الحج...الولادة الجديدة.

منذ 2019-08-02

الحج إذن ولادة جديدة...حياة جديدة...إيمان جديد .فما هو سر هذه العبادة ؟

قال ابن قيم الجوزية رحمه الله: "كما أن الإنسان لا حياة له حتى ينفخ فيه الملك الذي هو رسول الله من روحه، فيصير حيا بذلك النفخ، و كان قبل ذلك من جملة الأموات، و كذلك لا حياة لروحه و قلبه حتى ينفخ فيه الرسول من الروح الذي ألقى إليه". إن للإنسان حياتين: الأولى بيولوجية تبدأ لحظة وجوده جنيناً في رحم أمه و تنتهي وقت مغادرته الدنيا. فبين الحياة و الوفاة، أكل و شرب، نوم و يقظة، شغل و بطالة، عافية و سقم، زواج وإنجاب...

و أما الثانية فهي الحياة الإيمانية، و تبدأ يوم يباشر الإيمان بشاشة قلب الإنسان، يوم يشهد حقا و صدقا ألا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله، يوم يجعل نفسه وقفا لله، مستسلما لأمره، راضيا بقضائه،وقّافاً عند حدوده. هذه الحياة الإيمانية ينتابها-ما ينتاب الحياة البيولوجية-من أسقام و وهن و كسل، و كما أن للأمراض الجسدية أدويتها فكذلك لأمراض الروح الأدوية الشافية و الوصفات الواقية. انها العبادات: الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر،الصيام يرفع منسوب التقوى، الزكاة تطهر من البخل و الشح و الانانية،و الحج الركن الخامس الذي مهما عددناآثاره التربوية لن نحصيها،هذا المقال سيتطرق لبعضها. قال صلى الله عليه و سلم: "من حج لله فلم يرفث و لم يفسق رجع كيوم ولدته أمه."

الحج إذن ولادة جديدة...حياة جديدة...إيمان جديد .فما هو سر هذه العبادة ؟

و ما هي القيم التي يزرعها في قلب الإنسان تجدد خلاياه الإيمانية، فيغدو كأنه مولود جديد ؟

1- الحج استجابة لأذان إبراهيم عليه السلام.

قال الله تعالى لسيدنا إبراهيم:

"وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا و على كل ضامر يأتين من كل فج عميق." الحج.27.

وقف إبراهيم في مكان غير ذي زرع، لم يكن أحد يسمعه، أمره الله تعالى بالأذان فأذن. كان الله عزوجل يقول له: عليك الأذان و علينا البلاغ.

و كان من قدر الله و قدرته أن بلغت دعوة ابراهيم مسامع الناس من المشرق الى المغرب، منذ ذلك الوقت إلى قيام الساعة.

فترى كل حاج يجيب داعي الله قائلا: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، ان الحمد و النعمة لك و الملك، لا شريك لك."

تلبية هي عنوان الإخلاص، عنوان توحيد رب العالمين و عدم الاشراك به نية و قولا وعملا، كما في حديث جابر رضي الله عنه في وصف حجة النبي صلى الله عليه و سلم قال: "فأهل بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد و النعمة لك و الملك لا شريك لك لبيك." رواه مسلم.

2-"خذوا عني مناسككم."

إن مدرسة الحج تربي الفرد على الاقتداء و التأسي بالنبي صلى عليه و سلم في جميع ما يأتي و ما يذر. فكثيرة هي المناسك التي لا نعلم الحكمة من ورائها، هي توقيفية، نفعلها اتباعا لمحمد صلى الله عليه و سلم. و لعل موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكشف عن أهمية الاتباع في هذه المناسك، فقد روى البخاري عن عمر بن الخطاب أنه عندمااستلم الحجر الأسود، قال: أما و الله إني لأعلم أنك حجر لا تضر و لا تنفع و لولا إني رأيت النبي استلمك ما استلمتك."

يستلم عمر الحجر، و يكشف عن نيته: اتباع المصطفى، و ان لم يظهر له المقصد.

3-وحدة الامة.

إن شعيرة الحج تربي على استشعار الاخوة الاسلامية من خلال لقاء الحاج بإخوانه من شتى بقاع الارض. الناس هناك سواسية، لباسهم واحد، أعمالهم و شعائرهم واحدة، قبلتهم واحدة، لافضل لعربي على عجمي، و لا لغني على فقير...

كلهم تجمعهم وحدة المشاعر، وحدة الشعائر، وحدة الهدف و القصد، ما أحوجنا أفرادا و جماعات إلى فقه هذه الرسائل التربوية العميقة في زمن غدت أمتنا قصعة تداعى إليها أكلتها، و ما جرأهم عليها إلا ضعف و تصدع الجبهة الداخلية، و اشتعال نيران الطائفية الهوجاء شرقا و غربا.

فهل من عودة الى ثقافة الجسد الواحد التي قال فيها رسول الله، عن النعمان بن بشير قال، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "مثل المؤمنين في توادهم و تراحمهم و تعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى.

4-ترويض النفس على الصبر و بذل الخير.

قديما، كان الناس يحجون على أرجلهم أو ممتطين دوابهم، يقطعون المسافات الطوال، منهم من يموت قبل أن يصل إلى بغيته، قد تستغرق رحلة الحج سنة أو أكثر، لذلك كان الحاج عندما يريد الخروج يودع وداعا حارا،لأنه قد لا يعود من هذه الرحلة الشاقة.

أما الآن، فالرحلة غدت أسهل، ما هي إلا ساعات، فيجد الحاج نفسه بأرض الحجاز .لكن و رغم تحسن الظروف، فالحاجة إلى ضبط النفس و الصبر كبيرة.

في مكان محدود، يضم ملايين الحجاج، لابد للإنسان أن يستدعي صبره، حلمه، صفحه، تسامحه، و إيثاره، بل و كرمه و بذله و إحسانه.

إن الحج رحلة تسفر عن أخلاق الرجال، قال تعالى: "الحج أشهر معلومات، فمن فرض فيهن الحج فلا رفث و لا فسوق و لا جدال في الحج، و ما تفعلوا من خير يعلمه الله، و تزودوا فإن خير الزاد التقوى و اتقون يا أولي الألباب "البقرة:197

5-تعميق التقوى.

منذ بداية الحج، و المسلم يراقب الله و يلزم باب التقوى، لا رفث، لا فسوق، لا جدال، قصده لله، دعاؤه لله. في زحام الطواف مع ألوف من الناس، يغض بصره، و يحفظ قلبه، و جوارحه عما لايحل.

ما أحوجناإلى هذه الشفافية الشعورية و الحساسية الإيمانية.

و ما أحوجنا إلى التقوى تؤطر علاقتنا الأسرية، العملية، والإجتماعية، إذ كلما عمق الإنسان التقوى في قلبه. كلما غدا أكثر إخلاصا لرب العالمين، أكثر إتقانا في عمله،و أكثر جاذبية في أخلاقه.

6-الأسرة الإبراهيمية و ذكريات أخرى. الحج يذكرنا بأبينا إبراهيم، توحيده، هجرته، تركه أسرته بجنب البيت العتيق، تقديمه محبة الله عزوجل على محابه الشخصية. يذكرنا بأمنا هاجر الصبورة المتوكلة، و هي تودع إبراهيم و قد تركها وحدها مع وليدها بواد غير ذي زرع، تخاطبه قائلة: أ الله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت في يقين: إذا لن يضيعنا. فلا زالت ساعية بين الصفا و المروة تنشد أسباب الرزق و النجاة لها و لوليدها، فكافأها رب العزة بزمزم، عين لا تنضب إلى قيام الساعة، و بتخليد فعلها ليصير ركنا من أركان الحج و العمرة.

و يذكرنا بإسماعيل عليه السلام، بطاعته لأبيه، باستسلامه لأمر الله: "يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين." و يذكرنا برسول الله، بمكان ولادته،بأحب البقاع إلى قلبه :مكة . يذكرنا بالحكاية من البداية، بما لاقاه الحبيب صلى الله عليه و سلم من أذى هو وصحابته الكرام، ببلال رضي الله عنه و هو يعذب تحت الرمضاء و هو ثابت يردد :أحد أحد...و بخباب و هو يشكو إلى رسول الله شدة العذاب، و الرسول يؤكد له أنهامجرد أزمة و ستمضي،و ما بعدها سيكون التمكين للإسلام... يذكرنا بالأنصار و مدينتهم،كيف احتضنوا الدعوة، و آووا المهاجرين و آثروهم على أنفسهم... يذكرنا بالنفوس الكبيرة كيف تعيش لمبادئها، و تستعلي على مصالحها ،فيكون الجزاء تخليدا لذكرها في العالمين، و رفعا لمقامها يوم الدين. و أخيرا...

الحج عبادة عظيمة جمعت بين بركتي الزمان و المكان، عبادة حبلى بالقيم التي ما استوطنت ضمير الأمة -أفراداأو جماعات- إلا و رفعتها إلى مشارف الحضارة.

فهنيئا لمن ذاق و عرف.

هنيئا لمن مارس و احتسب.

هنيئا له حجه المبرور... هنيئاً له الولادة الجديدة.

 

كتبته: خديجة رابعة.

يومه ١٠غشت.