تنبيهات لتقويم الأقوال والمقالات (1-3)

منذ 2019-07-08

فعلَى مَن يختارُ أنَّ المرادَ بالكَبَر الطبلُ ذو الوجهينِ أنْ يَذكُرَ حُجَّةً واضحةً لتقديمِ هذا الرأي على ذاك.

تنبيهات لتقويم الأقوال والمقالات

مِثال تطبيقي: (مقال: سماع الصحابة في أعراسهم للمُوسيقى للدكتور العوني)

الدكتور منصور بن حمَد العيدي

 

 

الحمدُ لله ربِّ العالَمين، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وبارَك على نبيِّنا محمَّدٍ خاتَمِ الأنبياء والمرسَلين، وعلى آله وصحْبه أجمعين، أمَّا بعدُ:

 

فإنَّ معرفةَ المُثقَّفين عمومًا، وطلبةِ العِلم خصوصًا ضوابطَ وقواعدَ تُمكِّنُهم من تقييمِ الأقوالِ والمقالات، ومعرفةِ صَحيحِها مِن سقيمها؛ أمرٌ في غايةِ الأهميَّة؛ لكونه سببًا في سلامةِ دِينهم وأفكارِهم، ومعينًا على فَهْمِ كلامِ عُلمائِهم، وهذه الضوابطُ وتلك القواعدُ وإنْ كانتْ مبثوثةً في كتُب الأقدمين والمُحدَثين؛ إلا أن شأنَها شأنُ بقيَّةِ العلومِ والمعارِف تحتاجُ إلى تذكيرٍ وتنبيهٍ؛ فإنَّ العلم إذا لم يُدارس اندرَس، وممَّا يُعينُ على فَهمِ هذه الضوابطِ والقواعدِ أنْ يُضرَبَ لها المثالُ؛ ليَرسخَ في الذِّهن معناها، ويَعرِفَ القارئُ كيفيَّةَ تطبيقِها.

وقد رأيتُ أنَّ مقالَ الدكتور العونيِّ الذي يَذكُرُ فيه استماعَ الصحابةِ للمُوسيقى مثالٌ مناسِبٌ لتطبيقِ بعض الضوابطِ والقواعِدِ عليه؛ لكون قضيَّةِ المعازِفِ في هذه الأيامِ قضيَّةً ساخنةً يُدلي فيها كثيرون بدَلْوِهم، وإلَّا فإنَّ مقالي هذا ليس ردًّا على ما طرَحه الدكتورُ؛ فقد ردَّ عليه جمْعٌ؛ وإنَّما الغرَضُ منه تذكيرُ القُرَّاءِ الكرامِ وتَنبيهُهم إلى أمورٍ يَتمكَّنون بها مِن تقييمِ الأقوالِ والمقالاتِ ذاتِ المضامينِ الشرعيَّةِ في زمَنٍ كثُرَ فيه زُخرفُ القولِ، وسأجتهدُ -إنْ شاءَ اللهُ تعالى- في تسهيلِ هذه الوصايا والتنبيهاتِ بلُغةٍ مُناسِبة، جاعلًا إيَّاها على شَكلِ نقاطٍ:
 

التنبيه الأول: معرفةُ وجه الاستِدلال مهارةٌ لا بدَّ من إتقانِها:

سواءٌ كنتُ كاتبًا تريدُ أنْ تقيمَ دليلًا على ما تقولُ، أو قارئًا متَّزِنًا لا تَقبَلُ أنْ يَستغفِلَك كاتبٌ ما؛ فعليك أنْ تعرِفَ هذه المهارةَ = مهارةَ معرفةِ وجْه الاستِدلال؛ فإنْ كُنتَ تريدُ إثباتَ حُكمٍ أو فائدةٍ من النصِّ، فلا بُدَّ أنْ تُبيِّنَ العَلاقةَ والرابطَ بين النصِّ والفائدةِ؛ فإنَّ النصوصَ الشرعيَّة ليستْ على درجةٍ واحدةٍ من الوُضوحِ؛ فتارةً تكون شديدةَ الوضوحِ، فيُفهَم المرادُ منها لأوَّلِ وهْلةٍ، كدَلالةِ قولِه تعالى: {وَأَقِيموا الصَّلاةَ }[البقرة:43] على وجوبِ الصلاةِ، وتارةً تكونُ النصوصُ الشرعيَّةُ بحاجةٍ إلى إعمالِ ذِهنٍ؛ فلا يُفهَم منها المرادُ إلَّا بالتفكُّرِ فيها وتَطلُّبِ بيانِ وجْهِ الدَّلالةِ، والرُّجوعِ إلى العُلماءِ في ذلك.

خُذْ على سبيلِ المثالِ استِدلالَ الإمامِ البُخاريِّ -رحِمه اللهُ- بحديثِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (( «ما مِن أيَّامٍ العَمَلُ الصالحُ فيهنَّ أحبُّ إلى اللهِ مِن هذه الأيَّامِ العَشرِ» )) على فضْل أيَّامِ التشريقِ، مع أنَّ الحديثَ ليس في أيَّامِ التشريقِ، وإنَّما في الأيَّامِ العَشرِ الأُوَلِ من ذي الحَجَّةِ؛ فما الرابطُ بيْن فضْلِ أيَّامِ التشريقِ وبيْن هذا النصِّ؟ في مِثل هذه الحالةِ أنت بحاجةٍ إلى بيانِ وجْهِ الاستِدلال؛ ولهذا يَعتني شُرَّاحُ الصحيحِ بذِكرِ مُناسَباتِ تراجِمِ البخاريِّ وتوضيحِ عَلاقتِها بأحاديثه.

في مقال الدكتور العونيِّ نجده قدْ ذكَر بعضَ الفوائد، مثل: استِماع الصحابةِ للموسيقى في الأعراسِ، واستعمالَ الصحابةِ المزاميرَ، هذه الفوائدُ أو الأحكامُ لم يَذكُرْ لها سوى دليلٍ وحيدٍ نقَلَه مِن عِدَّة كتُب، وفيه: ضرْب الجواري الكَبَرَ والمزاميرَ في وقتِ صلاةِ الجُمُعةِ في عُرسٍ عندهم، وانصرافُ ناسٍ مِن خُطبةِ الجُمُعةِ إلى هذا العُرس؛ ليستمعوا الكَبَر والمزاميرَ! وهذا النصُّ كما ذكَرَه هو: ((فقد ثبت أنَّ بعض الصحابة رضي الله عنهم في أعراسهم كانوا يستعملون المزامير والكَبَر))

فالدكتورُ لم يَذكُرْ وجهَ الاستدلالِ ربَّما لوضوحِه عندَه؛ فعلَى القارئِ أنْ يتلمَّسَ ذلك بنفْسِه، وعندما يُحاولُ القارئُ أن يَربِطَ بين هذه الفوائدِ وبين النصِّ سيجدُ أنَّ المذكورَ في النصِّ: استِعمالُ الجواري لهذه الأشياءِ (الكَبَر والمزامير)، وليس فيه استعمالُ الصحابةِ لها، وفرْقٌ كبيرٌ بين استِعمالِ الجواري واستعمالِ الصحابةِ، كما لا يَخفَى.

يقولُ ابنُ رجب –رحِمه الله-: "وإنما كان يَضرِبُ بالدفوفِ في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم النِّساءُ أو مَن يُشبَّه بهنَّ مِن المُخنَّثينَ". ((فتح الباري لابن رجب 6/62))

فهذا النصُّ في أقصَى دَلالتِه إنَّما يدلُّ على: مُجرَّدِ الاستِماع إلى الكَبَر والمزامير، وليس هناك ذِكرٌ للموسيقَى كما قال الدكتور، وهذا يعني وُجودَ خللٍ بين الدَّليلِ والمدلول، وكان يُمكن اجتنابُه لو أَحْكَمَ وجهَ الاستِدلالِ؛ فإنْ كان صاحبُ المقالِ -وهو الدكتور- لم يُحكِمْ هذا الوجهَ؛ فكيف بالقارئِ العاديِّ؟! وعليه فعلَى كلِّ قارئٍ أن يَتنبَّهَ إلى وجهِ الاستِدلالِ، ولا يَقرأَ الكلامَ ويَدعَه يمرُّ عليه وهو لا يَستطيعُ أنْ يُقيِّمَ صِحَّتَه. وهنا أظنُّك -أيُّها القارئُ الكريم- تسألُ؛ هل هناك فرْقٌ بين الاستِماعِ إلى الكَبَر والمزامير، وبيْن الاستماعِ إلى الموسيقَى، أوليس المؤدَّى واحدًا؟ والجوابُ عن هذا في التنبيهِ الثاني:
 

التنبيه الثاني: أهميَّة استِعمال الألفاظِ والتراكيبِ الصَّحيحةِ التي تُطابِقُ مُرادَك وتتَّفقُ مع دَلالةِ بُرهانك:

 فكلمةُ الموسيقَى يُطلقُها كثيرونَ ويُريدونَ بها الآلاتِ الموسيقيَّةَ، لكنَّها في الأصلِ ليستِ الآلةَ الموسيقيَّةَ؛ وإنما هي ذلك الفنُّ الذي يُعنَى بتَلحينِ الكلماتِ، وتقطيعِ الأصواتِ على نِسَبٍ مُنتظِمةٍ.

والآلة: هي مُجرَّدُ أداةٍ لهذا الفِعلِ، كما أنَّ رِيشةَ الرسَّامِ ليستْ هي فنَّ الرسم؛ فالآلةُ الموسيقيَّةُ ليستْ هي الموسيقَى؛ وإنَّما هي أداتها، ولكنْ كما ذكرتُ يُطلِقُ كثيرونَ هذه الكلمةَ ويُريدون بها الآلاتِ؛ فعلَى كِلَا المعنيينِ -سواءٌ فسَّرْنا الموسيقَى بالفنِّ أو بالآلاتِ- فكلمةُ الموسيقَى لا تتَّفقُ مع دَلالةِ هذا الوصفِ الذي أتَى به الدكتورُ العونيُّ، واحتجَّ به على وقوعِ استِماعِ الصحابةِ للموسيقَى في العُرسِ.

نعمْ كِلا المعنيَينِ لا يتَّفق مع دَلالةِ النصِّ؛ فإنْ أُريد بالموسيقَى الآلاتُ الموسيقيَّةُ فلفظُ الحديثِ ليس فيه سوى نوعٍ مُحدَّدٍ منها، وهي الكَبَرُ والمزامير، والكَبَر والمزاميرُ ليستْ كلَّ الأدواتِ الموسيقيَّةِ، وليستْ أكثرَ الآلاتِ الموسيقيَّةِ، وإنْ أرادَ صاحبُ المقالِ بكَلمةِ الموسيقَى الفنَّ؛ فالموسيقَى أنواع شتَّى ( شرقيَّة - غربيَّة - مُوشَّحات - قديمة - حديثة)؛ فأيُّها المباحُ الذي استمَع له الصحابةُ؟ لم يُبيِّن ذلك المؤلِّفُ!

والطامَّة ستكون لو فُهِمَ مِن كلامِ المؤلِّفِ إباحةُ الأنواعِ الحديثة، مثل: موسيقى الراب، والروك، وما أشبهَ ذلك؛ بزعمِ أنَّ الصحابةَ استَمعوا الموسيقَى! لا شكَّ ستكونُ هذه طامَّةً عظيمةً؛ فلا وجهَ لها ولا دَلالةَ عليها من النصِّ.

فإنْ قلتَ: وما يمنَعُ فرْضَ أسوأِ الاحتمالاتِ، وهو إرادةُ المعنيينِ معًا (الآلات الموسيقيَّة- وفن الموسيقَى)؟

والجواب: سأذكرُه لك في التنبيهِ الثالث:
 

التنبيه الثالث: وقائع الأعيان وما جرَى مجراها ليس لها عُمومٌ:

ليس كلُّ خبرٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم يُفيدُ العُمومَ في جميعِ الأحوالِ والأزمنةِ والأماكنِ والأشخاصِ؛ ذلك أنَّ للعمومِ ألفاظًا تخصُّه، وبدَلالةِ هذه الألفاظِ نَعرِفُ أنَّ هذا النصَّ عامٌّ أو ليس بعامٍّ، وهذا ما ذَهب إليه السلفُ الصالحُ، وهو مُقتضَى اللُّغةِ العربيَّة، وهو الذي درَج عليه علماءُ الأُصولِ.

أمَّا الخبرُ الذي استدلَّ به الدكتورُ؛ فليس له عَلاقةٌ بألفاظِ العُمومِ، وإنما هو مِن جِنسِ وقائعِ الأعيانِ التي ليس لها عُمومٌ صادرٌ مِن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك يقولُ ابنُ رجب -رحِمه الله- في أحاديثِ الرُّخصةِ في استِعمالِ الدفِّ للنِّساءِ في النِّكاحِ، يقول: "فإنَّه ليس هناك نصٌّ عن الشارعِ بإباحةِ ما يُسمَّى غِناءً ولا دُفًّا، وإنَّما هي قضايا أعيانٍ وقَع الإقرارُ عليها، وليس لها من عُمومٍ". ((فتح الباري لابن رجب 6/60)).

ويقولُ الشاطبيُّ -رحِمه الله-: "إنَّ قضايا الأعيانِ لا تكونُ بمُجرَّدِها حُجَّةً ما لم يُعضِّدُها دليلٌ آخَرُ؛ لاحتمالِها في أنفسِها، وإمكانِ ألَّا تكونَ مُخالِفةً لِمَا عليه العملُ المستمرُّ ". ((الموافقات  3/254، 269 4/8)).

والقِصَّةُ المذكورةُ في الحديثِ الذي استدلَّ به الدكتورُ لا يُوجَدُ لفظةٌ عامَّةٌ، وإنَّما هو واقعةُ عينٍ ليس لها من عُمومٍ. فإنْ قُلتَ: توجدُ لفظةُ المزاميرِ، ولفظةُ المزاميرِ لفظةٌ عامَّةٌ صادرةٌ مِن الصحابيِّ.

فالجواب: إنْ سلَّمْنا بهذا وسلَّمْنا بأنَّ المرادَ من المزامير: آلاتُ عزْفٍ؛ فقُصارَى الأمرِ ونهايتُه هو إباحةُ المزاميرِ التي كانتْ بيدِ القومِ آنذاك، والتي وقَع عليها لفظُ الصحابيِّ، وليس إباحةَ المعازفِ برُمَّتِها؛ فالمزاميرُ أخصُّ من المعازفِ. وهذا أيضًا لا يُفيدُ إباحةَ جميعِ الآلاتِ الموسيقيَّةِ ولا فُنونَ الموسيقَى إلى قِيامِ الساعةِ؛ فالعمومُ الذي صدَر من الصحابيِّ لا تَدخُلُ فيه هذه الأشياءُ على الإطلاقِ؛ ذلك أنَّ ما جرَى وحدَّث به الصحابيُّ -إنْ ثبَت الحديثُ- هو واقعةُ عينٍ لا عُمومَ لها صادرًا من لفظِ النبيِّ عليه الصلاةُ والسلامُ.

وكل ما في الأمْرِ أنَّه كان مع القومِ مزاميرُ وقَع الإقرارُ عليها، ولا يُوجدُ لفظٌ نبويٌّ بإباحةِ المزاميرِ، وعلى المستدِلِّ بهذا الحديثِ على إباحةِ المزاميرِ أنْ يُبيِّنَ نوعَ المزاميرِ التي وقَع عليها الإقرارُ؛ فصارتْ مُرخَّصًا فيها، وعندَ ذاك نقولُ: على الرأسِ والعينِ. ولكن ليس له أنْ يُدخِلَ في هذا اللفظِ جميعَ آلاتِ اللهوِ والعَزفِ؛ وذلك لأنَّ العمومَ الصادرَ من الصحابيِّ لا يَدخُلُ فيه هذه الأشياءُ؛ وإنما يدخُلُ فيه ما تَعارَفَ عليه القومُ وقتَها.

والحال أنَّ العربَ آنذاك لم يكُنْ معهم مِن آلاتِ الطَّربِ إلا شيئًا بدائيًّا، ولا يَعرِفونَ آلاتِ الأعاجمِ في زَمانِهم، فضلًا عن أنْ يَستعمِلوها، فضلًا عن أنْ نَزعُمَ أنَّ الصحابيَّ يُريدُ بلفظ المزاميرِ: المعازِفَ بجميعِ أنواعِها إلى قِيامِ الساعةِ.

فإن اعترضتَ وقلتَ: هبْ أنَّها لا تَدخُلُ في العمومِ؛ فلماذا لا نقيسُ عليها؟ أليسَ القياسُ حُجَّةً في الشريعةِ؟ ومِن ثَمَّ نقيسُ على المزاميرِ غيرَها من آلاتِ المعازفِ!

 فالجوابُ في التنبيهِ الرابع:
 

التنبيهُ الرابع: القِياسُ الصَّحيح طريقٌ في الاستِدلالِ سليمٌ:

القياسُ الصَّحيحُ من الأدلَّةِ المُعتبَرةِ عند جماهيرِ الأصوليِّين، وهو: حمْل فرْعٍ على أصلٍ في الحُكمِ لعِلَّةٍ جامعةٍ بينهما، وقد بنَى عليه أربابُ المذاهبِ الأربعةِ المُعتمَدةِ كثيرًا من المسائِل، ولكن له شروطٌ؛ مِن أبرزِها: ألَّا يكونَ بيْن الأصلِ والفرعِ فارقٌ مؤثِّرٌ، وألَّا يكونَ للفرعِ حُكمٌ منصوصٌ عليه بنصٍّ مُخالِفٍ للأصلِ، إذا تبيَّن هذان الشرطانِ؛ فقياسُ جميعِ الآلاتِ الموسيقيَّةِ على المزاميرِ -إنْ قلنا: إنَّ المرادَ بالمزاميرِ أصلًا آلاتُ اللهو- هو قياسٌ غيرُ صحيحٍ؛ لوجودِ الفارِقِ المؤثِّرِ، وفي هذا يقولُ ابنُ رجب -رحمه الله-: "وليس الغناءُ والدفُّ المرخَّصُ فيهما في معنَى ما في غِناءِ الأعاجمِ ودُفوفِها المُصلْصَلةِ؛ لأنَّ غِناءَهم ودُفوفَهم تُحرِّكُ الطباعَ وتُهيِّجها إلى المحرَّماتِ، بخلافِ غِناءِ الأعرابِ؛ فمَن قاس أحدَهما على الآخَرِ فقدْ أخطأَ أقبحَ الخطأِ، وقاسَ مع ظُهورِ الفرْقِ بين الفرعِ والأصلِ؛ فقياسُه مِن أفسدِ القياسِ وأبعدِه عن الصوابِ". ((الفتح 6/60)).

ثم طفِقَ ابن رجب -رحِمه الله- يَذكُرُ النصوصَ المحرِّمةَ لآلاتِ المعازِف، والْحَظْ هنا: أنَّه رفَضَ قياسَ دُفٍّ على دُفٍّ -وهما متشابهانِ في الصُّورةِ- لوجودِ بعضِ الفروقِ، فماذا عساه يقولُ في الآلاتِ الحديثةِ التي تَذهَبُ بالعقولِ، وتُطرِبُ سامعَها ربَّما قهرًا، وتراهم يَتمايلونَ ويَصرُخون بحالٍ اللهُ أعلمُ بها؟!

أيصحُّ في الأذهانِ بعدَ ذلك أنْ نقيسَ هذا النوعَ مِن المعازِفِ والآلاتِ على تلك المُستعمَلةِ عندَ الأعرابِ، التي لا نَجدُها الآنَ إلَّا في دُورِ المتاحِف؟! فإذا علمتَ هذا، فلا تَعجبْ مِن أنَّ أصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كانوا أبعدَ الناسِ عن هذا القياسِ؛ ولهذا لَمَّا فُتِحتْ فارسُ والرُّومُ وظهَر للصحابةِ ما كان يتعاطاه الكُفَّارُ مِن غناءٍ مُلحَّنٍ وآلاتٍ مُطرِبةٍ؛ فحينَ ذاك أنكرَ الصحابةُ الغناءَ واستماعَه، ونَهَوْا عنه، وغلَّظوا فيه.

قال ابنُ رجب -رحِمه الله-: "وهذا يدلُّ على أنَّهم فهِموا أنَّ الغِناءَ الذي رُخِّصَ فيه لم يكُنْ هذا الغِناءَ، ولا آلاتُه هذه الآلاتِ، وأنَّه إنَّما رُخِّصَ فيما كان في عَهدِه ممَّا يَتعارَفُه العربُ بآلاتِهم". الفتح 6/59.

 أقول: فكيف لو شاهَدَ الصحابةُ -رضي الله عنهم- الآلاتِ الحديثةَ، وكيف لو رأوا مَن يقولُ عنهم: إنَّهم يستمعون الموسيقَى هكذا بإطلاقٍ؟!

إذا تقرَّرَ هذا؛ فهلْ يُمكِنُ أنْ نقولَ: إنَّ الحديثَ يدلُّ فقط على إباحةِ الطُّبولِ في الأعراسِ، وعلى إباحةِ المزاميرِ التي وقَع عليها الإقرارُ، إنْ علِمْنا أنَّه لا يوجدُ عندنا عمومٌ، وأنَّ القياسَ غيرُ صحيحٍ؛ فهل يُمكِنُ القولُ بجوازِ استعمالِ الطبولِ في الأعراسِ، وجوازِ استعمالِ المزاميرِ التي وقَع عليها الإقرارُ؟

فالجوابُ: في التنبيه الخامس:
 

التنبيه الخامس: ضرورةُ مراعاةِ أثَر الاحتِمالِ في دَلالةِ النَّصِّ

لا بُدَّ أنْ يراعيَ المستدِلُّ أنْ يكونَ ما يَستدِلُّ به ظاهرًا في معناه على أقلِّ الأحوال؛ فإنَّه إذا كان الدليلُ محتمِلًا لأكثرَ مِن وجهٍ، فسيُعترَضُ عليه، وبالمقابلِ فعلى القارئِ والمستمِعِ أنْ يَتفطَّنَ لمثل هذا، ولا يغترَّ ببعضِ الاستدلالاتِ التي تكونُ محتملةً لأكثرَ مِن وجهٍ.

يقولُ صاحبُ ((أنوارِ البُروق)): "الدليلُ مِن كلامِ صاحبِ الشرحِ إذا استوتْ فيه الاحتمالاتُ ولم يَترجَّحْ أحدُها، سقَط به الاستدلالُ". (( أنوارِ البُروق 2/100)).

نعمْ؛ ليس كلُّ احتمالٍ يُلتفَتُ إليه، وإنَّما الاحتمالُ الذي تَحتفُّ به القرائنُ، أو له مُستنَدٌ شرعيٌّ؛ ولهذا يُعبِّر بعضُهم بقولِه: لا حُجَّةَ مع الاحتمالِ المستنِدِ إلى دليلٍ.

 وعلى هذا فإذا كان صاحبُ الدليلِ سيختارُ معنًى من هذه المعانيِ المحتمِلة؛ فيجبُ أنْ يُقيمَ عليه الحُجَّةَ بأنَّه هو المرادُ، وأنَّ بقيَّةَ الاحتمالاتِ غيرُ مُرادةٍ، وليس له أنْ يختارَ تَشهِّيًا ما يُناسِبُه.

وفي مقال الدكتور العونيِّ: اختار أنَّ الكَبَرَ هو الطبلُ، وأنَّ المزاميرَ جمْع مِزمار، وفي مَقطعٍ له وصَفَه بأنَّه الزُّمَّارة أو الناي، وما ذَكَره الدكتور هو أحدُ المعاني الواردةِ فيهما، والواقع: أنَّ عددًا من أهلِ العِلمِ لا يُوافِقُه على ذلك، وبيانُ ذلك كما كالآتي:

أمَّا الكَبَر ففي كتابِ العين للخليل بن أحمد قال: "الكَبَر طَبلٌ له وجهٌ، بلُغةِ أهل الكوفة" ((1/361)).

وفي غريب الحديثِ لابن الجوزي، زاد فقال: "وكذلك قال ابنُ الأعرابي" ((2/278))، يعني أنَّه طبلٌ له وجهٌ واحدٌ.

وفي اللِّسانِ عندما فسَّر الكَبَر قدَّمَ هذا المعنى؛ قال: "طبْلٌ له وجهٌ واحدٌ" ((12/16)).

وأوْلَى ما حُمِلتْ عليه هذه المعاني هي الدُّفوفُ؛ لأنَّ الدُّفوفَ هي التي تكونُ لها وجهٌ واحدٌ، أمَّا الطُّبولُ فالغالبُ أنْ يكونَ لها وجهانِ.

نعمْ من العلماءِ مَن وصَفَ الكَبَرَ بأنَّه الطبْلُ ذو الوَجهينِ، ومنهم مَن يقولُ: طبْلٌ، ويَسكُتُ، ومنهم مَن يَذكُر القولينِ؛ يُقدِّم هذا تارةً والآخَرَ تارةً أخرى، ولستُ هنا بصددِ الترجيحِ بيْن هذه المعاني، وإنما مُرادي هو التأكيدُ على أنَّ في معنَى هذه المُفردَةِ عِدَّةَ احتمالاتٍ.

فعلَى مَن يختارُ أنَّ المرادَ بالكَبَر الطبلُ ذو الوجهينِ أنْ يَذكُرَ حُجَّةً واضحةً لتقديمِ هذا الرأي على ذاك.

بل إنَّني أقولُ: لو أنَّ شخصًا اختارَ أنَّ الكَبَر هو الدفُّ، مُستنِدًا إلى مشهورِ الأحاديثِ الصحيحةِ في إباحةِ الدُّفِّ في الأعراس في زمَن النبيِّ صلى الله عليه وسلم -وهذه سأشيرُ إليها لاحقًا- لكان هذا مِن أحسنِ الاستشهادِ ومِن أحسنِ الحُججِ؛ لأنَّ به يَحصُلُ التآلُفُ بيْن الأحاديثِ وتفسيرِ بعضِها ببعضٍ.