الاستقامة

منذ 2021-09-12

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية "أعظم الكرامة لزوم الاستقامة". وقالوا: وبقدر ما يسير العبد مستقيما على الصراط المستقيم في الحياة الدنيا بقدر ما يسير على الصراط المضروب على متن جهنم والموصل إلى الجنة.

الحمد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف: 13].

ترى.. ما هي الاستقامة التي أمر الله بها عباده؟!..
سئل صدِّيق الأمة وأعظمُها استقامة - أبو بكر رضي الله عنه - عن الاستقامة؟ فقال: (أن لا تشرك بالله شيئًا)؛ يريد الاستقامة على محض التوحيد.. فإن مَن استقام على محض التوحيد الصادق بأسماء الله وصفاته وآثارها في الأنفس والآفاق.. استقام في كل شأنه على الصراط المستقيم.. فاستقام له كل عمل وكل حال؛ "أي: استقام على التوحيد في حركاته وسكناته..
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (الاستقامة: أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعالب).
وقريب مِن ذلك ما قاله ابن تيميه رحمه الله؛ حيث قال: أي " أخلَصوا في عبودية الله ومحبَّته، فلم يلتفتوا يمنة، ولا يسرة".

إن الاستقامة تعني: الاعتدال والتوازن.. إنها في الحكمة والإصابة والسداد..لذلك كان نبيُّنا عليه الصلاة والسلام يسأل ربه السداد.. بل وجَّه أمَّته إلى ذلك؛ فقال: «يا علي، اسأل ربك الهداية والسداد، وتذكر بالهداية: هدايتك للطريق، وبالسداد: تسديدك للرمي».

كل ذلك تأكيدًا لأهمية الاستقامة.. وذلك كأن يقول المسلم: "اللهم، اهدني وسددني"، أو أن يقول: "اللهم، أسألك الهُدى والسداد".. فإن الاستقامة لها ثمرات كثيرة عظيمة.. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30].

فلهم البشرى بعدم الخوف على ما خلفوا وتركوا مِن أهل وأولاد أو أموال وضيعات؛ فالله يتولاهم بحفظه: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196]، وألَّا يحزنوا على المصير المنتظر، فهو إلى جنات ونهر..

ومِن تلك الثمرات المباركة أيضًا.. ما ذكره الله سبحانه وتعالى بقوله: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا}  [الجن: 16] أيْ ماءً كثيرًا مباركًا نافعًا.. والماء يدل على الروح والحياة..

إن الاستقامة مطلب نفيس وعظيم ..يقول شيخ الإسلام ابن تيمية "أعظم الكرامة لزوم الاستقامة".

فهي تحتاج إلى جهد وصبر ومجاهدة.. وذلك بعد عون الله وفضله وتوفيقه.. فهو سبحانه وتعالى الموفق لسلوك طريق الاستقامة.. بل أمر عباده أن يسألوها ويطلبوها منه عز وجل في كل وقت.. بأن يقول العبد في كل صلاة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6].. ولو قال: (اهدني) لما صَحَّتِ الفاتحة، ولبطلتْ صلاته.. بل لا بد وأن يقول: {اهدنا}..  بأن يدعو كل مسلم ومسلمة..لكل مسلم ولكل مسلمة.. " {اهدنا الصراط المستقيم}  أي: يا ربنا دلنا وأرشدنا على سلوك الطريق المستقيم، الموصل إليك وإلى رضوانك وجناتك.. وثبِّتنا على ذلك.. بل وزدنا هدى {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [ محمد: 17]".. وهو الطريق الوحيد إلى الله الواحد الأحد.. {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]..

إن طريق الحق واحد أبلج.. ليس وراءه إلَّا الباطل.. {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81].. وكل الذي يخالف الحق فهو الضلال والظلمة.. {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32].. وهو النور والهدى والضياء.. {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 16]".

جاء من حديث سفيان بن عبد الله الثقفي؛ أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله.. قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا غيرك.. فقال صلى الله عيه وسلم: «قل: آمنتُ بالله، ثم استقم»، فقال: يا رسول الله، وما أخوَف ما تخاف عليَّ؟ فأشار أو أومأ إلى لسان نفسه". وذلك لأن الاستقامة تكون في القلب والأعمال والجوارح.. وحتى اللسان.. ولذلك جاء في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام؛ أنه قال: «لن يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولن يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه» .. فإن استقامة اللسان تؤثر وتدل على استقامة القلب..

والذي هو محل ووعاء للإيمان {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7]، ثم إذا استقام القلب فانظر ما هي الآثار المباركة على بقية الجوارح.. يقول تبارك وتعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]؛ بلا شك إنه التعظيم الجميل للشعائر من أوامر الله ونواهيه.. لأن ما يحدث من المرء من حركات أو سكنات في أقواله وأفعاله.. وفي ذهابه وإيابه.. وفي عباداته مع الله وتعاملاته مع الناس، فإن ذلك كله ينبع من القلب.. ومهما استقام العبد فلا بد من الخطأ والتقصير.. وجبر ذلك يكون بالعودة إلى الله والتوبة والاستغفار.. والإكثار من الأعمال الصالحة من الفرائض والنوافل.. قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [فصلت: 6].

والطلوب من العبد الاستقامة؛ وهى الإصابة والسّدَاد.. فإن نزل عنها فالتفريط والإضاعة.. جاء في الحديث عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استقيموا، ولن تحصوا، واعلموا أن أفضل أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلَّا مؤمن»..

وقوله: «استقيموا، ولن تحصوا».
أي: لن تطيقوا ولن تبلغوا كل الاستقامة .. لكن على  الإنسان المسلم أن يحاول.. فإِن لم يقدر على السداد فالمقاربة ..كما بيَّن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر بقوله: «سَدِّدُوا، وقاربوا، واعلموا أَنه لن ينجو أَحد منكم بعمله»، قالوا: ولا أَنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أَنا إِلا أَن يتغمَّدنى الله برحمة منه وفضل».

فجمع فى هذا الحديث مقامات الدِّين كلها؛ فأَمر بالاستقامة وهى السّداد، والإِصابة فى النيّات والأَقوال. وأَخبر فى حديث ثوبان؛ أَنهم لا يُطيقونها فنقلهم إِلى المقاربة، وهى أَن يقربوا من الاستقامة بحسب طاقتهم، كالَّذى يرمى إِلى الغرض وإِن لم يُصبْه يقاربه. ومع هذا فأَخبرهم أَن الاستقامة والمقاربة لا تنجي يوم القيامة، فلا يركن أَحد إِلى عمله، ولا يرى أَن نجاته به، بل إِنَّما نجاتُه برحمة الله وغفرانه وفضله، كل ذلك يدل على أن الاستقامة نوعان:
الأول: استقامة الأكابر وهذه لا يستطيعها إلا أهل العلم والإيمان والعبادة، ولذلك خوطب بذلك نبيُّنا عليه الصلاة والسلام، فقال جل وعلا: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112].

الثاني: استقامة العامَّة وهي السير المعتدل، والتي هي فعل الأوامر واجتناب النواهي، فهذه أمر الله بها بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف: 13].

إن الطريق واحد، والرب واحد، فلنوحِّد قلوبنا إلى الله، فإن وراء الاستقامة فُتُور وضعف، قال عليه الصلاة والسلام: «يا عبد الله بن عمرو بن العاص، إن لكل عامل شِرَّةً، ولكل شِرَّةٍ فَتْرة فمَن كانت فَتْرتُه إلى سُنَّةٍ فقد أفلح».
أي: أن لكل عامل نشاطًا وهمة،وأن كل نشاط وعمل لا بد وأن يعقبه فتور وكسل.

فالمسلم اللبيب يتقلب بين الطاعات، من تلاوة للقرآن وتدارس للسنة، وحرص على بر الوالدين وصلة الأرحام، فذكر لله ودعوة إلى الله، وصدقة وإحسان، ونصح وعلم وتعليم ، كالنحلة ينتقل من بستان إلى آخر، وهو يعيش أجواء الاستقامة بأنواعها، ودومًا يسأل ربه: {اهدنا الصراط المستقيم}.
فالاستقامة كلمة جامعة آخذة بمجامع الدين، وهو القيام بين يَدى الله تعالى على حقيقة الصّدق، والوفاءِ بالعهد..

وبقدر ما يسير العبد مستقيما على الصراط المستقيم في الحياة الدنيا بقدر ما يسير على الصراط المضروب على متن جهنم والموصل إلى الجنة ..والذي هو أدق من الشعر وأحد من السيف.. فالناس على حسب استقامتهم في هذه الدنيا.. فمن استقام في هذه الدنيا على الطريق المستقيم سوف بمشيئة الله يستقيم ويسير السير المعتدل نحو جنة رب العالمين والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

____________________________________________________
الكاتب: أنور الداود النبراوي