يتساءل عن الحكمة من عدم ذكر أعداد ركعات الفرائض في القرآن الكريم
ما الحكمة من ذكر الله تعالى في القرآن أن السموات والأرض خُلقن في ستة أيام، ثم نأتي إلى عدد الصلوات في اليوم والليلة فلا نجد ذكراً ولا رقماً يحددها في القرآن، أيهما أكثر أهمية للعباد أن يعرفوه، عدد أيام خلق السموات والأرض أم عدد الصلوات؟
الحمد لله تعالى
أولا:
ليس كل شيء مذكور في القرآن أهم من كل شيء ثبت في السنة النبوية، لم يقل بذلك أحد من العلماء، ولم يرد دليل في الكتاب أو في السنة يدل عليه، بل قد واقع خلاف ذلك كثيرا، فقد ورد في القرآن الكريم ذكر كثير من الأمور التفصيلية لأحوال الخلق وقصص الماضين، كذكر الكلب الذي رافق أصحاب الكهف، وذكر كلام النملة في قصة نبي الله تعالى سليمان عليه الصلاة والسلام، وبعض الأحكام الفرعية في سورة "النور" وغيرها، كآداب الأطفال في الاستئذان قبل الدخول على والديهم، وشيء من آداب الطعام والشراب، ونحوها من الأمور التي لا نشك في فضلها وأهميتها، ولكن ما ثبت في السنة النبوية من تفصيل صفة الصلاة ومقادير الزكاة وشروطها وصفة الحج ونحوها أعظم شأنا، وأعلى مقصدا في أحكام الشريعة الإسلامية.
ولهذا فإن ذكر عدد أيام خلق السماوات والأرض في القرآن الكريم لا يدل بوجه من الوجوه على أهميته الزائدة على أعداد الصلوات المفروضات في اليوم والليلة، والقرآن الكريم لم يخصص لبيان تفاصيل أركان الدين الأساسية والسنة النبوية للأمور الثانوية، بل كل منهما وحي فيه أعلى شعب الإيمان وأدناها.
ثانيا:
هذا يدلك على أن الشريعة الإسلامية لا تفرق في الدلالات التشريعية والأولويات الدينية بين ما ورد في القرآن الكريم، وما ثبت في السنة النبوية، خاصة حين يكون ثبوته في السنة النبوية متواترا أو مستفيضا بحيث لم يقع في ثبوته خلاف، كما هو الحال في ذكر أعداد ركعات الصلاة وبيان أركانها وصفتها الإجمالية.
لذلك لا بد أن يستقر في عقل وقلب كل مسلم أن السنة - وهي ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير - هي أحد قسمي الوحي الإلهي الذي أُنزِل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقسم الآخر من الوحي هو القرآن الكريم؛ فقد قال الله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِن هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىْ} [النجم:3-4]، وعن المقدام بن معد يكرب رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ».
رواه الترمذي (2664) وقال: حسن غريب من هذا الوجه، وحسنه الألباني في (السلسلة الصحيحة:2870).
لذلك يقول حسان بن عطية رحمه الله تعالى: "كان جبريل عليه الصلاة والسلام ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن" انتهى من (الكفاية :ص/12) للخطيب.
وقد بوب الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى في كتابه العظيم (الكفاية في علم الرواية:ص/8) بقوله: "باب ما جاء في التسوية بين حكم كتاب الله تعالى، وحكم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في وجوب العمل، ولزوم التكليف" انتهى.
وكلها أدلة تبين للسائل أن المسلم لا يفرق بين الثابت في الكتاب العظيم، وبين الثابت في السنة النبوية، بشرط أن يكون ثبوته في السنة ظاهرا لا مطعن فيه.
ثالثا:
السؤال عن الحكمة كثيرا ما يغفل معه السائل أن ما نراه من أحداث يومية في هذه الدنيا، وما نعيشه من تفاصيل الخلق التي لا تعد ولا تحصى، وما ورد في الكتاب والسنة من مئات آلاف النصوص التي تتحدث عن الشريعة والخليقة وعن الله جلَ جلاله، كلها يمكن أن تلحقها بسؤال عن الحكمة منها، بل يمكن أن تسأل عن كل مسكوت عنه ما الحكمة في السكوت عنه، ولك أن تتصور بعد ذلك القدر الذي يمكن أن يستوعبه العقل البشري من هذا السؤال، بل لك أن تتصور مقدار الخلل الذي يلحق العقل من هذا الإلحاح في سؤال الحكمة إلى درجة التكلف.
وذلك لا يعني نفي الحكمة عن جميع ما سبق، ولكنه يعني أن القدر الذي سينكشف للإنسان منها قدر ضئيل في جانب تلك المنظومة الهائلة من الحكم المتسلسلة، وهي ضآلة متجذرة تابعة لصغر عقل الإنسان في جانب هذا الكون الفسيح، وفي جانب كثرة الأحداث والأسباب والمسببات والعلاقات بينها، وفي جانب عظمة الخالق جل وعلا، فلا يجدر حينئذ بالإنسان سوى أن يدرك حدود عقله، فلا يهدر طاقته إلا فيما ينفعه في دنياه وآخرته.
يقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
"رأيت في العقل نوع منازعة للتطلع إلى معرفة جميع حكم الحق عز وجل في حكمه! فربما لم يتبين له بعضها - مثل النقض بعد البناء- فيقف متحيرًا! وربما انتهز الشيطان تلك الفرصة، فوسوس إليه: أين الحكمة من هذا؟!
فقلت له: احذر أن تخدع يا مسكين! فإنه قد ثبت عندك بالدليل القاطع -لما رأيت من إتقان الصنائع- مبلغ حكمة الصانع؛ فإن خفي عليك بعض الحكم، فلضعف إدراكك.
فمن أنت حتى تطلع بضعفك على جميع حكمه؟! يكفيك الجُمَل! وإياك إياك أن تتعرض لما يخفي عليك، فإنك بعض موضوعاته، وذرة من مصنوعاته فكيف تتحكم على من صدرت عنه؟!
ثم قد ثبتت عندك حكمته في حكمه وملكه، فأعمل آلتك على قدر قوتك في مطالعة ما يمكن من الحكم، فإنه سيورثك الدهش وغمض عما يخفى عليك، فحقيق بذي البصر الضعيف ألا يقاوي نور الشمس" انتهى من (صيد الخاطر:ص/156).
ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى:
" تبارك الله رب العالمين وأحكم الحاكمين ذو الحكمة البالغة والنعم السابغة الذي وصلت حكمته إلى حيث وصلت قدرته وله في كل شيء حكمة باهرة، كما أن له فيه قدرة قاهرة، وهدايات، إنما ذكرنا منه قطرة من بحر، وإلا فعقول البشر أعجز وأضعف وأقصر من أن تحيط بكمال حكمته في شيء من خلقه" انتهى من (شفاء العليل:ص/239).
رابعا:
لعل من أعظم الحكم عن سكوت القرآن الكريم عن ذكر أعداد ركعات الصلوات المفروضة في اليوم والليلة، أن يثبت لعلماء الشريعة وأتباعها أهمية السنة النبوية، وأنها القسم الثاني من الوحي الذي نزل على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، لتكون علامة قاطعة مفحمة لجميع من يدعوه الشيطان للتشكيك في السنة النبوية، أو الطعن في حجيتها.
روى الخطيب البغدادي في (الكفاية:ص/15) عن الحسن: "أن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه، كان جالسا ومعه أصحابه فقال رجل من القوم: لا تحدثونا إلا بالقرآن، قال: فقال له: ادنه، فدنا، فقال: أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنت تجد فيه صلاة الظهر أربعا، وصلاة العصر أربعا، والمغرب ثلاثا، تقرأ في اثنتين، أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنت تجد الطواف بالبيت سبعا، والطواف بالصفا والمروة،ثم قال: أي قوم؛ خذوا عنا؛ فإنكم والله إلا تفعلوا لتضلن" انتهى.
وفي (الموسوعة الفقهية الكويتية:1 / 49 - 51 ) كلام نفيس ننقله للفائدة:
تنقسم مسائل الفقه من حيث إدراك حكمة التشريع فيه أو عدم إدراكها إلى قسمين:
أولهما: أحكام معقولة المعنى، وقد تسمى أحكاما معللة، وهي تلك الأحكام التي تدرك حكمة تشريعها، إما للتنصيص على هذه الحكمة، أو يسر استنباطها.
وهذه المسائل هي الأكثر فيما شرع الله سبحانه وتعالى، حيث: لم يمتحنا بما تعيا العقول به حرصا علينا فلم نرتب ولم نهم وذلك كتشريع الصلاة والزكاة والصيام والحج في الجملة، وكتشريع إيجاب المهر في النكاح، والعدة في الطلاق والوفاة، ووجوب النفقة للزوجة والأولاد والأقارب، وكتشريع الطلاق عندما تتعقد الحياة الزوجية . . . إلى آلاف المسائل الفقهية.
وثانيهما: أحكام تعبدية، وهي تلك الأحكام التي لا تدرك فيها المناسبة بين الفعل والحكم المرتب عليه، وذلك كعدد الصلوات وعدد الركعات وكأكثر أعمال الحج.
ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أن هذه الأحكام قليلة بالنسبة إلى الأحكام المعقولة المعنى. وتشريع هذه الأحكام التعبدية إنما يراد به اختبار العبد هل هو مؤمن حقا؟
ومما ينبغي أن يعلم في هذا المقام أن الشريعة في أصولها وفروعها لم تأت بما ترفضه العقول، ولكنها قد تأتي بما لا تدركه العقول، وشتان بين الأمرين، فالإنسان إذا اقتنع - عقليا - بأن الله موجود، وأنه حكيم، وأنه المستحق وحده للربوبية دون غيره، واقتنع - عقليا - بما شاهد من المعجزات والأدلة - بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم المبلغ عنه فإنه بذلك قد أقر لله سبحانه وتعالى بالحاكمية والربوبية، وأقر على نفسه بالعبودية، فإذا ما أمر بأمر، أو نهي عن شيء، فقال: لا أمتثل حتى أعرف الحكمة فيما أمرت به أو نهيت عنه ، يكون قد كذب نفسه في دعوى أنه مؤمن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن للعقول حدا ينتهي إليه إدراكها، كما أن للحواس حدا تقف عنده لا تتجاوزه.
وما مثل المتمرد على أحكام الله تعالى التعبدية إلا كمثل مريض ذهب إلى طبيب موثوق بعلمه وأمانته، فوصف له أنواعا من الأدوية، بعضها قبل الأكل وبعضها أثناءه وبعضها بعده مختلفة المقادير، فقال للطبيب: لا أتعاطى دواءك حتى تبين لي الحكمة في كون هذا قبل الطعام وهذا بعده، وهذا أثناءه ، ولماذا تفاوتت الجرعات قلة وكثرة؟ فهل هذا المريض واثق - حقا - بطبيبه؟ فكذلك من يدعي الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ثم يتمرد على الأحكام التي لا يدرك حكمتها، إذ المؤمن الحق إذا أمر بأمر أو نهي عنه يقول سمعت وأطعت، ولا سيما بعد أن بينا أنه ليس هناك أحكام ترفضها العقول السليمة، فعدم العلم بالشيء ليس دليلا على نفيه، فكم من أحكام خفيت علينا حكمتها فيما مضى ثم انكشف لنا ما فيها من حكمة بالغة، فقد كان خافيا على كثير من الناس حكمة تحريم لحم الخنزير، ثم تبين لنا ما يحمله هذا الحيوان الخبيث من أمراض وصفات خبيثة أراد الله سبحانه وتعالى أن يحمي منها المجتمع الإسلامي، ومثل ذلك يقال في الأمر بغسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب سبع مرات إحداهن بالتراب . . إلى غير ذلك من الأحكام التي تكشف الأيام عن سر تشريعها وإن كانت خافية علينا الآن.
نرجو أن يكون الجواب قد وقع على محل التساؤل بدقة.
والله تعالى أعلى وأعلم.