مكانة الشهيد
«مَن سأَل اللهَ الشَّهادةَ صادقًا مِن قلبِه أعطاه منازِلَ الشُّهداءِ وإنْ مات على فِراشِه»
«عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ خطبَ النَّاسَ يومَ فتحِ مَكَّةَ، فقالَ: «يا أيُّها النَّاسُ، إنَّ اللَّهَ قد أذهبَ عنكم عُبِّيَّةَ الجاهليَّةِ وتعاظمَها بآبائِها، فالنَّاسُ رجلانِ: برٌّ تقيٌّ كريمٌ على اللَّهِ، وفاجرٌ شقيٌّ هيِّنٌ على اللَّهِ، والنَّاسُ بنو آدمَ، وخلقَ اللَّهُ آدمَ من الترابِ، قالَ اللَّهُ:» {{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}} »[1]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ««قِيلَ: يا رَسولَ اللَّهِ مَن أكْرَمُ النَّاسِ؟ قالَ: أتْقَاهُمْ»» [2]، فالناس يتمايزون فيما بينهم بالأعمال، وأفضلهم عند الله تعالى أتقاهم، وقد يتسم العمل بالصلاح ولكن ينقصه الإيمان فيُحْبَطُ العملُ، عن ابي هريرة أن النبي صلى الله عليه قال: ««التقوى ها هنا وأشار إلى القلبِ»» [3]، وقد يحتج البعض بالحديث فيقولون: ربنا رب قلوب. نقول: فالذي يعلمُ صلاحَ العمل وفسادُهُ والمقصدَ منه مًنْ يعلمُ السِّرَّ وأخفى، قال تعالى: {{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}} [الكهف : 30]، فقرن العمل الصالح الظاهري بالإيمان القلبي، فالإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، ومن الأعمال التي يطلع الله تعالى على صدق نيتها الشهادة قال تعالى: {{وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ}} [آل عمران : 140]، أي يختبر صدق إيمانكم ويصطفي من خياركم شهداء، فهنيئا لمن اصطفاه الله تعالى بالشهادة، فمكانته عالية لا تدانيها مكانة في الدنيا والآخرة، هنيئا لمن باعوا أنفسهم واسترخصوا الحياة في سبيل إعلاء كلمة الله، فاكرمهم الله تعالى بلقب الشهداء، وعظم ذكرهم بين الأحياء، وأرواحهم في حواصل طير خضر تعلُقُ في السماء، وهم بدار الخلد بصحبة الأنبياء.
سُمِّيَّ الشهيد شهيدًا: فهو شاهد ومشهود، حيٌ تشهد رُوحُهُ ما أعدَّهُ الله تعالى لها من الكرامة، قال تعالى: {{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ . فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}} [آل عمران: 169- 170]، ويكفي الشهيد شرفا أن الله تعالى يشهد له والملائكةَ والنبين والصالحين ودمه.
والشهيد أنواع: شهيد الدنيا والآخرة: هو الشهيد الذي قتل في ساحة المعركة من أجل إعلاء كلمة الله، مقبلا غير مدبر، عن أبي موسى الأشعري «جَاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ الرَّجُلُ: يُقَاتِلُ حَمِيَّةً، ويُقَاتِلُ شَجَاعَةً، ويُقَاتِلُ رِيَاءً، فأيُّ ذلكَ في سَبيلِ اللَّهِ؟ قالَ: «مَن قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هي العُلْيَا، فَهو في سَبيلِ اللَّهِ» »[4].
وشهيد الدنيا وهو من كان همه؛ ليتحاكى الناس عن قوته وشجاعته، أو رياء وسمعة، أو تحصيل غنيمة، أو غلَّ منها، أو فارًا من الحرب موليا الأدبار والعياذ بالله، فليس له من الشهادة إلا القب.
أنواعُ الشَّهادةِ كثيرةٌ مُتَعَدِّدَةٌ عدَّها الأمام السيوطي ثلاثين؛ فَأَشْرَفُهَا القَتْلُ في سبيلِ اللهِ تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ««ما تَعُدُّونَ الشَّهِيدَ فِيكُمْ؟ قالوا: يا رَسولَ اللهِ، مَن قُتِلَ في سَبيلِ اللهِ فَهو شَهِيدٌ، قالَ: إنَّ شُهَداءَ أُمَّتي إذًا لَقَلِيلٌ، قالوا: فمَن هُمْ يا رَسولَ اللهِ؟ قالَ: مَن قُتِلَ في سَبيلِ اللهِ فَهو شَهِيدٌ، ومَن ماتَ في سَبيلِ اللهِ فَهو شَهِيدٌ، ومَن ماتَ في الطَّاعُونِ فَهو شَهِيدٌ، ومَن ماتَ في البَطْنِ فَهو شَهِيدٌ، والْغَرِيقُ شَهِيدٌ»» [5]، يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الشهادةُ سبعٌ سوى القتلُ في سبيلِ اللهِ؛ المقتولُ في سبيلِ اللهِ شهيدٌ، والمطعونُ شهيدٌ، والغريقُ شهيدٌ، وصاحبُ ذاتِ الجنبِ شهيد، والمبطونُ شهيدٌ، وصاحبُ الحريقِ شهيدٌ، والذي يموتُ تحتَ الهدْمِ شهيدٌ، والمرأةُ تموتُ بجُمْعٍ شهيدة»[6]، وقد جعَلَ اللهُ سُبحانَه الأمْراضَ والأوْبِئةَ مِن المُكفِّراتِ لذُنوبِ المُسلِمينَ الصَّابرينَ المُحتَسِبينَ.
والإسلام دين سلام، قال تعالى: {{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}} [البقرة : 190]، إن الحرب لا تكون إلا دفاعا عن الدين والأرض والعرض والمال، وردا للعدوان، وبسطا للأمن والأمان، وكسرا لشوكة الأعداء اللئام قال تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} [التوبة : 12].
وقد نَهَى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن تَمَنِّي لِقاءِ العَدُوِّ؛ لِمَا فيه مِن صُورةِ الإعجابِ بالنَّفْسِ والاتِّكالِ عليها، والوُثوقِ بأَسبابِ القُوَّةِ، ولأنَّه يَتضمَّن قِلَّةَ الاهتمامِ بالعَدُوِّ واحتقارَهُ، وهذا يُخالِفُ الاحتياطَ والحَزْمَ قالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ««أيُّها النَّاسُ، لا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وسَلُوا اللَّهَ العَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، واعْلَمُوا أنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ، ثُمَّ قالَ: اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكِتَابِ، ومُجْرِيَ السَّحَابِ، وهَازِمَ الأحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وانْصُرْنَا عليهم»» [7].
أيها الشهيد استبشر ببيعك، قال تعالى: {{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}} [التوبة : 111]، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ««وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوَدِدْتُ أَنْ أَغْزُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأُقْتَلَ ، ثُمَّ أَغْزُوَ فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أَغْزُوَ فَأُقْتَلَ»» [8]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: « «مَا مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ لَهَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ يَسُرُّهَا أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الدُّنْيَا وَلا أَنَّ لَهَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا إِلا الشَّهِيدُ فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ فَيُقْتَلَ فِي الدُّنْيَا لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ»» [9]. بحسب المسلم أن يستمعَ إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم، فتهون عليه نفسُه وأهله، وماله وولدُه في سبيل الله من أجْل أن يَلْقى الله في زُمرة الشهداء، مصبوغاً بالدم الذي أُريق منه على جسده، والذي يطلعُ به على أهْل الموقف يوم القيامة، شهادة ناطقة بأنه من المجاهدين في سبيل الله: ««مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَلْمُهُ يَدْمَى اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ»» [10].
لقد أيقن الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم أهمية الشهادة ومكانة الشهيد؛ فسمت نفوسهم، وتزاحموا على الشهادة، ليضربوا للعالمين أروعَ الأمثال في إيثار ربهم بأرواحهم، فهذا صحابي جليل يسمى عمرو بن الجموح رضي الله عنه وأرضاه جاء إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَ أُحُدٍ فقال: يا رسولَ اللهِ مَن قُتِل اليومَ دخَل الجنَّةَ؟ قال: «نَعم» قال: فوالَّذي نفسي بيدِه لا أرجِعُ إلى أهلي حتَّى أدخُلَ الجنَّةَ، فقال له عُمَرُ بنُ الخطَّابِ : يا عمرُو لا تأَلَّ على اللهِ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ««مَهلًا يا عُمَرُ فإنَّ منهم مَن لو أقسَم على اللهِ لَأبَرَّه : منهم عمرُو بنُ الجَموحِ يخُوضُ في الجنَّةِ بعَرْجَتِه»» [11].
وهذا صحابي آخر يسمي خيثمة أبو سعيد، يقول للنبي الكريم، وهو في طريقه إلى غزوة أُحد: يا رسول الله، إمَّا أنْ يُظهرنا الله عليهم، أو تكون الأخرى، وهي الشهادة التي أخطأَتْني في غزوة بدر، فلقد بلَغ من حِرْصي عليها يا رسول الله أنِّي استهمتُ -أي أجريت قرعة- أنا وابني في الخروج إلى معركة بدر؛ ليبقى أحدُنا يعولُ الأهلَ، وخرَج السهمُ له وذهَب إلى القتال في بدر، ورزَقه اللهُ الشهادةَ، وقد رأيتُ ابني البارحة في المنام وهو يقول لي: "الْحِقْ بنا يا أبتِ، ورافقني في الجنة؛ فقد وجدتُ ما وعَدني ربِّي حقًّا". والرجل يبكي ويقول للنبي بإلحاح: لقد أصبحتُ مشتاقًا إلى مرافقة ابني، ومَن معه مِن الشهداء، كما أحببتُ لقاءَ الله؛ فادعُ الله لي بالشهادة يا رسول الله.
فمَن طلب الشهادة صادقا بلَّغه ربه منازل الشهداء؛ فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلنها مدوية في سمع الزمان بقوله: ««مَن سأَل اللهَ الشَّهادةَ صادقًا مِن قلبِه أعطاه منازِلَ الشُّهداءِ وإنْ مات على فِراشِه»» [12].
إِنَّ حِمايةَ المجتمَعِ المسلِمِ لنِساءِ المُجاهدين والحِفاظَ عَليهنَّ، مِمَّا يُعينُ على الجِهادِ في سبيلِ اللهِ؛ لأنَّ المرابط سيأمَنُ على مَنْ يَترُكُ من زَوجَةٍ وأبناءٍ؛ ومن ثم يحرم التَّعرُّضِ لَهُنَّ برِيبَةٍ أو فَسادٍ، ويجب القيامِ بقَضاءِ حَوائِجِهنَّ ورِعايَةِ أُمورِهنَّ، كما يَرعَى الإنسانُ حُرمَةَ أُمِّه وقد جاء التحذير الشديد من التفريض في حقوقهم وخيانتهم في أهليهم، وتعظيم حرمة ذلك، فعن بريدة رضي الله عنه قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ««حُرمَةُ نِساءِ المُجاهِدينَ على القاعِدينَ، كحُرمَةِ أُمَّهاتِهم. وما مِن رجُلٍ منَ القاعِدينَ يَخلُفُ رجُلًا منَ المُجاهِدينَ في أهلِه، فيَخونُه فيهِم، إلَّا وقَف له يومَ القيامَةِ، فيَأخُذُ من عمَلِه ما شاء. فما ظَنُّكم؟»» [13].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محسن العزازي
كاتب إسلامي
- التصنيف: