أيها الحاج، هل عرفتَ مكانةَ يوم عرفه؟!

منذ 2012-10-23

لقد فضل الله بعض الأيام والشهور على بعض، فقيل أن خير الأيام عند اللّه يومُ النحر، وهو يومُ الحج الأكبر كما في (السنن) عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أَفْضَلُ الأيَّامِ عِنْدَ اللَهِ يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ القَرِّ».


بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد.....

لقد فضل الله بعض الأيام والشهور على بعض، فقيل أن خير الأيام عند اللّه يومُ النحر، وهو يومُ الحج الأكبر كما في (السنن) عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أَفْضَلُ الأيَّامِ عِنْدَ اللَهِ يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ القَرِّ»، (فمن اليوم الثامن إلى الثالث عشر كلها لها أسماء، فالثامن يوم التروية، والتاسع يوم عرفة، والعاشر يوم النحر، والحادي عشر يوم القر، والثاني عشر يوم النفر الأول، والثالث عشر يوم النفر الثاني). وقيل: يومُ عرفة أفضلُ منه، وهذا هو المعروف عند أصحاب الشافعي، قالوا: لأنه يومُ الحج الأكبر، وصيامُه يكفر سنتين، ومَا مِنْ يَوْمٍ يَعْتِقُ اللَّهُ فِيهِ الرِّقابَ أَكثَرَ مِنهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، ولأنه سبحانه وتعالى يَدْنُو فِيهِ مِنْ عِبَادِه، ثُمَّ يُبَاهِي مَلاَئِكَتَه بِأَهْلِ الموقف.

والصواب القول الأول ...... وفي (سنن أبي داود) بأصح إسناد أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «يوم الْحَجِّ الأكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ»، وكذلك قال أبو هريرة، وجماعةٌ من الصحابة، ويومُ عرفة مقدِّمة ليوم النَّحر بين يديه، فإن فيه يكونُ الوقوفُ، والتضرعُ، والتوبةُ، والابتهالُ، والاستقالةُ، ثم يومَ النَّحر وتكون الوفادةُ والزيارة، ولهذا سمي طوافُه طوافَ الزيارة، لأنهم قد طهروا من ذنوبهم يوم عرفة، ثم أذن لهم ربُّهم يوم النَّحر في زيارته، والدخولِ عليه إلى بيته، ولهذا كان فيه ذبحُ القرابين، وحلقُ الرؤوس، ورميُ الجمار، ومعظمُ أفعال الحج، وعملُ يوم عرفة كالطهور والاغتسال بين يدي هذا اليوم.

فإن قيل: فأيهما أفضلُ: يوم الجمعة، أو يوم عرفة؟ فقد روى ابن حبان في (صحيحه) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ وَلاَ تَغْرُبُ عَلَى يَوْمٍ أَفْضَلَ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ»، وفيه أيضاً حديث أوس بن أوس: «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْس يَوْمُ الجُمْعَةِ..... » والصوابُ أن يوم الجمعة أفضلُ أيام الأسبوع، ويومَ عرفة ويوم النَّحر أفضلُ أيام العام، وكذلك ليلةُ القدر، وليلة الجمعة، ولهذا كان لوقفة الجمعة يومَ عرفة (يعني لو وافق يوم عرفه يوم جمعه) مزية على سائر الأيام من وجوه متعدّدة:

أحدها: اجتماعُ اليومين اللذين هما أفضلُ الأيام.
الثاني: أنه اليومُ الذي فيه ساعة محققة الإِجابة، وأكثر الأقوال أنها آخر ساعة بعد العصر وأهل الموقف كلُّهم إذ ذاك واقفون للدعاء والتضرع.
الثالث: موافقتُه ليوم وقفة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.
الرَّابع: أن فيه اجتماعَ الخلائق مِن أقطار الأرض للخطبة وصلاة الجمعة، ويُوافق ذلك اجتماعَ أهل عرفة يومَ عرفة بعرفة، فيحصُل مِن اجتماع المسلمين في مساجدهم وموقفهم من الدعاء والتضرع ما لا يحصُل في يوم سواه.
الخامس: أن يوم الجمعة يومُ عيد، ويومَ عرفة يومُ عيد لأهل عرفة.
السادس: أنه موافق ليوم إكمال اللّه تعالى دينَه لعباده المؤمنين، وإتمامِ نعمته عليهم، كما ثبت في صحيح البخاري عن طارق بن شهاب قال: «جاء يهوديٌ إلى عمرَ بنِ الخطاب فقال: يَا أَمِيرَ المُؤمِنِين آيَةٌ تَقْرَؤونَهَا في كِتَابِكُمْ لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ اليَهُودِ نَزَلَتْ وَنَعْلَمُ ذَلِكَ اليَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، لاتَّخَذْنَاهُ عِيداً، قَالَ: أيُ آَيَةٍ؟ قَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة: 3]، فَقَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ: إِنِّي لأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيه، وَالمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ، وَنَحْنُ وَاقِفُونَ مَعَهُ بِعَرَفَةَ».
السابع: أنه موافق ليوم الجمع الأكبر، والموقفِ الأعظم يومِ القيامة، فإن القيامة تقومُ يومَ الجمعة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرَاً إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ» (مسلم كتاب الجمعه – باب فضل يوم الجمعه).
الثامن: أن الطاعةَ الواقِعَة مِن المسلمين يومَ الجُمعة، وليلةَ الجمعة، أكثر منها في سائر الأيام، حتى إن أكثرَ أهل الفجور يَحترِمون يوم الجمعة وليلته.
التاسع: أنه موافق ليوم المزيد في الجنة، وهو اليومُ الذي يُجمَعُ فيه أهلُ الجنة في وادٍ أَفْيحَ، ويُنْصَبُ لهم مَنَابِرُ مِن لؤلؤ، ومنابِرُ من ذهب، ومنابرُ من زَبَرْجَدٍ وياقوت على كُثبَانِ المِسك، فينظرون إلى ربِّهم تبارك وتعالى، ويتجلى لهم، فيرونه عِياناً.
العاشر: أنه يدنو الرّبُّ تبارك وتعالى عشيةَ يومِ عرفة مِن أهل الموقف، ثم يُباهي بهم الملائكة فيقول: مَا أَرَادَ هؤُلاءِ، أُشْهِدُكُم أنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُم، وتحصلُ مع دنوه منهم تبارك وتعالى ساعةُ الإِجابة التي لاَ يَرُدُّ فيها سائل يسأل خيراً فيقربُون منه بدعائه والتضرع إليه في تلك الساعة، ويقرُب منهم تعالى نوعين من القُرب، أحدهما: قربُ الإِجابة المحققة في تلك الساعة، والثاني: قربه الخاص من أهل عرفة، ومباهاتُه بهم ملائكته. فبهذه الوجوه وغيرها فُضِّلَتْ وقفةُ يومِ الجمعة على غيرها.
وأمّا ما استفاض على ألسنة العوام بأنها تعدل ثنتين وسبعين حجة، فباطل لا أصل له عن رسول صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من الصحابة والتابعين والله أعلم.

فيوم عرفه ولو لم يوافق يوم جمعه فهو من أفضل أيام الدهر ولو قلنا -وهو الصحيح- أن يوم النحر هو خير الأيام فإن الحاج يتقلب في الخيرين يوم عرفه ويوم النحر. فيوم عرفة من الأيام الفاضلة، تجاب فيه الدعوات، وتقال العثرات، ويباهي الله فيه الملائكة بأهل عرفات، وهو يوم عظَّم الله أمره، ورفع على الأيام قدره، وهو يوم إكمال الدين وإتمام النعمة، ويوم مغفرة الذنوب والعتق من النيران.... نسأل الله أن يعتق رقابنا من النار في هذا اليوم العظيم. فمما يبين فضل يوم عرفه -خاصة لأهل الموقف- أمور كثيرة منها:

*إنه يوم إكمال الدين وإتمام النعمة:
أخرج البخاري عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ قَالَ: «لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا قَالَ أَيُّ آيَةٍ قَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، قَالَ عُمَرُ قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ» (البخاري كتاب الايمان).

*أنه يوم عيد لأهل الموقف خاصة ولعموم المسلمين:
أخرج الترمذي عَنْ مُوسَى بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ} (الترمذي كتاب الصوم.... ‏(‏صحيح‏)‏ انظر حديث رقم‏:‏ 8192 في صحيح الجامع).‏

*إنه يوم أقسم الله به:
فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اليَوْمُ المَوْعُودُ: يَوْمُ القِيَامَةِ، والْيَوْمُ المَشْهود: هو يَومُ عَرَفَة، وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ، وَلاَ غَرَبَتْ عَلَى أَفْضَلَ مِن يَومِ الجُمُعَةِ، فِيهِ سَاعَةٌ لاَ يُوافِقُهَا عَبْدٌ مُؤْمِنِّ يَدْعُو اللَّهَ فيهَا بخَير إلاَّ اسْتَجَابَ لَهُ، أَوْ يَسْتَعِيذُهُ منْ شَرٍّ إِلاَّ أعَاذَ مِنْهُ» (رواه الترمذي وحسنه الألباني... انظر الصحيحة رقم 1502).

* أن صيامه يكفر سنتين:
فعَنْ حَرْمَلَةَ بْنِ إِيَاسٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ مَاضِيَةً وَمُسْتَقْبَلَةً وَصَوْمُ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ سَنَةً مَاضِيَةً» (رواه الجماعة إلا البخاري - قال الألباني في "إرواء الغليل" 4/111 - صحيح) . وهذا إنما يستحب لغير الحاج، أما الحاج فلا يسن له صيام يوم عرفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك صومه، وروي عنه أنه نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة.
قال في بدائع الفوائد - (ج 5 / ص 315): إن قيل لم كان عاشوراء يكفر سنة ويوم عرفة يكفر سنتين؟ قيل فيه وجهان:
أحدهما: أن يوم عرفة في شهر حرام وقبله شهر حرام وبعده شهر حرام بخلاف عاشوراء.
الثاني: أن صوم يوم عرفة من خصائص شرعنا بخلاف عاشوراء فضوعف ببركات المصطفى صلى الله عليه وسلم والله أعلم.

* أنه يوم مغفرة الذنوب والعتق من النار والمباهاة بأهل الموقف:
فعن عَائِشَةُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ» (مسلم. كتاب الحج).

** هديه صلى الله عليه وسلم يوم عرفه:
قال ابن القيم في زاد المعاد: فلما فرغ من صلاته، ركب حتى أتى الموقفَ، فوقف في ذيل الجبل عند الصَّخَراتِ، واستقبل القِبْلة، وجعل حَبْلَ المُشاة بين يديه، وكان على بعيره، فأخذَ في الدُّعاء والتضرُّع والابتهال إلى غروب الشمس، وأمر النَّاس أن يرفعُوا عن بطن عُرَنَةَ، وأخبر أن عرفة لا تختص بموقفه ذلك، بل قال: «وقَفْتُ هاهنا وعَرَفَةُ كُلُّها مَوْقِفٌ». وكان في دعائه رافعاً يديه إلى صدره كاستطعام المسكين، وأخبرهم أنَّ خَيْرَ الدُّعَاء دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ.... وذكر من دعائه صلى الله عليه وسلم في الموقف: «اللَّهُمَ لَكَ الحَمْدُ كالَّذِي نَقُولُ وخَيْراً مِمَّا نقُولُ، اللَّهُمَّ لَكَ صَلاتي وَنُسُكي، ومَحْيَايَ، ومَمَاتِي، وَإليكَ مَآبي، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَوَسْوَسَةِ الصَّدْرِ، وَشَتاتِ الأمْرِ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تِجِئ به الرِّيحُ» (ذكره الترمذي). ومما ذُكِرَ مِن دُعائه هناك: «اللَّهُمَّ تَسْمَعُ كَلامي، وتَرَى مَكَاني، وتَعْلَمُ سرِّي وعَلانيتي، لا يخفى علَيْكَ شَئٌ مِنْ أَمْري، أَنا البَائسُ الفَقيرُ، المُسْتَغِيثُ المُسْتَجيرُ، وَالوَجلُ المُشفِقُ، المقِرُّ المعترِفُ بِذُنُوبي، أَسْأَلكَ مَسْألةَ المِسْكين، وأبْتَهِلُ إليْكَ ابْتهالَ المُذْنِبِ الذَّلِيلِ، وَأَدْعُوكَ دُعَاءَ الخَائِفِ الضرِيرِ، مَنْ خَضَعَتْ لَكَ رَقَبَتُهُ، وفَاضَتْ لَكَ عَيْنَاهُ، وذلَّ جَسَدُهُ، ورَغِمَ أَنْفُهُ لَكَ، اللَّهُمَّ لا تَجْعلني بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِياً، وكُن بي رَؤُوفاً رحيماً، يا خيْرَ المَسْؤُولين، ويَا خَيْرَ المُعْطِينَ» (ذكره الطبراني). وذكر الإمام أحمد: من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جَدِّه قال: «كان أكثرُ دُعاءِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَرَفة: لا إله إلاَّ اللَّهُ وحدَهْ لا شرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحمدُ، بِيَدِهِ الخَيْرُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شئ قَدِير».

وأرسل إلى الناس أن يكونوا على مشاعرهم، ويقفوا بها، فإنها مِن إرث أبيهم إبراهيم وهنالك أقبل ناسٌ من أهل نَجْدٍ، فسألوه عن الحجِّ، فقال: «الحَجُّ عَرَفَةُ، مَن جَاء قَبْلَ صَلاَةِ الصُّبْحِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ، تَمَّ حَجُّهُ، أيَّامُ مِنَى ثَلاثَةٌ، فَمَنْ تَعَجَّلَ في يَوْمَيْن، فلا إثْمَ عَلَيْهِ، ومَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عليه» (رواه أبوداود والنسائي والترمذي - وقال الألباني في الأرواء صحيح).
* فائدة:
ومعنى "الحج عرفه"... قالوا:
في المنتقى -شرح الموطأ- (ج 1 / ص 196): "رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْحَجُّ عَرَفَةُ» لَمَّا كَانَ الْحَجُّ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِعَرَفَةَ".
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 18 / ص 55): "«الْحَجّ عَرَفَة» أَيْ مُعْظَم الْحَجّ وَرُكْنه الْأَكْبَر".
وفي عون المعبود - (ج 4 / ص 337) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: "يُرِيد بِهِ مُعْظَم الْحَجّ وَهُوَ الْوُقُوف لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُخَاف عَلَيْهِ الْفَوَات فَأَمَّا طَوَاف الزِّيَارَة فَلَا يُخْشَى فَوَاته وَهَذَا كَقَوْلِهِ «الْحَجّ عَرَفَة» أَيْ مُعْظَم الْحَجّ هُوَ الْوُقُوف.
وفي تحفة الأحوذي - (ج 2 / ص 435): "«الْحَجُّ عَرَفَةُ» أَيْ الْحَجُّ الصَّحِيحُ حَجُّ مِنْ أَدْرَكَ يَوْمَ عَرَفَةَ، قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ". وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ عَبْدُ السَّلَامِ: "تَقْدِيرُهُ إِدْرَاكُ الْحَجِّ وُقُوفُ عَرَفَةَ: وَقَالَ الْقَارِي فِي الْمِرْقَاةِ: "أَيْ مِلَاكُ الْحَجِّ وَمُعْظَمُ أَرْكَانِهِ وُقُوفُ عَرَفَةَ لِأَنَّهُ يَفُوتُ بِفَوَاتِهِ".
وفي شرح سنن النسائي - (ج 4 / ص 334): "«الْحَجّ عَرَفَة»، قِيلَ التَّقْدِير مُعَظَّم الْحَجّ وُقُوف يَوْم عَرَفَة وَقِيلَ إِدْرَاك الْحَجّ إِدْرَاك وُقُوف يَوْم عَرَفَة وَالْمَقْصُود أَنَّ إِدْرَاك الْحَجّ يَتَوَقَّف عَلَى إِدْرَاك الْوُقُوف بِعَرَفَة".
وفي حاشية السندي على ابن ماجه - (ج 6 / ص 82): "«الْحَجّ عَرَفَة»، قِيلَ التَّقْدِير مُعْظَم الْحَجّ وُقُوف يَوْم عَرَفَة وَقِيلَ إِدْرَاك الْحَجّ إِدْرَاكه وُقُوف يَوْم عَرَفَة وَالْمَقْصُود أَنَّ إِدْرَاك الْحَجّ يَتَوَقَّف عَلَى إِدْرَاك الْوُقُوف بِعَرَفَة وَأَنَّ مَنْ أَدْرَكَهُ فَقَدْ أَمَّنَ حَجّه مِنْ الْفَوَات".
وفي فيض القدير - (ج 3 / ص 539): "«الحج عرفة» أي معظمه أو ملاكه الوقوف بها لفوت الحج بفوته ذكره البيضاوي...... الحج عرفة أي هو الأصل والباقي تابع".
وفي عمدة القاري شرح صحيح البخاري - للعيني الحنفي - (ج 15 / ص 322) "قوله: «الحج عرفة» على معنى أن الوقوف هو المهم من أفعاله لكون الحج يفوت بفواته وكذلك قوله يوم النحر يوم الحج الأكبر بمعنى أن أكثر أفعال الحج من الرمي والحلق والطواف فيه".

قلت هذا وغيره كثير يبين فضل يوم عرفه لأهل الموقف وعِظَم مكانته في الحج وأنه الأصل وباقي النسك وأركان الحج تابع له.

وقيل: «ما رؤي الشيطان في يوم هو أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه يوم عرفه» (أخرجه ابن مالك عن إبراهيم بن أبي عيلة عن طلحة بن عبد الله بن كريز مرسلا).

وكان يقول صلى الله عليه وسلم : «يا أيها الناس، عليكم السكينة، فإن البر ليس بالإيضاع» أي: ليس بالإسراع ... وذلك حين أفاض من عرفات.

ومما يفوت كثير من الحجيج في عرفات دوام التلبية مع الذكر والدعاء بلا كف ولا انقطاع لأنها خير ساعات الحج وأأمل حالات الحاج في العفو والمغفرة وكفارة السيئات، ولا يتصور أن عبداً أدرك من عرفات والموقف فيه مثل هذه الأمور ثم هو يفعل مثل ما يفعله كثير من الجهال المحرومين، الذين يردون الماء العذب الزلال وهم على مشارف الهلاك من شدة الظمأ ثم يعودون أشد ظمأً وهلاكاً والعياذ بالله، فمن ضيع عرفات فهو لكل الحج أضيع نسأل الله السلامة والعافية... ومن هنا ينبغي أن تعلم أنه يجب أن يكون حالك بين خوف صادق ورجاء محمود كما كان حال السلف الصالح.
والخوف الصادق: هو الذي يحول بين صاحبه وبين حرمات الله تعالى وحدوده، فإذا زاد عن ذلك خيف منه اليأس والقنوط.
والرجاء المحمود: هو رجاء عبد عمل بطاعة الله على نور وبصيرة من الله، فهو راج لثواب الله، أو عبد أذنب ذنباً ثم تاب منه ورجع إلى الله، فهو راج لمغفرته وعفوه.
فينبغي عليك أخي الحاج أن تجمع في هذا الموقف العظيم وفي هذا اليوم المبارك بين الأمرين: الخوف والرجاء، فتخاف من عقاب الله وعذابه، وترجو مغفرته وثوابه، وتؤمل في فيض رحماته أن يكون لك منها وفيها أكبر نصيب وألا تكون من المحرومين... والعياذ بالله تعالى.

فهنيئاً لمن وقف بعرفة فغفر له وعفى عنه..... وعندئذ.... هنيئاً لك أخي الحاج، يا من رزقك الله الوقوف بعرفة بجوار قوم يجأرون إلى الله بقلوب محترقة ودموع مستبقة، فكم فيهم من خائف أزعجه الخوف وأقلقه، ومحب ألهبه الشوق وأحرقه، وراج أحسن الظن بوعد الله وصدقه، وتائب أخلص لله توبة صادقة، وهارب لجأ إلى باب الله ورحمته، فكم هنالك من مستوجب للنار أنقذه الله وأعتقه، ومن أثقلِ الأوزار فكه وأطلقه، وحينئذ يطلع عليهم أرحم الرحماء، ويباهي بجمعهم أهل السماء، فعن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي مَلَائِكَتَهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِأَهْلِ عَرَفَةَ فَيَقُولُ انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا».

ثم أعلم أخي الحاج أنه قد جاء في الأثر:
«أما خروجك من بيتك تؤم البيت الحرام فإن لك بكل وطأة تطؤها راحلتك يكتبُ اللهُ لك بها حسنة ويمحو عنك بها سيئة، وأما وقوفك بعرفة فإن الله عز و جل ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة فيقول: "هؤلاء عبادي جاءوني شعثا غبرا من كل فج عميق يرجون رحمتي ويخافون عذابي ولم يروني فكيف لو رأوني؟ فلو كان عليك مثل رملُ عالج (موضعٌ بالبادية) أو مثل أيام الدنيا أو مثل قِطر السماء ذنوباً غسلها الله عنك، وأما رميك الجمار فإنه مدخور لك، وأما حلقك رأسك فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة فإذا طفت بالبيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك» (أخرجه الطبراني عن ابن عمر‏.‏ وقال الألباني‏ (‏حسن‏)‏ انظر حديث رقم‏:‏ 1360 في صحيح الجامع).‏‌

هذا وبالله التوفيق وعليه السداد والرشاد وصل الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

جمعه ورتبه راجي عفو ربه الغفور:
د. السيد العربي بن كمال
 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

السيد العربي بن كمال

للشيخ العديد من الأنشطة الدعوية والدروس العلمية في مساجد القاهرة

  • 6
  • 0
  • 22,649

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً