العطف خلق الأبرار

منذ 2024-01-14

قال ابن تيمية: ومَن أحبَّ أن يلحق بدرجة الأبرار، ويتشبه بالأخيار: فلينوِ في كل يوم تطلع فيه الشمس نفعَ الخلق فيما يَسَّر الله مِن مصالحهم على يديه.

العطف ينبع من الرحمة، وعطف الناس بعضهم على بعض يعني إعانة بعضهم بعضا، وإيصال النفع لمن يحتاجه.
وقد دل على كون العطف نابعا من الرحمة قوله صلى الله عليه وسلم:
«إنّ الله خلق- يوم خلق السّماوات والأرض- مائة رحمة، كلّ رحمة طباق ما بين السّماء والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة، فبها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطّير بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة، أكملها بهذه الرّحمة». (رواه مسلم).


إن الإحسان إلى الغير هو في الحقيقة إحسان إلى النفس أولا؛ لأن المحسن الذي يعطف على الناس يتلقى جزاء ذلك في الدنيا والآخرة، فهو يقدم النفع للآخرين في الصورة، بينما يقدم لنفسه في الحقيقة، قال الله تعالى: { {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} } ( [المزمل: 20] ). وهذه الآية كقوله تعالى: { {مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ۚ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} } ( [البقرة: 245] ).

وحين يوقن المسلم أن الله عز وجل هو الذي يتلقى الصدقة ليجزي عليها أفضل الجزاء فإنه يغتبط بالإنجاز الذي مَنَّ الله عليه بتحقيقه. وهذا المعنى هو ما بينه قول الله تعالى: {
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأَخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} } ( [التوبة: 104] ).

كما أكده رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:
«مَن تَصَدَّقَ بعَدْلِ تَمْرَةٍ مِن كَسْبٍ طَيِّبٍ، ولَا يَقْبَلُ اللَّهُ إلَّا الطَّيِّبَ، وإنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ، كما يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ» (رواه البخاري).

والجزاء من جنس العمل، والثواب من الله تعالى أكبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«من نفَّسَ عن مؤمنٍ كُربة من كُرَب الدنيا، نفَّسَ اللهُ عنه كُربة من كُرَب يوم القيامة، ومن يسّر على معسرٍ، يسّرَ الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن سترَ مسلماً، ستره اللهُ في الدنيا والآخرة، واللهُ في عون العبد ما كان العبدُ في عون أخيه». (رواه مسلم).

والمجتمع الذي يشيع فيه التعاطف هو لا شك مجتمع متماسك مترابط لا يطمع فيه عدوه؛ لهذا حث الشرع المطهر أبناء الأمة على التعاطف والتراحم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادّهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسّهر والحمّى» (رواه البخاري).
وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: بيْنَما نَحْنُ في سَفَرٍ مع النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ إذْ جَاءَ رَجُلٌ علَى رَاحِلَةٍ له، قالَ: فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ:
«مَن كانَ معهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ به علَى مَن لا ظَهْرَ له، وَمَن كانَ له فَضْلٌ مِن زَادٍ، فَلْيَعُدْ به علَى مَن لا زَادَ له». قالَ: فَذَكَرَ مِن أَصْنَافِ المَالِ ما ذَكَرَ، حتَّى رَأَيْنَا أنَّهُ لا حَقَّ لأَحَدٍ مِنَّا في فَضْلٍ. (رواه مسلم).

يشير أبو سعيد رضي الله عنه إلى ضعف حال الرجل وعطف النبي صلى الله عليه وسلم عليه، ودعوته المسلمين لمساعدته، ومواساة المحتاجين من فضل أموالهم، حتى ظن الصحابة رضي الله عنهم أن الإنسان ليس له حقٌّ في إمساك ما زاد على حاجته من الطَّعام والشَّراب والرَّحْلِ وغير ذلك، وهذا كلُّه من باب الإيثار.

وكان صلى الله عليه وسلم يحمل هَمَّ الناس حتى في أمور العبادات، فيسعى إلى التخفيف عنهم، ورفع المشقة والحرج حتى لا يملوا فيتركوا العبادة، ومن ذلك وصيته صلى الله عليه وسلم للأئمة:
«إذا صلّى أحدكم للنّاس فليخفّف، فإنّ منهم الضّعيف والسّقيم والكبير، وإذا صلّى أحدكم لنفسه فليطوّل ما شاء». (رواه البخاري).

وروى الإمام مسلم عن أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- قالت: أعتم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة حتّى ذهب عامّة اللّيل. وحتّى نام أهل المسجد، ثمّ خرج فصلّى (أي صلاة العشاء). فقال: 
«إنّه لوقتها، لولا أن أشقّ على أمّتي».فهو صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء في أول وقتها عادة؛ كي لا يشق على أمته إذا أخرها.

ويمتنع صلى الله عليه وسلم من الخروج إليهم ليصلي بهم قيام الليل وهو يعلم أنهم ينتظرونه كي لا تفرض عليهم فيتثاقلوها، ففي صحيح البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَرَجَ ذاتَ لَيْلَةٍ مِن جَوْفِ اللَّيْلِ، فَصَلَّى في المَسْجِدِ، فَصَلَّى رِجالٌ بصَلاتِهِ، فأصْبَحَ النَّاسُ، فَتَحَدَّثُوا، فاجْتَمع أكْثَرُ منهمْ، فَصَلَّوْا معهُ، فأصْبَحَ النَّاسُ، فَتَحَدَّثُوا، فَكَثُرَ أهْلُ المَسْجِدِ مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ، فَخَرَجَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَصَلَّوْا بصَلاتِهِ، فَلَمَّا كانَتِ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عَجَزَ المَسْجِدُ عن أهْلِهِ حتَّى خَرَجَ لِصَلاةِ الصُّبْحِ، فَلَمَّا قَضَى الفَجْرَ أقْبَلَ علَى النَّاسِ، فَتَشَهَّدَ، ثُمَّ قالَ:
«أمَّا بَعْدُ، فإنَّه لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ مَكانُكُمْ، لَكِنِّي خَشِيتُ أنْ تُفْرَضَ علَيْكُم، فَتَعْجِزُوا عَنْها».

وكان يحرض أمته على فعل الخير والعطف على الناس، قال البراء- رضي الله عنه- جاء رَجُلٌ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال: دُلَّني على عَمَلٍ يُقَرِّبُني منَ الجَنَّةِ، ويُباعِدُني منَ النَّارِ، قال: «لَئنْ كُنتَ أقصَرْتَ الخُطْبةَ، لقد أعرَضْتَ المَسْألةَ، أعْتِقِ النَّسَمةَ، وفُكَّ الرَّقَبةَ» ، قال: يا رسولَ اللهِ، أوَلَيستَا واحِدًا؟ فقال: «لا، عِتقُ الرَّقَبةِ أنْ تَفرَّدَ بعِتْقِها، وفَكُّ الرَّقَبةِ أنْ تُعينَ في ثَمَنِها، والمِنْحةُ الوَكوفُ، والفَيءُ على ذي الرَّحِمِ الظَّالِمِ، فإنْ لم تُطِقْ ذلك فأطعم الجائع، واسق الظمآن، وأمر بالمعروف، وانه عن المنكر، فإنْ لم تُطِقْ فكُفَّ لِسانَكَ إلَّا من خَيرٍ». (رواه أحمد في مسنده والدارقطني).

وقوله صلى الله عليه وسلم: «والمنحة الوكوف» هي العَطيُّةُ، والمراد هنا ناقةٌ أو شاةٌ أو حَيوانٌ حَلوبٌ، يُعطيها صاحِبُها لِغَيرِه لِيَنتَفِعَ بلَبَنِها ووَبَرِها مادامت تُدِرُّ لَبَنًا، ثم يَرُدُّها إلى صاحِبِها إذا جَفَّ لَبَنُها، ومعنى (الوَكوف): كثيرة اللَّبَن.
و
«الفَيءُ على ذي الرَّحِمِ الظَّالِمِ» معناه: التَّعَطُّفُ والرُّجوع بالبِرِّ على القَريبِ الظَّالِمِ لكَ بقَطعِ الصِّلةِ وغَيرِه.

وكان يراعي أحوال الناس ومشاعرهم وعواطفهم، فيوجههم إلى ما فيه الرفق بهم، كما روى البخاري عن مالك بن الحويرث- رضي الله عنه- قال: أتينا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ونحن شببة (جمع: شاب) متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة، فظنّ أنّا اشتقنا أهلنا، وسألَنا عمّن تركنا في أهلنا فأخبرناه، وكان رقيقا رحيما، فقال:
«ارجعوا إلى أهليكم فعلّموهم ومروهم، وصلّوا كما رأيتموني أصلّي، وإذا حضرت الصّلاة فليؤذّن لكم أحدكم، ثمّ ليؤمّكم أكبركم».

بل قد بلغ به العطف أن ينال الطير منه نصيبا، فقد روى أحمد وأبو داود عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منزلا فانطلق إنسان إلى غيضة (الشجر الملتف) فأخرج منها بيض حمّرة فجاءت الحمّرة ترفّ على رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورؤوس أصحابه. فقال: «أيّكم فجع هذه» ؟، فقال رجل من القوم: أنا، أصبت لها بيضا، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اردده».

ومما يعين على العطف على الناس استحضار حسن العاقبة وتلمح الأجر واستشعار عظم الثواب، ومنه مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة. فإنه حين حث على كفالة اليتيم قال صلى الله عليه وسلم: «أنا وكافِلُ اليَتِيمِ في الجَنَّةِ هَكَذا -وقالَ بإصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ والوُسْطَى-». (رواه البخاري).

وقال: السَّاعِي علَى الأرْمَلَةِ والمِسْكِينِ، كالْمُجاهِدِ في سَبيلِ اللَّهِ، أوِ القائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهارَ. (رواه البخاري).

وما أحسن هذا الحديث الجامع الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم:
«أحبُّ الناسِ إلى اللهِ أنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وأحبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سُرُورٌ يدْخِلُهُ على مسلمٍ، أوْ يكْشِفُ عنهُ كُرْبَةً، أوْ يقْضِي عنهُ دَيْنًا، أوْ تَطْرُدُ عنهُ جُوعًا، ولأنْ أَمْشِي مع أَخٍ لي في حاجَةٍ أحبُّ إِلَيَّ من أنْ اعْتَكِفَ في هذا المسجدِ،( (يعني مسجدَ المدينةِ شهرًا) )، ومَنْ كَفَّ غضبَهُ سترَ اللهُ عَوْرَتَهُ، ومَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، ولَوْ شاءَ أنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ مَلأَ اللهُ قلبَهُ رَجَاءً يومَ القيامةِ، ومَنْ مَشَى مع أَخِيهِ في حاجَةٍ حتى تتَهَيَّأَ لهُ أَثْبَتَ اللهُ قَدَمَهُ يومَ تَزُولُ الأَقْدَامِ». (رواه الطبراني).

قال ابن تيمية: ومَن أحبَّ أن يلحق بدرجة الأبرار، ويتشبه بالأخيار: فلينوِ في كل يوم تطلع فيه الشمس نفعَ الخلق فيما يَسَّر الله مِن مصالحهم على يديه.