الجهاد في سبيل الله وعوامل النصر على الأعداء (2)

منذ 2024-05-25

لا شكَّ أن للنصر على الأعداء عواملَ وأسبابًا، كما أن للهزيمة أسبابًا تعين عليها، فمن أعظم أسباب النصر: الإيمان بالله الواحد القهَّار، والاعتماد عليه وحده في حصول النصر وفي كل شيء، وتفويض الأمور إليه، والثقة بوعده بنصر المؤمنين...

لا شكَّ أن للنصر على الأعداء عواملَ وأسبابًا، كما أن للهزيمة أسبابًا تعين عليها، فمن أعظم أسباب النصر: الإيمان بالله الواحد القهَّار، والاعتماد عليه وحده في حصول النصر وفي كل شيء، وتفويض الأمور إليه، والثقة بوعده بنصر المؤمنين؛ قال - تعالى -: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، ومن ذلك نصرة دين الله والقيام به قولاً واعتقادًا، وعملاً ودعوة؛ قال - تعالى -: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:40- 41]، وقال - تعالى -: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، ومن أعظم أسباب النصر الاتحاد والاجتماع والتضامُن بين الشعوب المسلمة؛ قال - تعالى -: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وقد شبَّه الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم بالجسد الواحد، والبنيان المرصوص يشدُّ بعضه بعضًا، وشبَّك بين أصابعه[1]، وقال الشاعر:

تَأْبَى الرِّمَاحُ إِذَا اجْتَمَعْنَ تَكَسُّرًا  **  وَإِذَا انْفَرَدْنَ تَكَسَّرَتْ آحَادَا 

 

ومن أسباب النصر بعد الإيمان بالله إعدادُ ما يمكن من القوة المادية والمعنوية؛ قال - تعالى -: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]، ومن ذلك إخلاص النية لله، وأن يكون الجهاد في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله؛ قال - تعالى -: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].

 

ومن أسباب النصر: الثبات عند لقاء العدو وعدم الفرار والانهزام، وكثرة ذكر الله - تعالى - وطاعة الله ورسوله، وعدم التنازُع والاختلاف المؤدِّي إلى الفشل؛ قال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِين} [الأنفال: 45- 46]، ومن ذلك استعمال الصبر؛ قال - تعالى -: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]، وقال صلى الله عليه وسلم: (( {واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا} ))[2]، ومن ذلك إظهار الشجاعة والإقدام والتضحية بالنفس والنفيس، والعلم بأن الموت واحد لا بُدَّ منه وإن تعددت أسبابُه.

 

قال الشاعر:

وَمَنْ لَمْ يَمُتْ بِالسَّيْفِ مَاتَ بِغَيْرِهِ  **  تَعَدَّدَتِ الْأَسْبَابُ وَالْمَوْتُ وَاحِدُ 

 

ومن أسباب النصر: المشاورةُ بين المسؤولين في تعبئة الجيوش وإعدادها، وطريقة الدفاع والهجوم، ونحو ذلك؛ قال - تعالى - في وصف عباده المؤمنين: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، وقال لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]، وكان صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الحروب وغيرها، مع كمال عقله وسداد رأيه؛ امتثالاً لأمر الله، وتطييبًا لنفوس أصحابه.

 

ومن أسباب النصر: تولية قيادة الجيوش لِمَن عُرِفوا بالإخلاص لله ولدينه، ثم لحكوماتهم وشعوبهم وأوطانهم، ثم إرشادهم وتوجيههم لما يجب أن يعملوه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميرًا على جيش أو سرية، أوصاه بتقوى الله ومَن معه من المسلمين خيرًا؛ فقال: (( «اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا مَن كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا وليدًا» ))[3].

 

ومن آخر آيات القتال نزولاً قوله - تعالى -: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5]، وقد قال العلماء في كل آية ذُكِر فيها الصفح والإعراض عن المشركين: إنها منسوخة بهذه الآية، فبسبب الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيل الله والإخلاص له في القول والاعتقاد والعمل - نال سلفنا الصالح العزَّ والنصر والتمكين في الأرض، ودانت لهم الدنيا، وذلت لهم الأمم، وذلك حين كان الإيمان متمكِّنًا في قلوبهم، ومتوغِّلاً في نفوسهم، وعرفوا أن في الجهاد إحدى الحُسْنَيين: إمَّا النصر والغنيمة، وإما الشهادة في سبيل الله ثم الجنة، حتى قال قائلهم:

فَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا  **  عَلَى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ فِي اللهِ مَصْرَعِي 

 

فنصرهم الله لَمَّا نصروه، وأعزَّهم وخذل عدوهم حين أطاعوه؛ {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 172- 173].

 

أمَّا أسباب الهزيمة، فهي بعكس ذلك كلِّه، فمن أعظمها: عدم الإيمان بالله، والشرك به، والتوكُّل والاعتماد على غيره في حصول النصر، والله - تعالى - هو الكافي لعباده؛ {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]؛ أي: كافيه.

 

ومن أسباب الهزيمة: معصية الله ورسوله بترك الواجبات وعمل الفواحش والمحرَّمات؛ كترك الصلاة، ومنع الزكاة، وشرب الخمور، وارتكاب جريمة الزنا؛ قال الله - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:20- 21]، وقال - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [المجادلة: 5]، والآيات في هذا المعنى كثيرة، وهي تدل على هزيمة مَن عصى الله ورسوله في مخالفة الأوامر وارتكاب المنهيَّات والزواجر، علاوة على عذاب الله الأُخْرَوِي الذي هو أشدُّ وأبقى، فإن الجزاء من جنس العمل، والله - تعالى - يبتلي بالسراء والضراء، والشدَّة والرخاء، والعسر واليسر؛ لينظر مَن يشكر فيزيده من فضله، أو يكفر فينتقم منه بعدله، وجاء في الأثر أن الله - تعالى - يقول: إذا عصاني مَنْ يعرفني، سلَّطت عليه مَن لا يعرفني، فلو استقام المسلمون على دينهم وتحكيم شريعة الله التي أنزل بها كتابه وأرسل بها رسوله، وفكَّروا في أسباب النصر فاستعملوها، وأسبابِ الهزيمة فاجتنبوها، وجاهدوا في الله حق جهاده - لانتصروا وانهزم عدوهم أمام الحق والدفاع عنه؛ {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]، {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد: 21]، ولحرَّروا أوطانهم من أيدي البُغَاة والمستعمرين؛ {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126].

 


[1] متفق عليه.

[2] رواه الإمام أحمد.

[3] رواه مسلم، والغلول: الأخذ من الغنيمة قبل قسمتها، والغدر: نقض العهد، والتمثيل: تشويه القتيل بقطع أطرافه.