عصرة التوبة ولذة الإنابة إلى الله

منذ 2019-09-03

فإن غلبته نفسه الأمارة بالسوء, ووقع في شرك الشيطان, وارتكب الذنوب, فليبادر بالتوبة, وليحذر من التسويف, فإنها من جنود إبليس


الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فالشيطان عدو شديد العداوة للإنسان, فينبغي أن يتخذه عدواً له, قال الله عز وجل:  {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير}  [فاطر:6] فمن لم يتخذه عدو زين له ارتكاب المعاصي, ليكون من حزبه في أصحاب السعير.

والشيطان يزين للمسلم المعصية بدعوى أنه سيتوب منها, وهو خداع منه ليوقعه في المعاصي, قال الله سبحانه وتعالى:  {يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغُرنكم بالله الغرُور} [فاطر:5] قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: أي لا يفتننكم الشيطان عن اتباع رسل الله وتصديق كلماته فإنه غرار كذاب أفاك.

فالمسلم ينبغي له الحذر من خداع الشيطان, فقد يقع في الذنوب والمعاصي على أنه سوف يتوب منها, ثم قد لا يوفق للتوبة, ويحال بينه وبين ذلك, فيندم غاية الندم, وتعظم حسرته حين لا ينفعه الندم, فالحذر الحذر, فالسلامة لا يعدلها شيء.

فإن غلبته نفسه الأمارة بالسوء, ووقع في شرك الشيطان, وارتكب الذنوب, فليبادر بالتوبة, وليحذر من التسويف, فإنها من جنود إبليس, فالعاقل إذا زلّ تدارك ذلك بالتوبة, وليأخذ بالأسباب التي تجعله يبادر إلى التوبة والإنابة إلى الله, فيسأل الله ويدعوه بصدق وإخلاص أن يتوب عليه, كما أن عليه أن يبتعد عن كل أمرٍ كان سبباً في وقوعه في تلك الذنوب, وأن يقاطع كل من كان سبباً في إعانته على تلك الذنوب, فعن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( « إن رجلاً قتل تسعة وتسعين نفساً ثم عرضت له التوبة...فدُلَّ على رجل عالم فقال : إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة ؟ قال : نعم ومن يحول بينه وبين التوبة ؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فأنها أرض سوء» ) [متفق عليه] قال الإمام النووي رحمه الله: قال العلماء: في هذا استحباب مفارقة التائب المواضع التي أصاب بها الذنوب, والأخدان المساعدين له على ذلك, ومقاطعتهم ما دموا على حالهم, وأن يستبدل بهم صحبة أهل الخير والصلاح والعلماء والمتعبدين الورعين, ومن يقتدي بهم, وينتفع بصحبتهم, وتتأكد بذلك توبتهم

فيا سعادة من استيقظ من غفلته, وتاب من ذنوبه, وندم على تقصيره, والتوبة لا بدَّ لها في بدايتها من عصرة, ونوع ألم لفقد ما كان يجده التائب من لذة موهومة في ذنوبه ومعاصيه, قال العلامة ابن القيم رحمه الله: كل تائب لا بد له في أول توبته من عصرة وضغطة في قلبه, من هم أو غم أو ضيق أو حزن, ولو لم يكن إلا تألمه بفراق محبوبه, فينضغط لذلك وينعصر قلبه, ويضيق صدره.

فعلى العبد التائب أن يتحمل ويصبر, فالمريض يصبر على مرِّ الدواء طلباً للشفاء, فهي عصرة تعقبها لذة ومسرة, يُعينُ العبد التائب على تحملها أمور, من أهمها:

** يقينه أن التوبة وهي: الرجوع من معصية الله إلى طاعته, من أسباب محبة الله جل جلاله له, قال عز وجل: {إن الله يحبُّ التوابين ويحبُّ المطهرين }  [البقرة:222] وهذه المحبة من أكبر النعم, وأعظم المنح, أن يكون العبد ممن يحبهم الله جل جلاله, وأن يكون من عباده الفائزين, وأوليائه المتقين, وحزبه المفلحين, بعد أن كان من أولياء الشيطان, وحزبه الخاسرين.

** أن توبته علامة أن الله الكريم أراد به خيراً, ويا لها من نعمة أن يريد الله الكريم بعبده الخير, قال العلامة ابن القيم رحمه الله : إذا أراد الله بعبده خيراً فتح له باباً من أبواب التوبة والندم.

** أن يستشعر أن حياته بعد التوبة ستكون حياة جديدة, حياة مختلفة, حياة سيجد فيها عز الطاعة بعد أن ذاق ذل المعصية, وسيذوق فيها طعم السعادة بعد أن ذاق مرارة الشقاء, وسيشعر بطمأنينة في قلبه, وسكينة في نفسه, وانشراح في صدره, بعد أن كان فاقداً لها, لا يعرف إلا الهموم والغموم والضيق والأحزان.

** أن يستشعر أن الله الكريم يفرح بتوبته قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( «لله أشدُّ فرحاً بتوبة عبده من أحدكم براحلته» ...)[الحديث...متفق عليه] قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: في هذا الحديث: إثبات الفرح لله عز وجل...وإنه فرح حقيقي,..ولكنه ليس كفرح المخلوقين...فرح يليق به عز وجل, مثل بقية الصفات...ويستفاد من هذا الحديث...كمال رحمته جلَّ وعلا ورأفته بعباده, حيث يحب رجوع العاصي إليه...فأنت إذا علمت أن الله يفرح بتوبتك هذا الفرح الذي لا نظير له, لا شك أنك سوف تحرص غاية الحرص على التوبة. 

والله جل جلاله يجازي التائب فرحاً عظيماً, قال العلامة ابن القيم رحمه الله: العبد لينظر إلى الفرحة التي يجدها بعد التوبة النصوح, والسرور واللذة التي تحصل له, والجزاء من جنس العمل, فلما تاب إلى الله, ففرح الله بتوبته, أعقبه فرحاً عظيماً.

** أنه على قدر صبره وتحمله لعصرة التوبة سيكون قدر فرحه وسروره بعد توبته, قال العلامة ابن القيم رحمه الله: والفرحة والسرور واللذة الحاصلة عقيب التوبة, تكون على قدر هذه العصرة, فكلما كانت أقوى وأشد, كانت الفرحة واللذة أكمل وأتم. 

فإن ضعفت نفسه وعاد ثانية لطريق المعاصي, فلا ييأس من التوبة, فمهما أسرف العبد على نفسه من الذنوب والمعاصي فربنا غفور رحيم, قال الله سبحانه وتعالى:  { قُل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمةِ الله إن الله يغفرُ الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم } [الزمر:53] قال العلامة عبدالرحمن السعدي رحمه الله: أي: لا تيأسوا...فتلقوا بأيديكم إلى التهلكة, وتقولوا قد كثرت ذنوبنا, وتراكمت عيوبنا, فليس لها طريق يزيلها, ولا سبيل يصرفها, فتبقون بسبب ذلك مصرين على العصيان..ولكن اعرفوا ربكم, بأسمائه الدالة على كرمه وجوده, واعلموا:  {إن الله يغفر الذنوب جميعاً

وقبل الختام فالتائب من ذنوبه قد يبتلى لمعرفة هو هل صادق في توبته, أم أنه غير ذلك, فقد تتنكد عليه بعض الأمور, فعليه أن يكون صادقاً في توبته, وأن يصبر على البلاء, وسيعقب ذلك كل خير, قال العلامة ابن القيم رحمه الله: قال لي غير واحد: إذا تبت إليه, وأنبت, وعملت صالحاً, ضيق على رزقي, ونكّد عليَّ معيشتي, وإذا راجعت معصيته, وأعطيت نفسي مرادها, جاءني الرزق والعون, أو نحو هذا...فقلت لبعضهم: هذا امتحان منه, ليرى صدقك وصبرك, وهل أنت صادق في مجيئك إليه, وإقبالك عليه, فتصبر على بلائه, فتكون لك العاقبة, أم أنت كاذب, فترجع على عقبك.

اللهم وفق كل مذنب – وكلنا ذلك الرجل – إلى التوبة النصوح, والثبات على ذلك, إنك جواد كريم.

                    كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ