فن الكتابة فى الصفحة البيضاء - قواعد: (15) {قُلْ هُوَ مِن عِندِ أَنْفُسَكُمْ}.. فتِشِي بالداخل..!

منذ 2021-10-24

فلا نَدفِنُ رأَسَنا في الترابِ لتفادِي مُواجَهَةِ الحقائقَ والمُورِثَةِ للحُزنِ والضِيقِ والجُهدِ التَزكَوِيِّ والتَربَوِيِّ المُضاعَف..

 إِحدَى صَدِيقاتِي كانتْ تَشكُو إِلَيَّ بِشدةِ من وَلَدِها.

جَلَسْتُ مَعَهُ في أولِ زِيارةٍ لهم.. يبدُو جميلًا وزكيًا حفظَهُ الله، مُندمِجٌ بشكلٍ صِحِيٍّ مع أولادِي ولا تَظهَرُ عليهِ أيُّ أماراتِ اعوجاجِ سُلُوكٍ..! فسألتُها: مَالَهُ وَلَدُكِ؟! أراهُ بِخَيرٍ، ففيمَ شكواكِ مِنهُ؟ فقالتْ لِي إِجمالًا: نَعَم، هو وَلَدٌ رائعٌ ومنيرٌ، لكنِ اختَلِفِي مَعَهُ فقط في الرأيِ وستُظلِمُ الدنيا فِي وَضَحِ النهارِ..!

في الحقيقةِ، أنا سَكَتُّ ولم أُعَقِّبْ، لأنها رَمَتْهُ بدائِها وانسَلَّتْ وهِي لا تَشعُرُ، وكُنتُ أتمنَّى إخبارَها أن هذا الشِبلَ مِن ذاكَ الأسدِ للأسفِ وأنه اكتسَبَ العِنادَ مِنها ولطالما عانيْتُ مِن ذَلِكَ مَعَها، لكِني استحيَيْتُ لأنِي في بيتِها ولأنَ عَلاقتَنا لمْ تَتَعافَ بَعدُ مُنذُ آخِرِ صِدام!

أيتها الأمهاتُ الطيبةُ..

لا تأتِينِي شاكيَةً مِنْ عَيبٍ أو خَطَأٍ مِن أولادِكِ، أنتِ شخصيًا الكبيرةُ الراشدةُ ذاتُ الإرادةِ تَفعَلِينَهُ وتَعجَزِينَ عن تَركِهِ وتَعذُرِينَ نفسَكِ بأنَّ هذا وُسعُكِ وتُماطِلِين فِي المُجاهَدَةِ والتزكِيةِ..

فمثلما تَعذُرِينَ نفسَكِ في تَركِ التَزكِيةِ، للأسفِ هُم كذلكَ يَعذُرُونَ أنفسَهم وينتظِرُونَ مِنكِ إعذارًا بِالمِثلِ.

غَضَبُكِ الكاسِحُ، كَذِبُكِ، سِبابُكِ، اغتيابُكِ للناسِ، نقرُ الغُرابِ في صلاتِكِ، احتقارُكِ للناسِ، شكواكِ المستمرةُ على كلِ حال، نُكرانُكِ للجَمِيل، فُجورُكِ في الخُصومَةِ، ضَعفُ شَخصيتِكِ، كسلُكِ، إهمالُكِ لمسؤولياتِكِ، تَدخينُكِ، جَزَعُكِ عِندَ المُصيبةِ...... إلى آخِرِ مُنكَراتِ السلوكِ والعباداتِ كافةً، إن رأيتِ أولادَكِ يُحاكونَها ولا تُبادِرِينَ بتزكيةٍ مُعلَنَةٍ وصادقةٍ، فراجِعِي نفسَكِ قبلَ فواتِ الأوان..

وقبلَ أن تشتكِي من وَلَدِكِ، هناكَ أمورٌ ينبغِي فعلُها أولًا، وأمورٌ ينبغِي ألا تفعَلِيها..

فإياكِ أن يكونَ أولَ ما تفعلينَهُ هو تبريرُ خطئِكِ لتبرِئَةِ نفسِكِ أمامَهُ.. لا تستهِينِي ببطاقةِ الذاكرةِ وعملياتِ الفرزِ والتحليلِ التي يُجرِيها عقلُهُ كلَّ ثانيةٍ للمُدخَلاتِ، والتي من ضِمنِها اقتناصُ نقاطِ التعارُضِ وازدواجيةِ المعايير..

ثم إننا كأمهاتٍ طَمُوحَةٍ نَبتَغِي تربيةَ أجيالَ العِزَةِ، ليسَ في قاموسِنا التَربَوِيِّ مُصطلَحُ "أنا فقطْ أسبُّ أو أصرُخُ أو أُدَخِنُ أو ألطُمُ وَجهِي عِندَ المُصيبَةِ أو أُشاهِدُ المسلسلاتِ" مثلا..

أي نَعَمْ هناكَ أمورٌ خاصةٌ بالكبارِ فقط لا إثمَ فيها وَلَيستْ مِن صلاحياتِ الصِغار، لكِنَها تكونُ منطقيةً وبتقبلونَها بالحوارِ المُقنِعِ الهاديءِ الودودِ، وبالدليلِ الشرعيِ أو العقليِ مِن مَنطِقِ الحياةِ إجمالًا: مِثلُ سَهَرُكِ بالليلِ أحيانًا وهو لا، وقيادةُ والدِه للسيارةِ وهو لا..

إياكِ أيضًا أولَ شيء أن تَبحثِي عن آخَرِين تُلصِقِينَ بِهم تُهمَةَ فسادِ سُلُوكِ وَلدِكِ تَبرِئَةً لنفسِكِ مِنَ المَعَرةِ التربويةِ كذلك، على غرار: ((ابنُ فلانٍ سَيءُ الخُلُقِ وهُوَ الذي عَلَّمَ وَلَدِي يَفعَلُ الخطأ))..

وأنا لا أنفِي تأثيرَ البيئةِ الخارجيةِ ولا دَورَ الصُحبَةِ السيئةِ معهم -(ولنا كلامٌ عنها لاحقًا بإذنِ الله)- ولا أنكِرُ تَأثُّرَ الصِغارِ ببعضِهِمِ البَعضَ بطبيعةِ الحالِ فالتقليدُ فِطرَةٌ غريزيةٌ عامَّةٌ كما قلنا،

لكنِ المَطلوبُ: ألا نلجأَ أولَ شَيْءٍ لهاتَينِ الحِيلَتَينِ النَفسِيتَينِ دُونَ رَوِيَّةٍ وَتَبَيُّنٍ وصِدْقٍ مَعَ النَفسِ، لمجَردِ تَبرِئَةِ نفسِكِ كقُدوَة..

وأن نعرفَ أن غالبيةَ مشاكلِ التربيةِ داخليةٌ وليستْ خارجيةً، أيْ مِن بُيُوتِنا ولَيسَتْ مِن خَارِجِها، غالبًا ولكلِ قاعدةٍ استثناءٌ.. {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ {وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ}  {وَمَا أَصابَكَ مِن سَيئَةٍ فَمِنْ نَفسِكَ} {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا.. قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}..

فما أَوَّلُ شَيءٍ نَفعَلُهُ حِينَها لنَفهَمَ مَوطِنَ الداءِ؟

أولًا:  نُفَتِشُ عن تربيتِنا نحنُ لأولادِنا.. هل ربيناهُم على ذلكَ السوءِ؟ ثُم هل حصَّنَّاهُم مِنَ المُدخَلاتِ الخاطِئَةِ وعَلَّمناهُم كيفَ لَا يكونُوا إِمَّعَةً -إذَا أحسَنَ الناسُ أحسنُوا وإذا أساؤُوا أساؤُوا؟  بل يقولون للمُخطِيءِ: "أنتَ مُخطِيءٌ.. وَكُفَّ عن السُوءِ فإنهُ لا يَلِيقُ بالمُسلِم"، ولا يُسارِعُون في تقلِيدِ الخطأِ كلَ مَرَّة....؟
فإن كانتْ تربيتُكِ تَرتَكِزُ على أن يكونَ ولدُكِ هو المُؤَثِرَ في الآخرينَ بالخَيرِ وليسَ العَكسَ، ونشّأتِهِ على تَجَنُبِ المُنكراتِ وسَيِّءِ الأخلاقِ وعَدَمِ محاكاتِها، وعلى التَحَلِّي بالفضائلِ وتقليدِها== ومَع ذلكَ يُقلِدُ أقرانَهُ في أخطائِهم، فحينَها: {
{لا يَضُرُّكُم مَنْ ضَلَّ إِذَا اهتَدَيتُمْ} }، فلا لَوْمٌ عليكِ ولا حَرجَ، ولْتُكمِلِي تِكرارَ النُّصحِ والإصلاحِ، وأجرُكِ على الله..

ثانيا: نُفَتِشُ عَن قدوتِنا نحنُ في مِرآتِهِمُ السلوكيةِ لنَرَى هل نحنُ نفعَلُ ذلكَ السُوءَ أمامَهم؟

وإن رأينا انعكاسَهُ مِنا بالفعلِ، وشعُرنا بالذنبِ والندمِ والعزمِ على الإصلاحِ، فالحمدُ للهِ: لقد وضعنَا أيدِينا على بدايةِ طريقِ التقويمِ الفعّالِ وتعديلِ السلوكِ مُمتَدِ الأثَرِ فينا وفيهم بإذنِ اللهِ..

فحين نتعامل هكذا مع جذور المشكلة بكل تَجَرُّدٍ للحقِ وصِدقٍ معَ اللهِ والنفسِ== سنتعلم من أخطائِنا ونُصلِحُ ما أفسدناهُ لاستئصالِ السوءِ من مَنبَعِهِ، وحينَها كذلك: {لَا يَضُرُّكُمْ مَن ضَلَّ إِذَا هتَدَيتُمْ}..

أما خِلافُ ذلك؟=== { {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أنفُسِهِم} }.....!؟

فلا نَدفِنُ رأَسَنا في الترابِ لتفادِي مُواجَهَةِ الحقائقَ والمُورِثَةِ للحُزنِ والضِيقِ والجُهدِ التَزكَوِيِّ والتَربَوِيِّ المُضاعَف..

فلن يورِثَنا ذلكَ الهروبُ إلا راحةً مُزَيَفَةً مُؤقَتَةً نَشقَى ونتخَبَطُ بعدَها أكثرَ..

واللهُ لا يُغَيِرُ ما بقومٍ حتَى يُغَيرُوا ما بأنفُسِهِم... 

فإن سألتِ:

بعدما يَتَضِحُ أنَ الخطأَ {فبِما كَسَبَتْ أيديكم} ، كيفَ أغنَمُ الآيةَ  {لا يَضُرُكُم مَنْ ضَلَّ إِذَا اهتَدَيتُمْ} ، وقُدوتِي لَهُم مَخدُوشةٌ للأسف ولازِلتُ أُجاهِدُ نفسِي في الإصلاحِ؟

والجوابُ في القاعدة القادمة بإذن الله..

 

أسماءمحمدلبيب 

أسماء محمد لبيب

كاتبة مصرية

المقال السابق
قواعد: ( ١٤) {بلْ نَتَبِعُ مَا ألْفَينَا عَلَيهِ آباءَنَا}.. فِطرَةُ المُحاكَاة!
المقال التالي
قواعد: (16) {لا يَضُرُّكُم مَن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}