آمال وأشجان بين يدي رمضان

منذ 2012-07-18

هذه أبوابُ الجنة قد فُتِحتْ، وتلكم الشياطينُ قد سُلسِلَتْ؛ وهذه المساجد قد ازدانتْ، والنفحاتُ قد عبقتْ، والرحماتُ قد تنزَّلتْ. فطوبَى لمن كان في هذا الشهر من العتقاء؛ أولئك هم السعداء.


- أيها الأحبابُ: نحنُ الآنَ في خواتيم شعبان؛ وإنْ هو إلا يومٌ أو يومان حتى يحلَّ ركبُ رمضان. فقد اقترب اللقاء بعد غيابٍ دام عاماً كاملاً، وقبل أن يرحل فيغيب عنّا من جديدٍ عاماً كاملاً.

ها نحنُ على أعتابِ رمضانَ بحمد اللهِ عز وجل فلا ندري أخي هل نراه بعد عامِنا هذا؟ أم تُرانا لا نُدرِكه؛ فنتحسَّر على ذلك، كما قيل:

ولَيْسَتْ عَشِيَّاتُ الحِمَى بِرَواجِعٍ *** إليك ولَكِنْ خَلِّ عَيْنَيْك تَدْمَعا


- أيها المسلمون: هذه أبوابُ الجنة قد فُتِحتْ، وتلكم الشياطينُ قد سُلسِلَتْ؛ وهذه المساجد قد ازدانتْ، والنفحاتُ قد عبقتْ، والرحماتُ قد تنزَّلتْ. فطوبَى لمن كان في هذا الشهر من العتقاء؛ أولئك هم السعداء.

- أخي: مَنْ لك بشهرٍ، هو راحةُ العقلِ والقلب، وواحةُ الفِكْرِ والذِّكر؟ وأنَّى لك بعد رمضان بشهرٍ فيه الرحمة والمغفرة والعتق من النار؟ ورحم الله ابنَ رجب حيث قال: "شهرُ رمضان شهرٌ أولُه رحمة، وأوسطُهُ مغفرةٌ، وآخرُهُ عتقٌ من النار". روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث سلمان الفارسي أخرَّجه ابنُ خزيمة في صحيحه، ورُوي عنه أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرَّجه ابنُ أبي الدنيا وغيرُه.

والشهر كلُّهُ شهرُ رحمةٍ ومغفرةٍ وعتقٍ من النار؛ ولهذا في الحديث الصحيح «إنه تُفتَح أبوابُ الرحمة»، وفي الترمذي وغيره: «إنّ لله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة»؛ ولكن الأغلب على أولِه الرحمة، وهي للمحسنين المتقين، قال الله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]، وقال الله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156]؛ فيُفاضُ على المتقين في أول الشهر خِلَعُ الرحمة والرضوان، ويُعامل أهل الإحسانِ بالفضل والإحسان.

وأما أوسطُ الشهر فالأغلب عليه المغفرة؛ فيُغفَر فيه للصائمين وإن ارتكبوا بعض الذنوب الصغائر؛ فلا يمنعهم من المغفرة، كما قال الله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} [الرعد: 6]، وأما آخرُ الشهر فيُعتق فيه من النار مَنْ أوْبَقَتْهُ الأوزارُ واستوجَبَ النارَ بالذنوبِ الكبار"[1].

- أخي المسلم: هذا موسمٌ تُرعَى فيه الفرائضُ، وتُحيَى فيه النوافل، وتُؤدَّى فيه الأمانات، وتُشهَد الصلوات، وتُعمَّرُ فيه المساجد، ويُعظَّم القرآن، وينشط أهلُ الكسلِ ويتشبَّهون بأهلِ الفضل والإحسان، كما قال القحطاني:

وصِيامُنا رمضانَ فرضٌ واجِبٌ *** وقِيامُنا المسنونُ في رمضانِ
إنَّ التـراوِحَ راحـةٌ في ليلِهِ *** ونشاطُ كلِّ عُوَيْجِزٍ كسلانِ [2].


- أخي الحبيب: ليس هذا الشهر كسائر الشهور؛ فلا يفوتَنَّك خيرُه وفضلُهُ؛ فقد وعد اللهُ عليه الجنة وما أدراك ما الجنة. فيا سَعْدَ مَن صامه بهذه النيّةِ وقامه. كما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدَّم من ذنبِه» [3].

- أخي المسلم: هذا موسمُ المحاسبة والمراجعة والحياءِ من الله عز وجل، ومن أشدِّ الناسِ حرماناً في هذا الشهر من يُعرضُ عن القرآن ويستمع إلى المعازف، من يهجر المساجد ويعكف على دورِ اللهوِ والغفلةِ، من يصحب الفساق والفجارَ ويترك الصالحين الأخيار.

- يا من أسْرَفَ طولَ العامِ على نفسِهِ: هذا شهرُ الانعتاقِ من الذنوب؛ فأدرِكْ نفسَك قبل مجيءِ أجلِك. فإنَّ السّعيدَ الموفَّقَ مَنْ غَسَلَ في رمضان ذنوبَه وأوزارَه، وأصلح عُيوبه، وعاد منكسِراً ذليلاً إلى ربِّهِ؛ يرجو رحمتَه ويخاف عذابَه؛ فلسانُ حالِه:

أنا العبدُ الذي كسب الذّنوبا *** وصَدَّتـْهُ الأماني أن يتوبا
أنا الـعـبد المفرِّط ضاع عُمري *** فلـم أَرْعَ الشبيبةَ والمشيبا
فيا أسَفَى على عُمرٍ تَقَضَّى *** ولم أكْسِبْ بِهِ إلاّ الذنوبا
ويا حُزنَاه مِن حَشْرِي ونَشْرِي *** بِيَومٍ يـَجْعل الوِلْدانَ شِيبا
ويا خجلاه من قُبْحِ اكتسابي *** إذا ما أبْدَتِ الصُّحُفُ العُيوبا


- أيها المسلمون: هذا الشهر درسٌ من الزهد، كما قال ابن رجب: "قال بعضُ السلف: الدنيا كلُّها شهرُ صيام المتقين، يصومون فيه عن الشهوات المحرمات؛ فإذا جاءهم الموتُ فقد انقضى شهرُ صيامهم واستهلوا عيد فطرهم:

وقد صمتُ عن لذّاتِ دهري كلِّها *** ويوم لقاكم ذاك فطرُ صِيامي


مَنْ صام اليومَ عن شهواتِهِ أفطرَ عليها بعد مماتِهِ؛ ومن تعجَّلَ ما حرم عليه قبل مماتِهِ عُوقِبَ بحرمانِهِ في الآخرة وفواته؛ وشاهدُ ذلك قولُهُ تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من شرب الخمرَ في الدنيا لم يشربْها في الآخرة، ومن لبس الحريرَ في الدنيا لم يلبسْهُ في الآخرة».

أنتَ في دارِ شتاتِكْ *** فتأهَّـبْ لشتاتِكْ.
واجعلْ الدنيا كيومٍ *** صُمتُهُ عن شهواتِكْ.
ولْيكـنْ فِطْرُكَ عند *** اللـهِ في يومِ وفاتِكْ[4]


- أيها الأحباب: إنَّ رمضان ينقضي في طرفة عين؛ فما إن يأتي يومُ الشكِّ حتى يتلوه يومُ العيد، فرمضانُ وَمضةٌ تضيء؛ ولكنها سرعان ما تنقضي بين الإقبالِ والوداع؛ فَلْيكن صيامُك إيماناً واحتساباً، ولا يَكوننَّ جهلاً وتفريطاً، كما قيل:

رأيتُك تَدَّعِي رمضانَ دَعْوَى *** وأنتَ نظيرُ يومِ الشَّكِّ فيهِ[5]


- أخي المسلم: تذَكَّرْ أنَّ "مَنْ رُحِمَ في رمضان فهو المرحوم، ومن حُرِمَ خيرَه فهو المحروم، ومن لم يتزوَّدْ لمعادِهِ فيه فهو مَلُوم. يا مَن طالتْ غَيبتُهُ عنَّا. قد قَرُبتْ أيامُ المصالحة، يا مَن دامت خَسارتُهُ قد أقبَلتْ أيامُ التجارةِ الرابحة؛ مَنْ لم يربحْ في هذا الشهر ففي أيِّ وقتٍ يربح؟ مَنْ لم يقربْ فيهِ مِن مولاه فهو على بُعْدِهِ لا يبرح".

أُناسٌ أعْرَضُوا عنَّا *** بلا جُرْمٍ ولا مَعْنَى
أساؤوا ظنَّهم فِينا *** فهلاَّ أحْسَنُوا الظَّنَّا
فإنْ عادُوا لنا عُدْنا *** وإنْ خانُوا فما خُنَّا
وإنْ كانوا قد استغنَوْا *** فإنَّا عنْـهُمُ أغْنَى[6]


محمد عمر دولة

------------------
[1] لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف لابن رجب ص 237. دار ابن حزم بيروت. ط1. 1414 هـ.
[2] نونية القحطاني ص 29-30. مطبعة سفير الرياض. ط4. 12420 هـ.
[3] فتح الباري 4/608-609.
[4] لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف لابن رجب ص 164.
[5] البيت من مفردات ابن الرومي. الديوان 7/266 وما بعد. دار الجيل بيروت. ط1. 1418 هـ.
[6] لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف لابن رجب ص 165-166.

 
  • 3
  • 0
  • 3,400

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً