رطوبة فرْج المرأة وانتقاض الوضوء
هل التِهابات المرأة تنقُض الوضوء؟
أنا أتأخر حين رجوعي من المنزل، وأتأخر وقت الصلاة وأنا طاهرة، ولديَّ التِهابات، ما حكم الصلاة؟ هل أتوضَّأ؟
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فقد اختلف العلماء في رطوبة فرج المرأة - الإفرازات - والتي غالبًا ما تكون مصاحبة للالتِهابات، وتكثر عند بعض النساء أيام الحمل، فذهب أبو حنيفة، والحنابِلة، إلى طهارتها، وهو الرَّاجح من قولَي أهل العلم، وذهب المالكيَّة - وهي رواية عن أحمد - إلى نجاستها.
قال المرداوي في "الإنصاف": " قوله: (وفي رطوبة فرج المرأة روايتان)، أطلقهما في المذهب، ومسبوك الذهب، والكافي، والنظم، وابن تميم ذكره في باب الاستنجاء، والرعايتين، والحاويين، والفائق وغيرهم.
إحداهما: هو طاهر، وهو الصحيح من المذهب مطلقًا، صححه في التصحيح، وَالْمُصَنِّفُ، والشارح، والمجد، وصاحب مجمع البحرين، وابن منجا، وابن عبيدان في شروحهم وغيرهم، وجزم به في الوجيز، والمنور، والمنتخب، وقدمه في الفروع والمحرر.
والرواية الثانية: هي نجسة،اختارها أبو إسحاق بن شاقلا، وجزم به في الإفادات، وقدمه ابن رزين في شرحه". اهـ.
وقال ابن قدامة في "المغني": "وفي رطوبة فرج المرأة احتمالان: أحدهما: أنه نجس؛ لأنه في الفرج لا يخلق منه الولد، أشبه المذي.
والثاني: طهارته؛ لأن عائشة كانت تفرك المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو من جماع؛ فإنه ما احتلم نبي قط، وهو يلاقي رطوبة الفرج، ولأننا لو حكمنا بنجاسة فرج المرأة، لحكمنا بنجاسة منيها؛ لأنه يخرج من فرجها، فيتنجس برطوبته". اهـ.
وقال العثيمين في "الشرح الممتع على زاد المستقنع": "(ورطوبة فرج المرأة)، أي: طاهرٌ، واختُلف في هذه المسألة.
فقال بعض العلماء: إنها نجسة وتنجس الثياب إذا أصابتها، وعللوا: بأن جميع ما خرج من السبيل، فالأصل فيه النجاسة، إلا ما قام الدليل على طهارته، وفي هذا القول من الحرج والمشقة ما لا يعلمه إلا الله - تعالى - خصوصًا من ابتليت به من النساء؛ لأن هذه الرطوبة ليست عامة لكل امرأة، فبعض النساء عندها رطوبة بالغة تخرج وتسيل، وبعض النساء تكون عندها في أيام الحمل، ولاسيما في الشهور الأخيرة منه، وبعض النساء لا تكون عندها أبدًا.
وقال بعض العلماء: إنها طاهرة، وهو المذهب، ولا يقال: بأنها نجسة ويعفى عنها؛ لأننا إذا قلنا ذلك احتجنا إلى دليل على ذلك، فإن قيل: إن الدليل المشقة، وربما يكون ذلك، وتكون هي نجسة، ولكن للمشقة من التحرز عنها يعفى عن يسيرها كالدم، وشِبهُه مما يشق التحرز منه.
ولكن الصواب الأول، وهو أنها طاهرة، ولبيان ذلك نقول: إن الفرج له مجريان:
الأول: مجرى مسلك الذكر، وهذا يتصل بالرحم، ولا علاقة له بمجاري البول ولا بالمثانة، ويخرج من أسفل مجرى البول.
الثاني: مجرى البول، وهذا يتصل بالمثانة ويخرج من أعلى الفرج.
فإذا كانت هذه الرطوبة ناتجة عن استرخاء المثانة وخرجت من مجرى البول، فهي نجسة، وحكمها حكم سلس البول.
وإذا كانت من مسلك الذكر، فهي طاهرة؛ لأنها ليست من فضلات الطعام والشراب، فليست بولاً، والأصل عدم النجاسة حتى يقوم الدليل على ذلك؛ ولأنه لا يلزمه إذا جامع أهله أن يغسل ذكره ولا ثيابه إذا تلوثت به، ولو كانت نجسة للزم من ذلك أن يَنجُس المني؛ لأنه يتلوث بها".
قال الشيخ: "وهل تنقض هذه الرطوبة الوضوء؟ أما ما خرج من مسلك البول، فهو ينقض الوضوء، لأن الظاهر أنه من المثانة، وأما ما خرج من مسلك الذكر: فالجمهور: أنه ينقض الوضوء وقال ابن حزم: لا ينقض الوُضُوء وقال: بأنه ليس بولاً ولا مذياً، ومن قال بالنَّقض فعليه الدَّليل، بل هو كالخارج من بقية البدن من الفضلات الأخرى. ولم يذكر بذلك قائلاً ممن سبقه.
والقول بنقض الوُضُوء بها أحوط". اهـ. موضع الغرض منه.
والظاهر أن تلك الإفرازات طاهرة ولا تنجس المحلّ ولا الثِّياب، كما أنها لا تنقض الوضوء؛ لأنَّ من توضَّأ وضوءًا صحيحًا؛ فقد تمَّت طهارته بيقين، ولا ينتقل عنْه إلاَّ بنصٍّ صحيح؛ وقد ذكر البخاري في "صحيحه" - تعليقًا - عن أبي هُرَيْرة قال: (لا وضوء إلاَّ من حدثٍ).
قال أبو محمد بن حزم في "المحلى" - بعد ما ذكر أنَّ رطوبة فرْج المرأة لا تنقض الوضوء -: "بُرهان إسقاطِنا الوضوءَ من كل ما ذكرنا: هو أنَّه لم يأتِ قرآنٌ ولا سنَّة ولا إجماع بإيجاب وضوءٍ في شيء من ذلك، ولا شرع الله - تعالى - على أحدٍ من الإنس والجنِّ؛ إلاَّ من أحد هذه الوجوه، وما عداها فباطل، ولا شرع إلاَّ ما أوجبه الله - تبارك وتعالى - وأتانا به رسولُه - صلَّى الله عليه وسلَّم". اهـ.
وكان الصحابة في عهده صلى الله عليه وسلم يجامع أحدهم زوجته، ولا ينزل، ولابد أن يلامس ذكره ثيابه، فلم يكونوا يؤمرون بغسل ذلك أو التوقي منه.
قال الشَّوكاني في "نيل الأوطار" - تعليقًا على حديث عن معاوية - قال: قلتُ لأم حبيبة: هل كان يصلِّي النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الثَّوب الذي يجامع فيه؟ قالت: "نعم، إذا لم يكُنْ فيه أذى"؛ رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
ومن فوائدهِما - كما قال ابن رسلان في "شرح السنن" -: "طهارة رطوبة فرْج المرأة؛ لأنَّه لم يذكر هنا أنَّه كان يغسل ثوبَه من الجِماع قبل أن يصلي؛ لو غسله لنُقل، ومن المعلوم أنَّ الذَّكر يخرج وعليْه رطوبة من فرْج المرأة". اهـ.
وعليه؛ فالظَّاهر أنَّ الإفرازاتِ النِّسائيةَ لا تنقُض الوضوء؛ لعدم ورود ما يدلُّ على نجاسة الخارج، أو على أنَّه ناقض للوضوء، ويؤيِّدُه أنَّ هذا الأمر مما تعمُّ به البلوى، سواءٌ في عصرِنا أم في عصر النبوَّة، فلو كان نجسًا أو ناقضًا، لبيَّنه النبيُّ بيانًا عامًّا غير خاف، وأيضًا فإنَّه إفراز طبيعي من الرحِم، ومن ثم يكثر أيَّامَ الحمل،،
والله أعلم.
خالد عبد المنعم الرفاعي
يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام
- التصنيف:
- المصدر: