مبدأ التيسير ورفع الحرج في السنة النبوية
منذ 2024-01-29
قد راعت الشريعة ضعف هذا الإنسان وبشريته، فخلق الله الإنسان وركب فيه طبائع وغرائز، وشرع التكاليف مراعيا خلقة الإنسان وطبائعه...
تكاليف الشريعة كلها مبنية على اليسر ورفع الحرج، فإن الله لم يكلف العباد إلا بما يطيقون، وما فيه مصلحتهم في العاجل والآجل، وهذا ظاهر في نصوص الوحي سواء في ذلك القرآن أو السنة النبوية، ويتجلى هذا المبدأ في جوانب متعددة، فورود الرخص الشرعية عند وجود أسبابها أحد تجليات مبدأ اليسر ورفع الحرج، ومراعاة الطبائع البشرية والأعراف الاجتماعية في التشريع كذلك، واعتبار العوارض في الأحكام من مظاهر مبدأ التيسير ورفع الحرج، وغيرها من الجوانب الكثيرة التي يظهر فيها اعتبار هذا المبدأ، حتى صار أصلا مرعيا في الاجتهاد والفتوى
الرخص من مظاهر مبدأ التيسير ورفع الحرج:
الأحكام منها ما يندرج في العزيمة، ومنها ما يندرج في الرخصة، وإن كانت الرخص استثناء من الأصل، لكن اعتبارها أصل في ذاته، وله أثر في كثير من فروع الشريعة، وغالب الرخص تتعلق برفع الوجوب أو التحريم عن المكلف عند وجود المقتضي، فيباح للمكلف ترك الواجب، كالفطر في السفر، وفعل المحرم كأكل الميتة عند الضرورة، فالعزيمة تكليف، والرخصة رفع له عند الحاجة تخفيفا ورحمة، يقول الشاطبي في الموافقات: فالعزائم حق الله على العباد، والرخص حظ العباد من لطف الله. انتهى.
والرخص في السنة كثيرة ومتنوعة، فما من عبادة إلا يدخلها الترخص عند الحاجة، وما من تكليف إلا وفيه تيسير ورفق بالعباد، فرخص الصلاة والصوم والحج أظهر من أن ندلل عليها.
وأسباب الترخص كثيرة ومتنوعة، كالضرورة، والحاجة، والمرض، والسفر، فجاءت الترخصات في الشريعة متنوعة بحسب المقتضي، فتارة بإسقاط التكليف عن بعض العبادات، كسقوط الحج عند عدم أمن الطريق، وتارة بالإنقاص كقصر الرباعية في السفر، وبالتقديم والتأخير كتقديم الصلاة بالجمع أو تأخيرها، وبالإبدال، كالانتقال عن الغسل إلى التيمم عند خوف الضرر، وهكذا تتنوع وجوه اللطف الإلهي بالمكلف من خلال تلك التسهيلات التي ترمي إلى مداومة العمل وعدم الانقطاع.
وفوق ذلك جاء في السنة النبوية التأكيد على الأخذ بالرخص عند الحاجة، والزجر عن الاستنكاف عن الترخص، فقد يجر ذلك إلى الغلو ووقوع الحرج، ففي صحيح ابن حبان عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته».
مراعاة الطبائع البشرية:
خلق الله الإنسان وركب فيه طبائع وغرائز، وشرع التكاليف مراعيا خلقة الإنسان وطبائعه، وعلى سبيل المثال، فإن من طبيعة الإنسان النسيان والذهول عن الشيء بعد علمه به، والخطأ أيضا طبيعة بشرية، فكان ذلك سببا من أسباب التيسير على الإنسان في التشريع، ففي سنن ابن ماجة عن أبي ذر الغفاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد تجاوز عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه»
وقد راعت الشريعة ضعف هذا الإنسان وبشريته حين تغلبه عيناه عن أداء فريضة الصلاة على سبيل المثال، فلم يؤاخذ على ذلك، مع أنه لو تركها من غير عذر فقد قارف ذنبا كبيرا يؤاخذ عليه في الدنيا والآخرة، كما في صحيح مسلم عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رقد أحدكم عن الصلاة، أو غفل عنها، فليصلها إذا ذكرها».
وراعت الشريعة ما يحصل عند العبد من انقطاع عن العمل لعوارض تعرض له، كمرض يعجزه عما كان مداوما عليه حال الصحة، فهو معذور عما عجز عنه، وفوق ذلك تكرم الله عليه باتصال الثواب وعدم الانقطاع؛ مراعاة للحرج النفسي الذي يلحق المسلم حال العجز، فأي لطف أعظم من ذلك، ففي صحيح البخاري عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مرض العبد، أو سافر، كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا».
التيسير في أبواب المعاملات:
لم يقتصر التيسير والتخفيف على أبواب العبادات، بل شمل ذلك كل الأبواب والتكاليف، ففي المعاملات بين الناس تتجلى رحمة الله بعباده أن راعى في التحليل والتحريم مصالح الناس ومنافعهم، فحرم عليهم ما يضرهم وأحل لهم ما سوى ذلك مما فيه مصالحهم، فكانت دائرة العفو هي الأوسع، حتى استخلص علماء الأصول قاعدة كلية وهي أن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يدل الدليل على التحريم، ففي سنن الترمذي عن سلمان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه».
وفي السنن الكبرى للبيهقي عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أحل الله في كتابه، فهو حلال، وما حرم، فهو حرام، وما سكت عنه، فهو عافية، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن نسيا»، ثم تلا هذه الآية {وما كان ربك نسيا} [مريم: 64].
وفي السنن الكبرى للبيهقي عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أحل الله في كتابه، فهو حلال، وما حرم، فهو حرام، وما سكت عنه، فهو عافية، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن نسيا»، ثم تلا هذه الآية {وما كان ربك نسيا} [مريم: 64].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: فالأصل أنه لا يحرم على الناس من المعاملات التي يحتاجون إليها إلا ما دل الكتاب والسنة على تحريمه، كما لا يشرع لهم من العبادات التي يتقربون بها إلى الله إلا ما دل الكتاب والسنة على شرعه؛ إذ الدين ما شرعه الله، فالحرام ما حرم الله، بخلاف الذين ذمهم الله؛ حيث حرموا من دين الله ما لم يحرم، وأشركوا به ما لم ينزل به سلطانا، وشرعوا له من الدين ما لم يأذن به الله، ويقول: وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه، فالأصل فيه العفو وعدم الحظر، فلا يحظر منها إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى. انتهى.
ويقول الشاطبي في الموافقات: إن الشارع قد توسع في بيان الحكم والعلل في تشريع باب العادات، وإن المعتبر في ذلك مصالح العباد، والإذن دائر معها أينما دارت حسبما هو مبين في مسالك العلل، فالشارع يقصد اتباع المعاني لا الوقوف مع النص بخلاف باب العبادات فإنه المعلوم فيها خلاف ذلك. انتهى
التخفيف في عدم المؤاخذة بالوساوس والخواطر:
لما كانت الخواطر والوساوس النفسية مما ابتلي بها الإنسان صاحَبَها التيسيرُ ورفعُ الحرج، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لي عن أمتي ما وسوست به صدورها، ما لم تعمل أو تكلم».
لما كانت الخواطر والوساوس النفسية مما ابتلي بها الإنسان صاحَبَها التيسيرُ ورفعُ الحرج، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لي عن أمتي ما وسوست به صدورها، ما لم تعمل أو تكلم».
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أنه قال: جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به؟ قال: «وقد وجدتموه» ؟ قالوا: نعم، قال: «ذاك صريح الإيمان».
قال ابن القيم في الفوائد: ومعلوم أنه لم يعط الإنسان إماتة الخواطر، ولا القوة على قطعها؛ فإنها تهجم عليه هجوم النفس، إلا أن قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنها، ورضاه به، ومساكنته له، وعلى دفع أقبحها، وكراهته له، ونفرته منه، كما قال الصحابة: يا رسول الله، إن أحدنا يجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حممة، أحب إليه من أن يتكلم به، فقال: «أوقد وجدتموه» ؟ قالوا: نعم، قال: «ذاك صريح الإيمان». وفي لفظ: «الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة». وفيه قولان: أحدهما: أن رده وكراهيته صريح الإيمان، والثاني: أن وجوده وإلقاء الشيطان له في النفس صريح الإيمان، فإنه إنما ألقاه في النفس طلبًا لمعارضة الإيمان، وإزالته به. انتهى
التخفيف والتيسير في أبواب النكاح وما يتعلق به:
لما كان هذا الإنسان مجبولا على الميل لأبناء جنسه، فيميل الذكر للأنثى والعكس، فقد روعي هذا الأمر في التشريعات المتعلقة بالأحوال الشخصية، فحرم النبي صلى الله عليه وسلم التبتل والاختصاء؛ لما فيه من المكابرة لخلق الله وحكمته، ففي الصحيحين عن سعيد بن المسيب قال: سمعت سعد بن أبي وقاص، يقول: «رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا».
ومن رفع الحرج في هذا الباب جملة من التشريعات التي تسد عليه أبواب الفتنة بين الجنسين، كالحث على غض البصر، والتحذير من الخلوة المحرمة، وتحريم مصافحة المرأة الأجنبية، والحث على وجود المحرم في السفر، ووجوب الحجاب على المرأة وستر بدنها، وغير ذلك من الأحكام التي تخفف من وطأة الفتنة، وتضيق مداخل الشيطان، كل ذلك من التيسير ورفع الحرج عن المكلفين.
وهكذا يتجلى مبدأ التيسير في أمور كثيرة، ومن ذلك أن أغلب التكاليف الشرعية تندرج في قائمة المندوبات والمستحبات، والفرائض الواجبة بالنسبة للمندوبات قليلة جدا، وهذا من رحمة الله تعالى، وتيسيره على العباد.
فالشريعة إن التزمها المسلم فقد رفع عن نفسه حرج الدنيا والآخرة، وأي يسر أعظم من صلاح أمر الدنيا والآخرة، بالنجاة من النار ودخول الجنة، وتلك غاية الغايات، ومن تنكب هذا الطريق فقد أوقع نفسه في أعظم حرج.
- التصنيف: