حتى نرتقي
رحم الله سلفنا الصالح الذين لم يكونوا يردوا نصيحة ناصح. بل كانوا يطلبونها، ويَدْعُون للناصح
أيها السادة ! مَن تتوقعون أنه المخاطَب بهذه الآيات ؟
{( اتَّقِ اللَّهَ، وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ)، ( تَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ)، ( لَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا). }
إن المخاطََب بهذه الآيات هو خير الخلق وأكملهم إيمانا، وأحبهم إلى الله تعالى: نبينا محمد r .
لم تمنع مكانته العالية عند ربه، وعند أمته، ولا رسوخ إيمانه وعِلمه؛ من أن يُخاطبه ربُه ومولاه بهذه الآيات!.
تُرى لو قيلت لأحدنا أو لأحد الكُبراء، نصيحة بأرق عبارات اللطف، كيف سيكون الرد ؟
قد يقول :
أتقول لي هذا وكأني لا أعرف دِيني ؟ وهل أنت وصيٌ عليّ ؟ ألا تراعي مكانتي ووجاهتي ؟
لقد أصبح تقديم النصيحة ذنباً عند الكثير، مهما تلطّف الناصح، وأسرَّ له بها، قال بعض الحكماء: "اثنان ظالمان: رجلٌ أُهديت له النصيحة فاتخذها ذنباًً، ورجل وُسِّع له في مكان ضـيـّق فـجلس متربعاً".
ولقد نصح ووجّه نبي الله موسى أخاه هارون عليهما السلام، فقال له: {(أَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ )} ، فلم يرُدّ هارون عليه السلام النصيحة ، أو يعتبرها انتقاصاً لمقام النبوة أو هضماً لِحقّه. قال صاحب الظلال معلقاً على هذه الآية: " .. موسى عليه السلام يَعلَم أن هارون نبي مرسل من ربه معه، ولكنّ المسلم للمسلم ناصح، والنصيحة حق وواجب للمسلم على المسلم ... وقد تلّقى هارون النصيحة، لم تثقل على نفسه ! فالنصيحة إنما تثقل على نفوس الأشرار لأنها تُقيّدهم بما يريدون أن ينطلقوا منه؛ وتثقل على نفوس المتكبرين الصغار، الذين يَحسّون في النصيحة تنقصاًً لأقدارهم ! . . إن الصغير هو الذي يُبعِد عنه يدك التي تمتد لتسانده ؛ ليُظهر أنه كبير".
في الحديث «(إن أبغض الكلام إلى الله عز وجل: أن يقول الرجلُ للرجل: اتق الله، فيقول: عليك بنفسك)» [رواه البيهقي وصححه الألباني] . فهذا الصنف من الرجال لا يكفيه أن يرد النصيحة، بل يبحث عن عيوبٍ للناصح ليُجادله بها. قال الغزالي: "وقد آل الأمر في أمثالنا إلى أن أبغض الخلق إلينا من ينصحنا ويُعرِّفنا عيوبنا، ويكاد هذا أن يكون مفصحًا عن ضعف الإيمان؛ فإن الأخلاق السيئة حيات وعقارب لداغة، فلو نبهنا منبه على أن تحت ثوبنا عقربًا لتقلّدنا مِنه مِنّةً وفرحنا به، واشتغلنا بإزالة العقرب وقتلها ... بل نشتغل بمقابلة الناصح بمثل مقالته، فنقول له: وأنت أيضًا تصنع كيت وكيت... ".
وكما أن ضعف الإيمان سبب لعدم قبول النصح، فكذلك الكِبْر واحتقار الناس، قال تعالى: {(وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ)} ، قال السعدي: "هذا المفسد في الأرض بمعاصي الله, إذا أُمِر بتقوى الله تكبّر وأنِف، و {(أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) } فيجمع بين العمل بالمعاصي والكِبر على الناصحين".
وعلى النقيض من ذلك؛ قال ابن كثير: "وذُكر أن يهوديا كانت له حاجة عند هارون الرشيد، فوقف يوما على الباب ، فلما خرج هارون سعى حتى وقف بين يديه وقال: اتق الله يا أمير المؤمنين! فنزل هارون عن دابته وخرّ ساجدا، فلما رفع رأسه أمر بحاجته فقُُضيت ، فلما رجع قيل له : يا أمير المؤمنين ، نزلتَ عن دابتك لقولِ يهودي! قال : لا ، ولكن تذكرت قول الله تعالى : {(وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد)} .
ومن أسباب رد النصيحة كذلك: اتباع الهوى والإعجاب بالنفس، قال الله تعالى: (فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ثلاث مهلكات) وذكر: (شُحٌ مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه)رواه الطبراني وحسّنه الألباني. وقال علي رضي الله عنه : "إنَّ أخوف ما أتخوّف عليكم اثنتان: طول الأمل، واتباع الهوى، فأما طول الأمل فيُنسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق".
رحم الله سلفنا الصالح الذين لم يكونوا يردوا نصيحة ناصح؛ بل كانوا يطلبونها، ويَدْعُون للناصح، حتى لو عَلَت مكانتهم في المجتمع، فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "رحم الله امرءًا أهدى إليَّ عيوبي"، كما كلّّف أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله مولاه مزاحم بمراقبة أفعاله وأقواله وتنبيهه على أخطائه، ولو كان بغلظة, وألاّ يمنعه من ذلك كونه أميرًا للمؤمنين، فقال له: "إنّ الناس يختارون الأعين لتأتيهم بأخبار الناس, وإني جعلتك عينًا على نفسي, فإذا رأيتني أعصي الله فخُذ بتلابيبي, وقل لي: اتق الله يا عمر". ودعا أحد أئمة السلف الناس إلى نصحه حتى لو كان في أمرٍ يكرهه, فقال ميمون بن مهران رحمه الله: "قل لي في وجهي ما أكره، فإن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكرهه".
ختاماً.. إذا سادت حالة الصمت أو عمّ الخوف من تقديم النصيحة بسبب غطرسة متكبر، أو لأجل هوى معجبٍ بنفسه، فكيف لجاهل أن يتعلم، ولغافل أن ينتبه، ولظالم أن يرعوي، وأنّى لسلوك أن يستقيم، ولمجتمع أن يرتقي؟!
كتبه / منصور بن محمد الـمقرن almegrenm@gmail.com
- التصنيف:
- المصدر: