الفرص التي لا تعوض : (1-2)

منذ 2019-07-10

قال   صلى الله عليه وسلم  «مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ، فَلْيَتَعَجَّلْ، فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ، وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ، وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ»

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ   

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: كثيرا ما نسمع ونقرأ في مختلف الوسائل الإعلامية بعض الإعلانات، والدعايات التجارية عن عقارات أو معارض أو مجمعات تجارية فيها من التنزيلات والتخفيضات التي قد تشد الأنظار، لا سيما إذا رافقها بعض العبارات الملفتة للنظر كقولهم: (لا تدع الفرصة تفوتك)، وقولهم (فرصة العمر)، وقولهم (آخر فرصة)، وقولهم (فرصة لا تعوض)، وقولهم (حقق أحلامك ولا تدع الفرصة تفوت)، وقولهم (اغتنم الفرصة الأخيرة)، وقولهم (اغتنم الفرصة وتسوق قبل انتهاء فترة العرض)، ونحوها من كلامات وعبارات تجارية رنانة.

إننا نجد كثيرا من الناس قَصر وحجّر استخدام كلمة ((الفرصة)) على النواحي المادية، وقلما أن تستخدم في مكانها الحقيقي لتمثل فرصة العمر على حقيقتها، وأقصد أن تستخدم كلمة الفرصة لأمر الآخرة.

إن في حياة المسلم فرصا كثيرة لكسب الخير قد لا تعوض البتة طوال الحياة، وكثير من الناس لا يلتفتون إلى ذلك.

 فهناك فرص قد لا تتكرر في حياتك، فهلا انتبهنا لذلك؟!

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ   صلى الله عليه وسلم  لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: « «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ» »([1]).

 قوله   صلى الله عليه وسلم  اغتنم خمسا قبل خمس أي: اظفر على وجه المغالبة وقهر النفس خمس نِعَمٍ قبل خمس محن، فإن النعمة لا تدوم على ما هي عليه في جميع الأحوال؛ لأنه كما يقال من المحال دوام الحال، فالشباب يبلى ويذبل، والصحة تضعف وتنكمش، والمال ظِلٌ زائلٌ سرعان ما يذهب ويزول وينتقل من موروث إلى وارث، والفراغ نعمة من النعم التي يُغبن فيها الإنسان، وسرعان ما تأتي الشواغل على حين غفلة فيجد المرء نفسه عاجزا عن تحقيق مآربه وأحلامه؛ بل وحتى الواجبات التي عليه؛ لفوات وقت الفراغ وضياع الفرصة التي لم يغتنمها.

 والحياة أنفاس معدودة تنقطع بالموت في وقت ربما لا يكون في الحسبان، فيندم المرء على ضياع العمر فيما لا ينفع ولا يجديه ذلك الندم شيئا.

 فالفرصة إذا لم تُنتهز فهي غُصة ، قال خالد بن معدان : إذ فُتح  لأحدكم باب خير فليسرع إليه فإنه لا يدري متى يغلق عنه .

فاغتنم كما يقول لك الرؤوف الرحيم   صلى الله عليه وسلم  اغتنم خمس فرص قبل فواتها وأول تلك الفرص أن تغتنم شبابك قبل هرمك، أن تغتنم هذا القدر من العمر فيما ينفعك في دينك ودنياك ولا تضيعه في اللهو واللعب والشهوات.

 إن  الشباب هو زمن العمل الجاد لأنه فترة قوة بين ضعفين ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة، والشباب هو وقت القدرة على الطاعة على تمامها، والشباب ضيف سريع الرحيل فإن لم يغتنمه العاقل تقطعت نفسه بعده حسرات.

 إن الواحد منا يمرُ بعدة مراحل طوال حياته، فمرحلة الطفولة ثم مرحلة الشباب ثم مرحلة الكهولة ثم مرحلة الشيخوخة.

 ولقد رغب النبي   صلى الله عليه وسلم  بأن تكون مرحلة الشباب في حياة الفرد مليئة بالطاعات، ومرحلة الشباب هي التي لا يتجاوز فيها العمر على ثلاثين سنة، وما زاد عن ذلك حتى أربعين سنة يسمى المرء فيها كهلا، فالذي تجاوز الثلاثين سنة ولم ينشأ على طاعة الله فاتته فرصة عظيمة هي الاستظلال تحت ظل عرش الرحمن يوم القيامة؛ يوم تدنو الشمس من الخلائق بمقدار ميل فيغرق الناس في العرق على قدر أعمالهم. قال   صلى الله عليه وسلم  " « سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله وذكر منهم شاب نشأ بعبادة الله» ..."([2]) .

 فيا حسرة الرجل منا الذي تجاوز الثلاثين عاما ومرت عليه مرحلة الشباب ولم ينشأ على طاعة الله، إنها فرصة فاتت ولن تعوض.

 أخي المسلم فإذا فاتتك هذه الفرصة التي لن تعوض البتة فلا يفتك أن تعلق قلبك بالمساجد، وأن تخفي صدقتك كي لا تعلم شمالك ما أنفقت يمينك، وأن تفيض عينك عند ذكر الله خاليا؛ كي لا تُحرم من الاستظلال تحت ظل عرش الرحمن.

أما الفرصة الثانية فهي أن تغتنم (صحتك قبل مرضك).

أي أن تظفر بالوقت الذي تكون فيه صحيح الجسم لتقضيه في ميدان العمل الصالح، وأن لا تؤخر فضيلة من الفضائل وتقول حتى أكبر وأتفرغ، فإنك لا تدري هل تظل صحيحا معافا، أم يعتريك ما يعل صحتك ويقلل نشاطك، فتقول يا ليتني صليت من الليل، ويا ليتني صمت من النوافل، ويا ليتني بذلت جهدي وقت قوتي في الدعوة إلى الله ونحو ذلك.

كما إنها فرصة عظيمة أن تكثر من الأعمال الصالحة وقت صحتك لكي يكتب لك الثواب كاملا في حال مرضك، فقد صح عن النبي   صلى الله عليه وسلم  أنه قال: «إِذَا مَرِضَ العَبْدُ، أَوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا»([3]).

 وأما من لم يستغل صحته قبل مرضه بكثرة الأعمال الصالحة فسيفوته الخير الكثير، وسيندم في حين لا ينفع الندم. فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ   صلى الله عليه وسلم : « «مَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُصَابُ بِبَلَاءٍ فِي جَسَدِهِ، إِلَّا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى الْحَفَظَةَ الَّذِينَ يَحْفَظُونَهُ، قَالَ: اكْتُبُوا لِعَبْدِي فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِثْلَ مَا كَانَ يَعْمَلُ مِنَ الْخَيْرِ، مَا دَامَ مَحْبُوسًا فِي وَثَاقِي» »([4]).

فاغتنام فرصة صحتك قبل مرضك: هو أن تبادر إلى شتى الطاعات قبل حلول المفاجئات ولهذا رغب النبي   صلى الله عليه وسلم  أيضا بالتعجل بالحج خشية مفاجئة المرض فقال   صلى الله عليه وسلم  « «مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ، فَلْيَتَعَجَّلْ، فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ، وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ، وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ» »([5]).

وَعَنْ شَقِيقٍ  رضي الله عنه  قَالَ: «مَرِضَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ  رضي الله عنه  فَعُدْنَاهُ فَجَعَلَ يَبْكِي، فَعُوتِبَ. فَقَالَ: إِنِّي لَا أَبْكِي لِأَجْلِ الْمَرَضِ؛ لِأَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ   صلى الله عليه وسلم  يَقُولُ: " «الْمَرَضُ كَفَّارَةٌ» " وَإِنَّمَا أَبْكِي لِأَنَّهُ أَصَابَنِي عَلَى حَالِ فَتْرَةٍ، وَلَمْ يُصِبْنِي فِي حَالِ اجْتِهَادٍ لِأَنَّهُ يُكْتَبُ لِلْعَبْدِ مِنَ الْأَجْرِ إِذَا مَرِضَ مَا كَانَ يُكْتَبُ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَمْرَضَ، فَمَنَعَهُ مِنْهُ الْمَرَضُ» "([6]). فاغتنم صحتك قبل مرضك.

أما الفرصة الثالثة أن تغتنم فرصة غناك قبل فقرك؛ بأن تكثر من الصدقات وبذل المال في وجوه الخير، قبل تغير أحوالك الاقتصادية أو قبل تغير أحوال المجتمع الذي من حولك.

فإن أعظم الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان.

 إنها فرصة أن تتعرف على الله في الرخاء ليعرفك في الشدة، كما ويحتمل أن يكون معنى قوله   صلى الله عليه وسلم  (وغناك قبل فقرك) أن يكون هذا إنذارا للغني من الفقر إذا لم ينفق من ماله في وقت الغنى؛ لا سيما أن رسول الله   صلى الله عليه وسلم  أخبرنا بأن هناك ملكين يدعوان كل صباح اللهم أعط كل منفق خلفا وأعط كل ممسك تلفا.

لقد أخبرنا الله عز وجل بأن المسلم ليتمنى إذا مات أن لو أعطي فرصة أخرى للعودة إلى الحياة لا ليتمتع فيها أو يلهو فيها وإنما ليتصدق ويكون صالحا ويبادر إلى الفرص التي فاتته طوال حياته، قال الله تعالى( {وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لو لا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين * ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون} ).

الفرصة الرابعة أن تغتنم فراغك قبل شغلك.

 أي أن تغتنم أوقات الفراغ في شغل النفس بما ينفعك، فالنفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، أن تغتنم فرصة فراغك لتصرفه ليس في سياحة ولا لهو، وإنما فيما ينفعك في أمر دينك ودنياك.

أن تستغل هذا الفراغ الذي يكثر في مرحلة الشباب وقبل تحمل المسؤوليات أن تستغله في حفظ كتاب الله وتعلم العلم الشرعي؛ لأنك إذا كبرت قد تخجل أن تتعلم، وقد يصعب عليك الحفظ بل ولا تجد الوقت الكافي للتعلم؛ لأنك ستكتشف أن الواجبات أكثر من الأوقات، ولهذا صدق عمر بن الخطاب  رضي الله عنه  حينما قال: "تعلموا العلم قبل أن تسودوا".

 أي تعلم قبل أن تصبح مسؤولا وتشغل فلا تجد الوقت للتعلم؛ كما إن الاستفادة من العلماء والتعلم منهم عن قرب قبل موتهم فرصة لا تعوض، وقد قال   صلى الله عليه وسلم : « «إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» »([7]).

ففرصة عظيمة أخي المسلم أن تغتنم فراغك قبل شغلك.

الفرصة الخامسة والأخيرة في هذا الحديث أن تغتنم حياتك قبل موتك؛ بأن تقدم لنفسك ما ينفعك بعد موتك، ولا تسوف حتى إذا جاء الموت قلت يا ليتني قدمت لحياتي، يا ليتني تصدقت ويا ليتني صمت ويا ليتني صليت ويا ليتني فعلت؛ فيكون حالك كحال الذين قال الله تعالى عنهم ( {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى{23} يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} ).

 

([1])  رواه الحاكم (7846).

([2])  رواه البخاري (660)، ومسلم (1031).

([3])  رواه البخاري (2996).

([4])  رواه الإمام أحمد (6870)

([5]) رواه الإمام أحمد (1834).

([6])  مرقاة المفاتيح (1586)

([7])  رواه الإمام مسلم (2673).