ظهور المنكر بين الناس

منذ 2024-12-08

إنه لم يظهر المنكر في قوم قط، ثم لم يَنههم أهلُ الصلاح منهم إلا أصابَهم الله بعذابٍ من عنده، أو بأيدي مَن يشاء من عباده، ولا يزال الناس معصومين من العقوبات والنقمات ما قمَع أهلُ الباطل واستخفى فيهم بالمحارم.

كتَب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عُمَّاله، أما بعد فإنه لم يظهر المنكر في قوم قط، ثم لم يَنههم أهلُ الصلاح منهم إلا أصابَهم الله بعذابٍ من عنده، أو بأيدي مَن يشاء من عباده، ولا يزال الناس معصومين من العقوبات والنقمات ما قمَع أهلُ الباطل واستخفى فيهم بالمحارم.

 

فلا يظهر من أحد مُحرم إلا انتقموا ممن فعله، فإذا ظهرت فيهم المحارم، فلم ينههم أهل الصلاح أُنزلت العقوبات من السماء إلى الأرض، ولعل أهل الإدهان أن يَهلكوا معهم وإن كانوا مخالفين لهم، فإني لم أسمع الله تبارك وتعالى فيما نزل من كتابه عند مثلة أهلك بها أحدًا نَجَّى أحدًا من أولئك أن يكون الناهين عن المنكر.

 

ويسلِّط الله على أهل تلك المحارم إن هو لم يُصبهم بعذابٍ من عنده أو بأيدي من يشاء من عباده من الخوف والذل والنِّقم، فإنه ربما انتقم بالفاجر من الفاجر وبالظالم من الظالم، ثم صار كلا الفريقين بأعمالهما إلى النار، فنعوذ بالله أن يجعلنا ظالمين، أو يجعلنا مداهنين للظالمين.

 

وأنه قد بلغني أنه قد كثر الفجور فيكم، وأمِن الفُسَّاق في مدائنكم، وجاهروا بالمحارم بأمر لا يحب الله من فعله ولا يرضى المداهنة عليه، كان لا يظهر مثله في علانية قوم يرجون لله وقارًا ويخافون منه غيرًا، وهم الأعزون الأكثرون من أهل الفجور؛ أي أكثر من أهل الفجور وأعز منهم.

 

وليس بذلك مضى أمرُ سلفكم، ولا بذلك تمت نعمة الله عليهم، بل كانوا {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ} [الفتح: 29]، {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54].


ولعمري إن من الجهاد الغلظة على محارم الله بالأيدي والألسن والمجاهدة لهم فيه، وإن كانوا الآباء والأبناء والعشائر، وإنما سبيل الله طاعته، وقد بلغني أنه بطَّأ بكثير من الناس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اتقاءُ التلاوم أن يقال فلان حسن الخلق، قليل التكلف، مُقبل على نفسه، وما جعل الله أولئك أحاسنكم أخلاقًا، بل أولئك أسؤكم أخلاقًا، وما أقبل على نفسه من كان كذلك، بل أدبر عنها، ولسلم من الكلفة لها، بل وقع فيها، وإذ رضي لنفسه من الحال غير ما أمره الله به أن يكون عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.


وقد دلت ألسنةُ كثير من الناس بآية وضعوها غير موضعها، وتأوَّلوا فيها قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]، وصدق الله تبارك وتعالى، ولا يضرنا ضلالة من ضلَّ إذا اهتدينا، ولا ينفعنا هدي من اهتدى إذا ضللنا، {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، وإن مما على أنفسنا وأنفس أولئك مما أمر الله به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يظهر لله محرمًا إلا انتقموا ممن فعله منهم، من كنتم، ومن كانوا، وقول من قال: إن لنا في أنفسنا شغلًا، ولسنا من الناس في شيء.


ولو أن أهل طاعة الله رجع رأيهم إلى ذلك، ما عمل لله بطاعة، ولا تناهوا له عن معصية، ولقهر المبطلون المحقين، فصار الناس كالأنعام، أو أضل سبيلًا، فتسلطوا على الفساق من كنتم ومن كانوا، فادفعوا بحقكم باطلهم، وببصركم عماهم، فإن الله جعل للأبرار على الفجَّار سلطانًا مبينًا، وإن لم يكونوا ولاة ولا أئمة.


من ضعف عن ذلك، فليرفعه إلى أمامه فإن ذلك من التعاون على البر والتقوى، قال الله لأهل المعاصي: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} [النحل: 45، 46].

 

ولينتهين الفجار أو ليهينهم الله بما قال: {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} [الأحزاب: 60].

 

وذكر ابن أبي الدنيا عن أنس بن مالك أنه دخل على عائشة هو ورجل آخر، فقال لها الرجل: يا أم المؤمنين، حدثينا عن الزلزلة، فقالت: إذا استباحوا الزنا، وشربوا الخمور، وضربوا بالمعازف، غار الله عز وجل في سمائه، فقال للأرض: تزلزلي بهم، فإن تابوا ونزعوا وإلا هدمها عليهم، قال: يا أم المؤمنين، أعذابًا لهم؟ قالت: بل موعظة ورحمة للمؤمنين ونكالًا وعذابًا وسخطًا على الكافرين، فقال أنس: ما سمعت حديثًا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أشد فرحًا به مني بهذا الحديث.

 

وذكر ابن أبي الدنيا حديثًا مرسلًا: أن الأرض تزلزلت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضع يده عليها، ثم قال: اسكني، فإنه لم يأن لك بعدُ، ثم التفت إلى أصحابه، فقال: «إن ربَّكم ليَستعتبكم فاعتبوه»، ثم تزلزلت بالناس على عهد عمر بن الخطاب، فقال: أيها الناس، ما كانت هذه الزلزلة إلا على شيء أحدثتموه، والذي نفسي بيده لئن عادت لا أساكنكم فيها أبدًا، وفي مناقب عمر لابن أبي الدنيا أن الأرض على عهد عمر تزلزلت فضرب يده عليها، وقال: ما لك؟ أما إنها لو كانت القيامة حدثت أخبارك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا كان يوم القيامة فليس فيها ذراع ولا شبر إلا وهو ينطق.

 

وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار: أما بعد، فإن هذا الرجف شيء يعاقب الله عز وجل به العباد، وقد كتبت إلى الأمصار أن يخرجوا في يوم كذا وكذا في شهر كذا وكذا، فمن كان عنده شيء فليتصدق به، فإن الله عز وجل يقول: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14، 15]، وقولوا كما قال آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، وقولوا كما قال يونس: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87].

 

شعرًا:

إلهي لك الحمد الذي أنت أهلُــــــــه   **   على نعم تَترى علينا سوابـــــــــغُ 

وقد عَجَزتْ عن شُكر فضلك قوتي   **   وكلُّ الورى عن شكر جودك عاجزُ 


اللهم يا عالم الخفيات ويا سامع الأصوات، ويا باعث الأموات ويا مجيب الدعوات، ويا قاضي الحاجات، يا خالق الأرض والسماوات، أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولا يولَد، ولم يكن له كفوًا أحد، الوهاب الذي لا يبخل والحليم الذي لا يعجل، لا راد لأمرك، ولا معقِّب لحكمك، نَسألك أن تغفر ذنوبنا وتنوِّر قلوبنا، وتُثبت محبتك في قلوبنا، وتسكننا دار كرامتك، إنك على كلِّ شيءٍ قديرٌ، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.

_______________________________________
الكاتب: الشيخ عبدالعزيز السلمان