الإخلاص في القول والعمل
الإخلاص أساس كل عمل، فكلما كان العمل خالصًا لله عز وجل ثقل في الميزان ولو كان قليلاً
" الأعمال المثقلة للميزان "
إن كل عمل صالح مقبول سيكون ثوابه لا شك في الميزان، فإما يضيف لك حسنات، أو يمحو عنك سيئات أو كلاهما، وكل ذلك يثقل الميزان، ولكن هناك بعض الأعمال التي خصها الله عز وجل ونبيه صلى الله عليه وسلم بالذكر بأن لها أجرًا عظيمًا أو ثقيلاً في الميزان، أو أنها من أحب الأعمال إلى الله تعالى، ولعلها ذكرت بتلك الألفاظ ليفطن لها النبيه ويبادر إليها الحريص، وسأذكر بعضها وأشهرها لنسابق إليها فنثقل ميزاننا ونخفف كربنا:
" العمل الأول: الإخلاص في القول والعمل "
الإخلاص أساس كل عمل، فكلما كان العمل خالصًا لله عز وجل ثقل في الميزان ولو كان قليلاً؛ وإذا كان مشوبًا بالرياء والسمعة خف في الميزان، وقد يصير هباءً منثورًا ولو كان كثيرًا، فالأعمال تتفاضل عند الله تبارك وتعالى بتفاضل ما في القلوب من إخلاص وحب لله عز وجل.
فعن أبي أمامة الباهلي رضى الله عنه قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا شيء له» فأعادها ثلاث مرات يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا شيء له»ثم قال: «إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصًا وَابْتُغِيَ به وجهه» » (حسنه الألباني في صحيح الجامع).
قال عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى: رب عمل صغير تعظمه النية، ورب عمل كبير تصغره النية (جامع العلوم والحكم).
وقال ميمون بن مهران رحمه الله تعالى: إن أعمالكم قليلة؛ فأخلصوا هذا القليل (حلية الأولياء وطبقات الأصفياء).
والأدلة في مضاعفة ثواب المخلصين كثيرة معلومة والتي منها ما يلي:
[أ] عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ««سبق درهم مائة ألف درهم» قال: وكيف؟ قال: «كان لرجل درهمان فتصدق بأحدهما، وانطلق رجل إلى عُرْضِ ماله فأخذ منه مائة ألف درهم فتصدق بها» » (حسنه الألباني في صحيح الجامع).
فلماذا كان درهم الفقير أثقل في الميزان؟ لأنه ملك درهمين اثنين وليس ألفين كي نقول أنه يملك ما يكفيه، والدرهمان أصلاً لا يسدان حاجة، فكيف لو تصدق بأحدهما؟ ولماذا تصدق وهو محتاج؟ قد يكون بسبب إخلاصه لله عز وجل وإيثاره لمن هو أفقر منه.
ولذلك جاء عن أبي هريرة رضى الله عنه أنه قال «: يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال: «جهد المقل، وابدأ بمن تعول» » (وصححه الألباني في صحيح) فهو قليل المال ومع ذلك فقد تصدق قدر طاقته.
أخي الحبيب لقد أعجبني منظر عامل بنجالي " من بنغلاديش " حينما رأيته بعد خروجه من المسجد بتصدق بريال على امرأة مسكينة كانت تقف بطفلها عند باب المسجد، وهذا العامل لا يتجاوز راتبه في بلادنا عن أربعمائة ريال، ومع ذلك فقد بادر إلى الصدقة، فما نسبة رياله إلى دخله يا ترى؟.
[ب] وعن صهيب الرومي رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ««صلاة الرجل تطوع حيث لا يراه الناس تعدل صلاته على أعين الناس خمسًا وعشرين» » (صححه الألباني في صحيح الجامع).
[ج] وعن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ««الصلاة في الجماعة تعدل خمسًا وعشرين صلاة، فإذا صلاها في فلاة من الأرض فأتم ركوعها وسجودها بلغت خمسين صلاة»» (صححه الألباني في صحيح الجامع).
فلماذا صلى وهو بمفرده؟ ولم يذكره بالصلاة أذان مؤذن ولا صديق مرافق؟ ولماذا أتم الركوع والسجود وصلى مطمئنًا؟ لأنه أخلص عمله لله عز وجل واستشعر مراقبته له، فكان له الجزاء المضاعف.
ولذلك قال سلمة بن دينار رحمه الله تعالى: اكتم حسناتك أشد مما تكتم سيئاتك (حلية الأولياء وطبقات الأصفياء).
[د] ومنها قول الشهادتين بإخلاص لحديث صاحب البطاقة سابق الذكر، قال ابن تيمية رحمه الله تعالى معلقًا على هذا الحديث: هذا حال من قالها بإخلاص وصدق كما قالها هذا الشخص، وإلا فأهل الكبائر الذين دخلوا النار كلهم كانوا يقولون: لا إله إلا الله، ولم يترجح قولهم على سيئاتهم كما ترجح قول صاحب البطاقة.اهـ (منهاج السنة النبوية لابن تيمية، ومدارج السالكين لابن القيم).
[هـ] وعن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم ««بينما كلب يطيف بِرِكِيَّة – أي يحوم ببئر – كاد يقتله العطش إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها فسقته فغفر لها به»» (رواه البخاري واللفظ له، ومسلم).
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: هذه سقت الكلب بإيمان خالص فغفر لها؛ وإلا فليس كل من سقت كلبًا يغفر لها. اهـ. (منهاج السنة النبوية لابن تيمية، ومدارج السالكين لابن القيم).
قال ابن القيم رحمه الله تعالى كلامًا جميلاً عن أهمية اقتران محبة الله عز وجل بالقلب مع قول كلمة التوحيد باللسان، حيث قال:
وليس التوحيد مجرد إقرار العبد بأنه لا خالق إلا الله، وأن الله رب كل شيء ومليكه، كما كان عباد الأصنام مقرين بذلك وهم مشركون، بل التوحيد يتضمن من محبة الله، والخضوع له والذل، وكمال الانقياد لطاعته، وإخلاص العبادة له، وإرادة وجهه الأعلى بجميع الأقوال والأعمال، والمنع والعطاء والحب والبغض ما يحول بين صاحبه وبين الأسباب الداعية إلى المعاصي والإصرار عليها، ومن عرف هذا عرف قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله» وقوله: «لا يدخل النار من قال: لا إله إلا الله» وما جاء من هذا الضرب من الأحاديث التي أشكلت على كثير من الناس حتى ظنها بعضهم منسوخة، وظنها بعضهم قيلت قبل ورود الأوامر والنواهي واستقرار الشرع، وحملها بعضهم على نار المشركين والكفار، وأول بعضهم الدخول بالخلود، وقال: المعنى لا يدخلها خالد ونحو ذلك من التأويلات المستكرهة، والشارع صلوات الله وسلامه عليه لم يجعل ذلك حاصلاً بمجرد قول اللسان فقط، فإن هذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام، فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم وهم تحت الجاحدين لها في الدرك الأسفل من النار، فلا بد من قول القلب وقول اللسان، وقول القلب يتضمن من معرفتها والتصديق بها ومعرفة حقيقة ما تضمنته من النفي والإثبات ومعرفة حقيقة الإلهية المنفية عن غير الله المختصة به التي يستحيل ثبوتها لغيره، وقيام هذا المعنى بالقلب علمًا ومعرفة ويقينًا وحالاً ما يوجب تحريم قائلها على النار، وكل قول رتب الشارع ما رتب عليه من الثواب، فإنما هو القول التام كقوله: «من قال في يوم: سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت عنه خطاياه أو غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر» وليس هذا مرتبًا على مجرد قول اللسان، نعم من قالها بلسانه غافلاً عن معناها معرضًا عن تدبرها ولم يواطئ قلبه لسانه ولا عرف قدرها وحقيقتها راجيًا مع ذلك ثوابها؛ حطت من خطاياه بحسب ما في قلبه، فإن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة، وبينهما في التفاضل كما بين السماء والأرض، والرجلان يكون مقامهما في الصف واحدًا وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض، وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة وتطيش السجلات فلا يعذب، ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار بذنوبه، ولكن السر الذي ثقل بطاقة ذلك الرجل وطاشت لأجله السجلات؛ لما لم يحصل لغيره من أرباب البطاقات، انفردت بطاقته بالثقل والرزانة، وإذا أردت زيادة الإيضاح لهذا المعنى، فانظر إلى ذكر من قلبه ملآن بمحبتك، وذكر من هو معرض عنك غافل ساه مشغول بغيرك، قد انجذبت دواعي قلبه إلى محبة غيرك وإيثاره عليك، هل يكون ذكرهما واحدًا؟ أو هل يكون ولداك اللذان هما بهذه المثابة أو عبداك أو زوجتاك عندك سواء؟ وتأمل ما قام بقلب قاتل المائة من حقائق الإيمان التي لم تشغله عند السياق عن السير إلى القرية، وحملته وهو في تلك الحال على أن جعل ينوء بصدره، ويعالج سكرات الموت، فهذا أمر آخر وإيمان آخر، ولا جرم أن أُلْحِقَ بالقرية الصالحة وَجُعِلَ من أهلها، وقريب من هذا ما قام بقلب البغي التي رأت ذلك الكلب، وقد اشتد به العطش يأكل الثرى، فقام بقلبها ذلك الوقت مع عدم الآلة، وعدم المعين، وعدم من ترائيه بعملها، ما حملها على أن غررت بنفسها في نزول البئر وملء الماء في خفها، ولم تعبأ بتعرضها للتلف، وحملها خفها بفيها وهو ملآن، حتى أمكنها الرقي من البئر، ثم تواضعها لهذا المخلوق الذي جرت عادة الناس بضربه، فأمسكت له الخف بيديها حتى شرب من غير أن ترجو منه جزاء ولا شكورًا، فأحرقت أنوار هذا القدر من التوحيد ما تقدم منها من البغاء فغفر لها، فهكذا الأعمال والعمال عند الله، والغافل في غفلة من هذا الإكسير الكيماوي، الذي إذا وضع منه مثقال ذرة على قناطير من ناس الأعمال قلبها ذهبًا والله المستعان..اهـ. (مدارج السالكين لابن قيم الجوزية، وتهذيب مدارج السالكين لعبد المنعم العزي).
- التصنيف: