليذهب إلى المدينة ويعلَّم الناس الإسلام، ليكون بذلك أولَ سفيرٍ في الإسلام، وقد كان خيرَ مَن يقوم بهذه الرسالة العظيمة والمهمة الجليلة.
بدأ يتعرَّف أهل المدينة على الإسلام من خلال أسلوبه العذب، وكلماته الرقراقة، وعباراته المؤثرة، فدخل الكثيرون منهم في دين الإسلام عن حب واقتناع.
وفي موقف عصيب تتجلَّى لنا فطنة معصبٍ وحكمتُه، حين يعلم أُسَيد بن حُضَير بدعوة مصعب، وكان ما زال على الشرك، فتجري نيران الغضب في عروقه، فيسابق الريح حتى يصل إليه، فيقف له وجهًا لوجه طالبًا منه بحسم وقوةٍ الرحيلَ، مهددًا إياه بأشد تهديد، قائلًا له ولأسعد بن زُرَارة: "ما جاء بكما تُسفِّهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة".
موقف عصيب يتعرَّض له مصعب، ولكنه يتداركه ويحتويه بذكائه وحسن صنيعه حين يبتسم ابتسامة المحب، ويتلألأ وجهه بالود، قائلًا بصوت يملؤه السماحة وهدوء النفس:
"أَوَلَا تجلس فتستمع؟ فإن رضيتَ أمرنا قبِلتَه، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره؟" قال أُسيد: أنصفت.
استمع أُسَيد إلى كلام مصعب فسرى نور الإسلام في قلبه، ثم ظهر النور على وجهه وملامحه، وما هي إلا دقائق حتى تهتزّ طرقات يثرب فرحًا حين تسمع صوت أُسَيد بن حُضَير وهو يتلو الشهادتين، فيكون إسلامه فاتحةَ خيرٍ على أهل يثرب.
هكذا كان مصعبٌ يتسلَّل إلى القلوب برفقٍ عبر كلماته المشرقة، فيمتلكها بحب وذكاء.
وتمر الأعوام، وها هو العام الثالث من الهجرة، عام تُشرِق فيها شمس جديدة في حياة مصعب، ولكنها ليست كسابقاتِها من الشموس، إنها شمس الشهادة، فها هي غزوة أُحُد، وها هو مصعب يحمل راية المسلمين، وحين تشتد معمعة الحرب، ويخالف الرماةُ أمرَ النبي صلى الله عليه وسلم، وتنزل الهزيمة في ساحة المسلمين، ويحاول المشركون النَّيْل من النبي صلى الله عليه وسلم - يقف لهم مصعبٌ هو ونفر من الصحابة بالمرصاد، يدافعون عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيجعل جسدَه فداءً لحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويأبى أن تسقط رايةُ الإسلام، وخاصة حين تنتشر إشاعة مقتل النبي صلى الله عليه وسلم، فينادي مصعب في المسلمين: ﴿ {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} ﴾ [آل عمران: 144]، فينقضُّ عليه ابن قمئة الليثي ليقطع يده اليمنى، ولكنه لا يلتفت إلى يده المقطوعة، ولا إلى دمائه التي تسيل على أرض المعركة، ولا يكترث بالألم الجسدي الذي يعتريه، فكل ما يشغل بالَه ألا تسقط للإسلام رايةٌ، فيردد بقلب ثابت وعزم لا يضعف ولا يلين: ﴿ {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} ﴾ [آل عمران: 144]، ويقطع ابن قمئة يدَه اليسرى التي صارت هي الرافعةَ للواء الإسلام، فيحرص على الاحتفاظ بلواء الإسلام بين عَضُدَيه، ثم يصبح جسدُ مصعب مرتعًا للسهام، ورغم الجراح وآلامها، ورغم أهوال الحرب وصعابها، يعلو صوته وتزداد قوته مرددًا: ﴿ {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} ﴾ [آل عمران: 144]، ويخرُّ مصعبٌ شهيدًا بعدما تنال منه السهام وبعدما يستقر خنجر ابن قمئة في صدره الطاهر، وتمرُّ الحرب بكل ما فيها من آلام وجراح، ويسير النبي صلى الله عليه وسلم في أرض المعركة يتفقَّد أصحابه، فيرى ذلك الشاب البهي الطلعةَ مصعبَ بن عمير تنتشر في جسده الجراح، وتغمره الدماء، وتعلو وجهه ابتسامةٌ ليست كأي ابتسامة، ابتسامة لا تظهر سوى على وجوه الشهداء! ورغم ابتسامة الشهيد يبكي النبي صلى الله عليه وسلم حين لا يجد الصحابة ما يُكفِّنون به جسد الشاب الشهيد، فها هو الكفن يوضع على رأسه فتنكشف قدماه، ويوضع على قدمَيْه فتنكشف رأسه، ويبكي النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: ((غطُّوا رأسه، واجعلوا على رجلَيْه من الإذخر)).
وفي صحيح البخاري عن خبَّابرضي الله عنه قال: «هاجَرْنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نبتغي وجه الله، فوجب أجرُنا على الله، ومنَّا مَن مضى - أو: ذهب - لم يأكل مِن أجره شيئًا، كان منهم مصعب بن عمير، قُتِل يوم أحد، لم يترك إلا نَمِرَةً، كنا إذا غطَّينا بها رأسه خرجت رِجلَاه، وإذا غُطِّي بها رجلاه خرج رأسه، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: ((غطُّوا بها رأسه، واجعلوا على رجله الإذخر))» .
لم تأخذ من الدنيا شيئًا يا مصعب، ولكن هنيئًا لك يا مصعبَ الخيرِ، كما أحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يسمِّيَك، هنيئًا لك منزلة الشهداء، هنيئًا لك رفقة النبي صلى الله عليه وسلم بإذن الله.
هنيئًا لك، فها هي كلماتك التي ردَّدتَها وأنت تقاتل دفاعًا عن دينك تُصبِح وحيًا مِن عند الله، وقرآنًا يُتلى إلى يوم القيامة: ﴿ {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} ﴾ [آل عمران: 144].
هنيئًا لك وهنيئًا لكل فارس مِن فرسان الإسلام سار على دربك واقتدى بك في خُلُقك، اقتدى بك في ذكائك الاجتماعي ولباقتك ودعوتك إلى الإسلام بالرفق والحسنى والعقل الراجح والحوار الناجح.
هينئًا لكل مَن سار على دربك واقتدى بك في صمودك وإصرارك في الدفاع عن عقيدتك، والدفاع عن دينك.
هنيئًا لكل مَن رضي الله عنهم، اللهم اجعلنا من المقتدين بمصعب بن عمير، والمتخلقين بخلقه وعزيمته وإصراره، اللهم اجعلنا ممن رضيتَ عنهم كما رضيت عن مصعب.
رضا الجنيدي
كاتبة متخصصة في مجال الأسرة وداعية إسلامية
- التصنيف: